المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1333
  • هشام نفاع

منذ أول سطور التقرير الأخير لقسم التحقيقات مع عناصر الشرطة (فيما يلي: "ماحش"، باسمه المختصر بالعبرية) التابع لنيابة الدولة، من العام 2017، تظهر بوضوح لهجة المديح الذاتي، وترسيم الأمور على أنها بمثابة إنجازات تراكم الإنجازات. فمدير القسم، أوري كرميل، يفتتح مقدمة التقرير بلهجة مفاخرة نادرة من حيث "الجرأة" لو قلناها بلهجة مخفّفة، فيقول: "على الرغم من العواصف التي ضربت منظومة تطبيق القانون في الفترة الأخيرة، عام 2017، اليوبيل الفضي لتأسيس ماحش، فقد برز هذا القسم في العمل المهني المكثف والناجح على نحو خاص. إن تلخيص معطيات العمل السنوية يبرز نتائج جيدة جداً، ومن خلال استغلال معقول لموارد القسم".

 

هكذا يحاول التقرير وضع القارئ على درب من حرير النجاحات، على الرغم من أن القراء غير القابلين للتأثر بهذا الكلام المعسول، سوف يشيرون بالضرورة إلى الكثير من مكامن الخلل والتقاعس والتقصير، وخصوصاً إذا كانوا على علم ومعرفة بالقضايا التي عالجها ماحش، وبالذات حين تكون المعادلة هي: شرطي إسرائيلي أمام مواطن عربي.

الفصل الأول من التقرير يتحدث عن "تعزيز الثقة بماحش لدى المجموعات السكانية التي تعاني من نشاط شرطي زائد". وهو يقول إن هذا القسم بريء تماماً من أي نوع من الانحياز سواء على أساس اللون، الدين، العرق، أو القومية. ويشير – كمرجعية - إلى كتاب مكافحة العنصرية الذي نشر في العام 2016 الذي لم يصمه بـ"الانحياز". ويزعم التقرير أنه كشف خصوصاً الفجوة ما بين عمل ماحش وجودة الخدمة المهنية التي يقدمها لمن يعانون من سطوة قبضة الشرطة، وبين النظرة إلى القسم من قبل هذه المجموعات السكانية. لكنه يضيف، في صياغة اعترافية، أنه على الرغم من كونه يحقق تحت طائلة التحذير مع مئات الشرطيين سنويا، ويستنفد نسبة هامة من التحقيقات ويقدم مئات لوائح الاتهام الجنائية والتأديبية، فإن الرأي السائد لدى مجموعات السكان التي تصل الشكاوى من بينها هي أن القسم لا يقوم بما يكفي وبالتالي فإن مستوى الثقة به منخفض.

وهكذا ففي فقرة واحدة، وبضعة سطور، يقوم ماحش من جهة بتنظيف ساحته من "الانحياز" (وهو ما يجدر أن يسمى بلغة غير مغسولة: التمييز) ولكنه في الفقرة نفسها يعترف من جهة أخرى بأن منسوب الثقة فيه منخفض، وبالذات لدى المجموعات التي تكثِر من تقديم الشكاوى ضد عناصر الشرطة. أي بكلمات أخرى: المجموعات التي تتعرض لأشكال من التمييز والقمع بسبب موقعها ومكانتها قومياً واجتماعياً وطبقياً. وهنا يتابع تقرير ماحش التحدث بلغة مأخوذة من الفترة التي سادت قبل نحو نصف قرن. فهو يسمي هذا الوضع أي ذلك التناقض، "تحدياً"، ولكن حين يأتي ليتعاطى معه يتحدث عن أنه عمل في السنة الاخيرة على تعزيز العلاقات مع زعماء من بين مجموعات سكانية مختلفة، رغبة منه في تعزيز ثقة الجمهور التي يستحقها هذا القسم. عقليّة البحث عن "الوجهاء والزعماء" ما زالت معششة هنا. وهو يخبر قارئه بكثير من البهجة بأنه اختار لسنة 2018 عدداً من المجموعات السكانية كي يعزز العلاقات مع وجهائها وهي: الحريديم في القدس، "أبناء الوسط العربي الإسرائيلي" على حد تعبيره، والأوساط التي تعاني من مظاهر العنصرية مثل المجتمع الأثيوبي.

ما الذي يقوله التقرير عملياً: إن الانتظار والشعور والإدراك السائد لدى جميع تلك المجموعات والأقليات هو مجرد خطأ، سوء فهم، قصور في الوعي، ويمكن إصلاحه بمجرّد تعزيز الروابط والعلاقات مع زعماء ووجهاء. علماً بأنه لا يعرف أحد من هم مثلا زعماء الأقلية العربية الذين ينوي ماحش تقوية العلاقات معهم لكي يعملوا لديه بدور الوكيل لرفع منسوب ثقة العرب بقسم التحقيق مع الشرطة هذا، والذي لم يقدم أية لائحة إتهام ولا أية شكوى ولا أي نقد على عشرات حالات القتل والتسبب بجراح لمواطنين عرب برصاص شرطة إسرائيل، التي يفترض بماحش أن يحقق فيها! (جاء على موقع مركز "عدالة" أنه لم يتم تقديم أي شرطيّ مسؤولٍ للمحاكمة في أكثر من 55 حالة قتل لمواطنين عرب من قبل رجال الشرطة منذ العام 2000). وأبرز الملفات بالطبع، هو ملف القتل الجماعي الذي اقترفته الشرطة لشبّان عرب في أكتوبر عام 2000. وكي لا يزعم أصحاب المصلحة بأن هذا الملف قديم، نشير مباشرة إلى أن جميع حالات القتل التالية لم تقدم فيها هي الأخرى لا اتهامات ولا حتى انتقادات واقتصر الأمر على التبريرات، أي أن قسم التحقيق مع عناصر الشرطة وقف في صف عناصر الشرطة المشتبه بقيامهم بإطلاق رصاص على مواطنين – هذه هي النتيجة الفعلية.

"الشرطيون تعرّضوا لاستفزازات قاسية واضطروا لاستخدام قوة معقولة"!

على سبيل تقديم عدد من النماذج، فقط، يقول التقرير مثلا في سياق مبادرة تعزيز الثقة التي يتحدث عنها، إن الاعتداء على مظاهرات الحريديم في القدس المعارضين لتجنيدهم بشكل إجباري وبالرغم من إرادتهم في الجيش الاسرائيلي، كانت عبارة عن "احتكاك كبير ومتواصل بين السكان الحريديم وعناصر الشرطة وهو ما أدى إلى سلسلة شكاوى إلى ماحش بسبب استخدام القوة المفرطة من قبل عناصر الشرطة". ولكنه في الجملة التالية مباشرة يوفر الذريعة والمبرر لعنف الشرطة قائلا إنها "عملت في إطار واجبها للحفاظ على النظام في المدينة وتعاطت أحيانا مع أعمال شغب وألزِمَت أيضا باستخدام القوة ولم يكن من الممكن فحص ما إذا وقع استخدام مفرط وزائد للقوة، مثلما جرى الادعاء من حين إلى آخر"..

ولماذا هذا، وفقاً لماحش؟، نقتبس: "بسبب غياب التعاون وانعدام الثقة من قبل أبناء الوسط الحريدي، مما تجسد أيضا برفض تقديم إفادات ممن تم استدعاؤهم". ويروي التقرير أنه توجه إلى "شخصيات بارزة في الوسط الحريدي في القدس" وقام هؤلاء بإقناع من كانوا ضحايا أو شهودا على عنف بوليسي بتقديم إفادات. لكن التقرير لا يتحدث عن عدد الحالات التي تم فيها تجريم عناصر شرطة بالعنف المفرط، بل يتحدث عن "تحليل عدة حالات من العنف الشرطي غير المعقول وحتى تقديم عدد من الشرطيين للإجراءات الجماعية أو التأديبية". وقبلها بسطرين كان قد أعطى لنفسه تبريراً على التقاعس في التحليل الجدي لتسجيلات مصورة لحالات عنف الشرطة ضد المتظاهرين، وذلك من خلال القول إنه: "وُجد أن المقصود هو استفزازات أو توثيق لشرطيين تعرّضوا لاستفزازات قاسية واضطروا لاستخدام قوة معقولة للقيام بواجبهم"، وتم هنا إغلاق الملفات بدون دعوة أي عنصر شرطة إلى التحقيق. بكلمات أوضح يكتفي تقرير ماحش بإعطاء مبرّرات لاعتداءات الشرطة على مظاهرات الحريديم ضد تجنيدهم للجيش ويطلق في النهاية تصريحاً بأنه تم تقديم "عدة شرطيين" لمحاكمات ما. كم عددهم؟ لا يكلف نفسه عناء التدقيق.

الأمر نفسه سارٍ في حالة ما يسمى "تعزيز الثقة أمام ممثلين وقيادات في الوسط العربي – الإسرائيلي". ولكنه يتحدث هنا عن لقاءات أجراها مع ممثلي "مبادرة صندوق إبراهيم" حيث تم طرح "صعوبة المجتمع العربي في وضع الثقة بمؤسسات الدولة ومن بينها أيضا ماحش"، على حد وصفه. وقد لخّص الطرفان - وفقا للتقرير - بأنه "في خطة العمل سنة 2018 سينشئان تماساً من التعاون بين ممثلي القسم وبين ممثلي الصندوق من أجل بناء علاقات ثقة، تعزيز الروابط وكشف القسم في الوسط العربي بوسائل مختلفة"...

هذا كل ما يقوله التقرير عن تقييمه وخططه لما يسميه بناء الثقة مع الأقلية العربية. ولكن يجب الملاحظة بأنه لم يجرِ وفقا لنصّه هو أي اجتماع ولا أي لقاء ولا أي اتصال مع ممثلي الأقلية العربية المنتخبين والشرعيين. وهذا الصندوق الذي يذكره، وقد تكون النوايا كلها طيبة، لا يتمتع على الاطلاق بأية صفة تمثيلية للأقلية العربية. ولكن ماحش يقوم كما يبدو باستغلال بعض النوايا الطيبة لكي يزيد من نقاطه ويقلب الحقائق لدرجة تصل حد التشويه والمتمثلة خصوصاً في مقولة مثل: "صعوبة المجتمع العربي في وضع الثقة بمؤسسات الدولة ومن بينها أيضا ماحش"! فمعنى هذا الكلام ببساطة هو أن مؤسسات الدولة بما فيها ماحش كلها على ما يرام، وطيّبة حدّ الكمال، وتعمل بشكل سليم ولا تعاني من أية نواقص أو شوائب (أو عنصرية مثلا!) بل إن المسألة تتلخص في وتقتصر على صعوبة هؤلاء العرب بوضع ثقتهم في تلك المؤسسات!

يمكن الادعاء بأنه يصعب العثور على أية مؤسسة في نظام الحكم الاسرائيلي تبلغ بها "الجرأة" لقلب الحقائق والتنصل من المسؤولية بالدرجات التي يصلها ماحش.

أقليات تقع ضحية لعنف بوليسي منهجي وجماعي وحتى عشوائي

القاسم المشترك لتلك الأقليات أو المجتمعات التي يتحدث عنها التقرير، هو أنها تقع ضحية لعنف بوليسي منهجي وجماعي وحتى عشوائي. لن يعثر أحد على مجموعات أخرى في المجتمع الاسرائيلي تتعرض، اليوم، لعنف بوليسي من هذا النمط لا من شرقيين ولا من غربيين، ولا من غيرهم. الأمر يقتصر من ناحية استخدام العنف البوليسي على العرب وعلى الحريديم الذين يرفضون تجنيدهم للجيش وعلى الأثيوبيين لأنهم سود البشرة، والعنصرية هنا واضحة لدرجات كلاسيكية.. ولكن تقرير ماحش يبدع في توفير المبرّرات لقلة حالات محاكمة عناصر الشرطة المتهمين باستخدام العنف، وفي حالات العرب هو عنف قاتل. فهو يتحدث أن الشرطي الذي يرتكب مخالفة جنائية من الاعتداء على مواطن بغير حق، يخضع للتحقيق في ماحش. وكلما جُمعت أدلة كافية بشأنه، تصبح لدى ماحش صلاحية تقديمه للمحاكمة الجنائية إلى جانب صلاحية تقديمه لإجراءات تأديبية في الشرطة. ويدعي التقرير أن هذا "تشخيص مهني يتقنه محققو ماحش ومحاموه"، وهو عبارة عن "نظرية عمل" تنتقل من جيل إلى جيل في القسم..

ولكن كيف تتم زيادة طبقة جديدة من الديماغوجيا لتبرير التقصير الفاضح في ماحش في محاكمة شرطيين معتدين؟ يجري الأمر باستخدام هذا النوع من اللغة: إن عابر سبيل يشاهد تصويراً لشرطي يستخدم العنف ضد مواطن ليس بحوزته جميع الأدوات التي تمكن من إجراء التشخيص المهني والتمييز بين استخدام القوة بشكل قانوني، أو مخالفة أنظمة الانضباط أو المخالفة التي تجاوزت الطقس الجنائي. وليس كذلك بحوزة المذكور – والكلام لواضعي التقرير - معرفة قانونية أو خبرة مهنية. ولذلك، وخصوصاً في الملفات التي تحظى بطابع شعبي والتي يتم توثيقها في تصوير ينشر في شبكة الانترنت، تنشأ فجوة ما بين جودة القرار المهني في القسم، وبين النظرة إلى الحدث لدى الجمهور أو من قبل جهات مختلفة، "بما في ذلك خبراء قانونيون غير متمرّسون في النظرية الماحشية". هذا المصطلح "النظرية الماحشية" ليس تهكماً بل مقتبس من التقرير.. ويمكن القول هنا إن الأمور تصل درجات عبثية حين يتحدث ماحش باستعلاء عن نظريته الماحشية التي يعجز حتى خبراء قانون عن الوصول إلى أعماق كنهها.

في هذا الإطار يكثِر التقرير من الحديث عن هذه المعايير التي تستخدمها "النظرية الماحشية" للتمييز ما بين الفعل المخالف لأنظمة الانضباط، وتلك الأفعال التي تتجاوز الأسقف الجنائية، وكيف أنه تمّت بلورتها والتوصل إليها "من خلال 25 عاما من التجربة والعمل"، هذا مع أنه "هناك حاجة لإدانة ظاهرة استخدام القوة المفرطة من قبل عناصر الشرطة"، وكذلك عن أن "هناك فهماً مهنياً لكون عناصر الشرطة يعملون في أوضاع مركبة ويتم إرسالهم إلى مهمات تستوجب الاحتكاك والمواجهة مع مواطنين. ويتوجب أحيانا عليهم استخدام القوة" والخ... وبالتالي "يجب الأخذ بالاعتبار وجود هامش خطأ وفهم أن ليس كل كبوة في مسيرة الوظيفة، تبرر وضعها في خانة جنائية"..

مرة أخرى، معنى الكلام الذي تفشل لغة التقرير في إخفائه تحت أكوام التحايلات الصياغيّة، هو أن منطق العمل وأولى فرضيات "النظرية الماحشية" هما: تفهُّم العنف البوليسي حين يكون موجهاً نحو مجموعات معينة ومحدّدة في المجتمع الاسرائيلي، والتي يسميها التقرير بشدة ذكاء واضِعِيه بأسمائها: عرب، حريديم وأثيوبيون. ففي خاتمة المطاف وبعد كل الكلام عن المعايير و"النظرية الماحشية" يضطر التقرير للاعتراف بالصفعات التي تلقاها في السنة الماضية وفي تقرير مراقب الدولة بالذات.

لا يتردد هذا التقرير عن التحدث فجأة، بين فصول عمله، عن أنه احتفل بخمس وعشرين سنة على تأسيسه ويعدد قائمة الأشخاص والمتحدثين الذين حضروا "الحدث الاحتفالي واللافت للانتباه" كما يصف نفسه. ولكن في الأقسام اللاحقة مباشرة يضطر لتقديم ذرائع وتبريرات لعدد من القضايا الأبرز في السنة الأخيرة التي جرى فيها على نحو خاص استخدام القوة بل الرصاص أحياناً ضد مواطنين. وأبرزها بطبيعة الحال قضية أم الحيران (اقرأ عنها في خبر منفرد).

فيما يلي الأرقام التي يوردها تقرير ماحش عن القرارات التي اتخذها عام 2018 في الملفات التي حقق فيها: خلال 2017 اتخذت في ماحش قرارات بخصوص 641 ملفا تم فيها التحقيق مع عناصر شرطة تحت التحذير. نحو 40% من ملفات التحقيق هذه انتهت بتقديم شرطي أو أكثر لمحاكمة جنائية أي تأديبية. في العام 2017 اتخذ قرار بتقديم للمحاكمة الجنائية في 636 ملفا. في 113 ملفا تقرر أن الرد المناسب اللائق هو تقديم الشرطي المشار إليه إلى المحاكمة التأديبية. نحو 70% من الملفات التي تم التحقيق فيها تحت التحذير تم استنفادها والوصول فيها إلى الحقيقة – كما يقول.

 

المصطلحات المستخدمة:

مراقب الدولة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات