في أعقاب التطورات الحاصلة في الأشهر الأخيرة على الحدود الإسرائيلية مع قطاع غزة وما تخللها من خطوات إسرائيلية عسكرية متكررة شملت غارات جوية تدميرية وجرائم قتل جماعي طالت العديد من المؤسسات والبنى التحتية في القطاع وأوقعت مئات الشهداء الفلسطينيين، في ظل استمرار الحصار الإسرائيلي الشامل ضد القطاع وأهله، تجددت
النقاشات السياسية والأمنية في داخل إسرائيل حول خلفيات السياسة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، دوافعها وأهدافها، وخصوصا حول نقطة الانطلاق التي تعتمدها إسرائيل الرسمية في سياستها هذه، والمتمثلة في "تفضيل الإبقاء على سيطرة حركة حماس على القطاع، عل أية خيارات أخرى".
تقوم "فرضية العمل" الإسرائيلية هذه ـ كما يوضح ليئور أكرمان، المسؤول السابق في "جهاز الأمن العام" الإسرائيلي (الشاباك) ـ على فكرة جوهرية مؤداها أنه "من الأفضل لإسرائيل استمرار حركة حماس في السيطرة على قطاع غزة وإدارة شؤونه"، لأن من شأن ذلك ضمان تحقيق هدفين مركزيين اثنين هما: الحيلولة دون صعود "قوى أسوأ من حماس وأكثر تطرفا منها بكثير وسطرتها على مقاليد الأمور في قطاع غزة"، من جهة، و"منع السلطة الفلسطينية من تشكيل جبهة واحدة وموحدة، توحد الضفة الغربية وقطاع غزة، في وجه دولة إسرائيل"، مما يعزز الموقف الإسرائيلي الرافض لإقامة دولة فلسطينية موحدة تشمل مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة معاً، من جهة أخرى.
لفحص مدى صحة "فرضية العمل" هذه، جدواها، مدى ملاءمتها للواقع ومدى فاعليتها في خدمة المصالح الإسرائيلية على المدى البعيد، يقترح أكرمان، الذي يعمل اليوم "محللا لشؤون الاستخبارات، الإسلام والإرهاب"، في مقالة له بعنوان "المعضلة الإسرائيلية في قطاع غزة" نُشرت في العدد الأخير من مجلة "إزرائيل ديفينس"، العودة إلى طرح سؤالين أساسيين: الأول ـ ما هي دوافع حركة حماس؟ ما هي مصادر قوتها وما هي وجهتها؟ والثاني ـ ما هي الأسباب التي تدفع حركة حماس إلى شن موجات من العنف والإرهاب ضد إسرائيل، كل بضع سنوات"؟
يعود أكرمان إلى "ميثاق حماس" الذي تأسست الحركة على أساسه، في العام 1988، والذي يتضمن "إيديولوجية الحركة ورؤيتها"، فيقول إن هذا الميثاق يشمل 36 مادة، تحدد المادة الثامنة منها "شعار حماس المركزي" وهو: "الله غايتها، والرسول قدوتها، والقرآن دستورها، والجهاد سبيلها، والموت في سبيل الله أسمى أمانيها". ويرى أن هذه المادة "توضح، بجلاء، الطريق الوحيدة التي تعتبرها الحركة صحيحة ومناسبة لتحقيق أهدافها"، مضيفا أن "الميثاق يوضح أن حركة حماس تعتبر نفسها إحدى أذرع حركة الإخوان المسلمين" وأن "موقفها تجاه دولة إسرائيل واضح ولا يقبل التأويل"، إذ أن "أرض إسرائيل، التي يسميها الميثاق "أرض فلسطين"، هي أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، لا يصح التفريط بها أو بجزء منها أو التنازل عنها أو عن جزء منها... إذا وطئ العدو أرض المسلمين فقد صار جهاده والتصدي له فرض عين على كل مسلم ومسلمة".
من هنا ـ يضيف أكرمان ـ فإن الاستيطان اليهودي "في أي منطقة من أرض إسرائيل" هو، كما يكرر "الميثاق" مراراً، "غزو غير شرعي"، بل إن "مجرد وجود دولة إسرائيل، بحكم يهوديتها، يشكل تحديا للإسلام وللمسلمين"، ما يعني أن "الميثاق يجسد، من أوله إلى آخره، منظورا لا ساميّا متطرفا ويحمّل اليهود المسؤولية عن أي حدث تاريخي سلبي، عن أي حرب وعن أية مؤامرة حصلت في الماضي ـ من الثورة الفرنسية والحربين العالميتين وحتى تأسيس عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة"، كما يقول.
يشدد أكرمان على أن "حماس لم تكن وليست معنية، منذ بداياتها وحتى اليوم، بدولة فلسطينية في حد ذاتها" وأن "حماس لا تتعامل مع القضايا السياسية أو مع الحدود السياسية"، بل هي "لا ترى ـ في منظورها الديني والإيديولوجي ـ سوى هدف واحد فقط لا غير: إنشاء خلافة إسلامية شاملة وموحدة على كامل منطقة الشرق الأوسط، تعمل وفق مبادئ الدين الإسلامي فقط". ومن هنا ـ يضيف ـ فإن "أية محاولة للتعويل على تفكير براغماتي وموضوعي لدى حركة حماس أو عقد آمال بإمكانية التوصل معها إلى تسويات سياسية هي محض أوهام لا سند لها في الواقع مطلقا".
على هذا، يرى أكرمان أن "أي تصعيد يحصل في الميدان، سواء كان قتالا شاملا، عملية محدودة أو مظاهرات على الشريط الحدودي وإطلاق طائرات ورقية حارقة، هو عمل تبادر إليه حركة حماس ونشطاؤها مدفوعاً بالواقع السياسي الفلسطيني الداخلي، من جهة، وبأهداف حركة حماس البعيدة المدى، من جهة أخرى".
غير أن "الطريق المسدود الذي وصلت إليه حركة حماس خلال السنوات الأخيرة"، كما يحلل أكرمان، "سواء على صعيد الوضع الداخلي في قطاع غزة أو على صعيد العلاقة مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، على خلفية الأزمة الاقتصادية الخانقة الناجمة عن انعدام مصادر التمويل اللازمة، الحصار البحري، انعدام التعاون والتنسيق مع السلطة الفلسطينية والغليان المتصاعد في المجتمع الداخلي في قطاع غزة"، يدفع بالحركة وقادتها إلى "خوض مناورات سياسية مختلفة، من قبيل التغييرات في القيادة أو محاولة الدفع نحو صيغة من الوحدة بين سلطة حماس في قطاع غزة والسلطة الفلسطينية في رام الله"، إلا أن "جميع هذه المحاولات تبوء بالفشل في نهاية المطاف ولا تؤتي النتائج الإيجابية المرجوة"، ذلك أن "المصالح مختلفة، الرؤية مختلفة، الرغبة في حفظ القوة تفوق الحاجة إلى وضع الحلول وتطبيقها والخشية من المستقبل تسدّ الباب أمام أي استعداد لاتخاذ الإجراءات المطلوبة في الوضع الراهن". ويشير أكرمان، هنا، إلى أن "غالبية دول العالم والشرق الأوسط، باستثناء تركيا وإيران، تدير ظهورها لحركة حماس"، مما يفاقم الخطر المتمثل في المبادرة الأميركية الجديدة التي سيطرحها الرئيس دونالد ترامب قريبا، وفق التوقعات، والتي "تهدد سلطة حماس في قطاع غزة، بشكل أساسي".
حيال هذا الوضع، كما يراه أكرمان، "يصبح من الواضح تماما لحركة حماس أنه سيتعين عليها، في إطار أية تسوية سياسية قادمة، تقديم تنازلات كبيرة وبعيدة الأثر تجنّبها هذا المصير"، وهذه الخشية هي التي "تدفعها إلى التمسك بموقف ثابت في رفض ومعارضة أية عملية سياسية أو أي حل سياسي"، بل محاولة الاستعاضة عن ذلك "بمحاولات لخلق واقع نقيض، يتمثل في مزيد من التطرف، التوتير وإدامة المواجهة مع دولة إسرائيل، حتى وهي تدرك، تمام الإدراك، أن المواجهة المحدودة والقابلة للسيطرة قد تخرج عن السيطرة، بسرعة كبيرة وبصورة غير محسوبة، لتتحول إلى حرب واسعة تؤدي، في نهاية الأمر، إلى تدمير قطاع غزة مجددا".
بناء على هذا التحليل، يصل أكرمان إلى الاستنتاج بأنه "ليس ثمة أية أفضلية لإسرائيل في بقاء سلطة حماس في قطاع غزة"، وخصوصا "على ضوء حقائق أساسية"، كما يصفها، تشمل "عدم حفظ الهدوء على الشريط الحدودي مع قطاع غزة، تصاعد احتمالات اندلاع موجات من القتال الواسع كل بضع سنوات، عدم تبدل رؤية حماس وإيديولوجيتها، لا سابقا ولا في المستقبل المنظور، وبقاء التهديد على حاله"، ناهيك عن أن "إسرائيل لا تحقق أية نقاط إيجابية على المستوى الدولي في سياق صراعها مع حركة حماس في قطاع غزة".
أما الترجمة العملية لهذا الاستنتاج النظري، فينبغي أن تتجسد ـ وفق أكرمان ـ في "ضرورة انتقال إسرائيل إلى موقع المبادرة والعمل الفعلي"، من خلال "طرح ودفع أفكار وخطوات سياسية، سواء في اقتراح تسويات جزئية ومرحلية أو في تعزيز الردع وتشديد الضربات ضد حماس وسواها من التنظيمات الإرهابية وتكبيدها أضرارا لا طاقة لها بتحملها". وفي السطر الأخير، يوجز أكرمان رؤيته/ مقترحه بضرورة انتقال إسرائيل إلى "التقليل من ردات الفعل، مقابل الإكثار من المبادرة؛ التقليل من محاولات احتواء المواجهة، مقابل الإكثار من الضربات القاسية وغير التناسبية؛ التقليل من محاولات المحافظة على الهدوء، مقابل الإكثار من الخطوات الفعلية الرامية إلى ضمان الهدوء للمدى الطويل".