يبدي الجمهور الإسرائيلي، بوجه عام، تأييداً لفكرة حقوق الإنسان، لكنه يقصرها على مجموعات سكانية معينة فيعتبر أن هذه المجموعات يجب أن تتمتع بالحقوق، بينما ينكرها على مجموعات سكانية أخرى ويرفض حصولها عليها: أكثر من ثلاثة أرباع الجمهور في إسرائيل يرفضون المفهوم الأساسي لحقوق الإنسان، الذي مفاده أنّ لكلّ إنسان حقوقًا لا ينبغي أن تكون مشروطة بأيّ شيء - هذه هي النتيجة الأبرز التي خلص إليها استطلاع الرأي العام الذي أجرته "جمعية حقوق المواطن" في إسرائيل ونشرت تقريرا عن نتائجه، الأسبوع الماضي، تحت عنوان "حقوق الإنسان 2016: تهديدات وفرص".
وأوضح التقرير أن نتائج الاستطلاع، الذي أجري في الفترة بين نهاية أيلول ومنتصف تشرين الأول الماضيين وشمل عينة من 500 مواطن يهودي و 200 مواطن عربي، تقدم "صورة مركّبة ومثيرة للتحدي" تتمثل، أساسا، في أن "غالبية الجمهور يبدي احتراما للحقوق ورغبة في المساواة، إلا أن تطبيق الحقوق يقتصر، في نظر الكثيرين، على مجموعات معينة فقط"!
وعزا التقرير هذه النتائج إلى "الوضع المستمر للصراع السياسي والقومي والاحتلال"، مشيراً إلى أن "معارضة الحقوق تتبدى، في الأساس، في هذه الساحة"! فعلى سبيل المثال، بينما يبدي اليهودي المتوسط "انفتاحا مفاجئا بالنسبة لمجتمع المثليين والمثليات جنسياً"، يبدي ـ في الوقت نفسه ـ "انغلاقا وعدائية تجاه العرب في إسرائيل وحقوقهم"!
ورغم أن التقرير يؤكد ما في هذه النتائج من "تناقض ظاهر"، من حيث كشفها عن "مواطن ضعف المجتمع الإسرائيلي بخصوص فهم، قبول وتطبيق قيمة حقوق الإنسان" وعن "التوجهات السلبية بخصوص حقوق الإنسان في مفاهيم ومجالات ومعينة"، من جهة، إلا أنه يعتبر أن "هذا التناقض يشكل فرصة، أيضاً"، من حيث أن النتائج "تشير إلى دعم قيم إيجابية" وتكشف عن "أساس حقيقي لدعم أكبر، وهو ما يمكن أن نعمقه" من خلال "تشجيع التوجّهات الإيجابيّة القائمة، بدلاً من التركيز على مواجهة الآراء المغيظة فقط"، من جهة أخرى.
المساواة، الحقوق والواجبات
تبين نتائج الاستطلاع أن "الحقوق الاجتماعية أكثر أهمية للإسرائيليين من الحقوق السياسية". فالحق الأهمّ، في نظر الجمهور العام، هو الحقّ في العيش بكرامة (24%)، يليه الحق في المساواة بين المواطنين (22%)، ثمّ الحق في السكن (21%) والحق في الخدمات الصحية والتعليمية (20%). وبينما يرى الجمهور حلجة ملحة إلى تحسين وتعزيز الحق في الأمن التشغيلي والحق في السكن والخدمات، مثل التعليم والصحة، فهو لا يرى حاجة مماثلة إلى تعزيز الحقّ في المقاضاة العادلة (6%) والحق في حرية التعبير وفي التظاهر (4%).
ويظهر الاستطلاع أن تعزيز الحق في المساواة يتصدر قائمة اهتمامات المواطنين العرب في إسرائيل، وهو الأكثر إلحاحا (37%)، مقابل 19% فقط من المستجوبين اليهود. ويوضح التقرير أن هذا الحقّ "قد يشمل عدّة جوانب، بدءًا من المساواة في كسب الرزق، مرورًا بالمساواة في السكن، في توزيع موارد الأراضي، في التعليم وفي الصحة، وانتهاءً بالحق في المساواة السياسيّة طبعًا". كما تبين أن الحق في حرية التعبير والحقّ في التظاهر أكثر أهمية بقليل لدى العرب من اليهود (10% بين المواطنين العرب مقابل 3% فقط بين المواطنين اليهود). إلى جانب ذلك، تُعتبر المجالات الاجتماعيّة (كسب الرزق، الصحة، التعليم والسكن) بين العرب أكثر إلحاحًا من الحقوق المدنيّة (المقاضاة العادلة وحرية التعبير)، بعد الحقّ في المساواة.
وتبين نتائج الاستطلاع أن "انعدام المساواة بين اليهود والعرب في إسرائيل هو حقيقة قائمة": 65% من اليهود يعترفون بوجوده، مقابل 85% من العرب. لكن الأمر لا يقتصر على الاعتراف بواقع عدم المساواة، فقط، بل إن أكثرية واضحة من المواطنين يعتقدون أن وضع المساواة العامّ في إسرائيل يستدعي التحسين، وذلك بغضّ النظر عن الموقف السياسيّ: 92% من اليسار، 77% من المركز و66% من اليمين ـ يوافقون على أن إسرائيل يجب أن تحسّن مستوى المساواة بين مجمل مواطنيها. أما بين المواطنين العرب، فإن 86% يؤيدون الموقف القائل بضرورة تحسين مستوى المساواة.
ويشير التقرير إلى أن "أحد التفسيرات المحتملة لهذه المعطيات هو أنّ مصطلح المساواة مقبول، أو أقلّ وقعًا وتهديدًا على الأذن الإسرائيلية من مصطلح حقوق الإنسان"!
على الرغم من التأييد الجديّ لتعزيز قيمة المساواة بشكل عامّ، إلا أنّ ثمة صلة قويّة للغاية في أوساط اليهود بين الحقوق والواجبات: 82% من اليهود يوافقون على مقولة أن "مَن لا ينفّذ جميع واجباته كمواطن لا يحقّ له كامل الحقوق". في أوساط المجيبين العرب كانت النسبة أدنى، لكن لا يزال هناك 53% ممّن يعتقدون أنّه يجب اشتراط تلقي كامل الحقوق بتنفيذ كامل الواجبات. حتى في أوساط الحريديم، وافقت الأكثريّة (61%)، رغم أنّهم متّهمون أحيانًا أيضًا بأنّهم لا ينفّذون كامل الواجبات.
المساواة والحقوق في الحياة اليومية
بشكلٍ مفاجئ قليلاً، معظم مواطني إسرائيل (59%) لا يذكرون حالة واحدةً من التمييز تعرّضوا لها. ربّما تعكس هذه النتيجة تدنّي الوعي في الموضوع، الذي يجعل من الصعب على النّاس تحديد حالات كهذه. هذا المعطى صحيح أيضًا بالنسبة إلى الجمهور اليهوديّ (57%)، وبشكل مفاجئ أكثر بالنسبة إلى الجمهور العربيّ أيضًا (69%). من جهة أخرى، تعرّض في المجموع 39% لحالة واحدة من التمييز على الأقلّ بحسب الاستطلاع – نسبة عالية تدلّ على أنماط سلوكية تمسّ بقطاعات مختلفة من الجمهور في الحياة اليوميّة.
الأماكن الأساسية التي واجه فيها الأشخاص حالات تمييز هي: في مكان العمل (19%)، في زيارة لمؤسّسة عامّة (15%)، وعند القيام بمشتريات أو تلقّي خدمة ما (13%). في أوساط الجمهور اليهوديّ هناك عدّة مجموعات تشعر بالتمييز في حالات أكثر: بين اليهود من أصل روسيّ – 64%؛ بين المستوطنين – 61%؛ بين المتديّنين – 51%؛ بين اليهود الشرقيين – 46%.
يتبين من نتائج الاستطلاع أنّه حتى بعد سنوات طويلة من حكم اليمين في إسرائيل، الذي يمثّل موقف مجموعات كبيرة في أوساط المتديّنين والمستوطنين، وفي أوساط أجزاء كبيرة من الشرقيين والروس أيضا، فإنّ هذه المجموعات لا تزال تشعر بالتمييز ضدّها، مقارنةً بقطاعات سكانية أخرى مثل العلمانيين (39%) والأشكناز (35%).
كما سبق الذكر، تفضّل أكثرية الجمهور في إسرائيل إبداء مواقف متقدّمة للغاية من وجهة نظر حقوق الإنسان. لكن، ثمّة أقليّة جدية تؤيد مواقف معاكسة. هذه الأقليّة ليست اعتباطيّة، وإنّما تعكس شرائح مختلفة في داخل المجتمع. مثلاً: 30% يؤيدون الفصل بين العرب واليهود في أماكن عامّة؛ في أوساط اليمينيين، ثمّة أكثرية تبلغ 52% تؤيّد مثل هذا الفصل، وفي أوساط المتديّنين القوميين – ثلثان، وفي أوساط الحريديم، تبلغ النسبة نحو 80%؛ 44% أي نحو نصف اليهود، يؤيّدون فرض قيود على حرية التعبير في "القضايا الحسّاسة". وفي أوساط اليمين تؤيد أكثرية تبلغ نسبتها 61% فرض مثل هذه القيود. هناك نسبة مشابهة تبلغ 43% ممّن يعارضون أن يتلقى أولاد الأجانب كل ما يتلقاه الأولاد الإسرائيليون. هنا أيضًا ثمة أغلبية حاسمة في أوساط المتدينين والحريديم، لكن، مع ذلك، أكثر من ثلث العلمانيين (35%) و20% من العرب يعارضون ذلك. نحو خمس السكّان (18%) يؤيّدون تقليص بروز النساء في مناسبات عامّة من أجل مراعاة مشاعر المتديّنين، وهذا العدد متأثر في الأساس من المتدينين القوميين (37%) ومن الحريديم (أكثر من 80%).
حقوق الإنسان تحت الاحتلال العسكريّ
القضية الأساسيّة التي تبرز فيها الفجوات بين العرب واليهود وبين اليسار واليمين هي كل ما يتعلق بحقوق الإنسان في المناطق المحتلة. ففي هذا الموضوع، يرى كلّ من العرب واليهود الأمورَ على نحو مغايرٍ تمامًا. فمثلاً، في السؤال: "هل يتمّ الحفاظ على حقوق الإنسان الخاصة بالفلسطينيين في المناطق؟"، كانت إجابات المجموعتين السكانيّتين معاكسة تمامًا تقريبًا: 86% من اليهود يعتقدون أنّ إسرائيل تحافظ على حقوق الإنسان الخاصّة بالفلسطينيين في المناطق، ونحو نصف هؤلاء واثقون بأنها تحافظ على حقوق الإنسان الخاصة بالفلسطينين بشكل تامّ. في المقابل، يعتقد 15% من العرب فقط أن إسرائيل تحافظ على حقوق الإنسان الخاصة بالفلسطينيين في المناطق.
أكثرية جارفة من اليهود تعتقد بأنّ ممارسات الدولة ضدّ الفلسطينيين لا تشكّل انتهاكًا لحقوق الإنسان، في المقابل فإنّ أكثر من النصف اليهود بقليل يعتقدون أنّ الممارسات المشابهة ضدّ المستوطنين تشكّل انتهاكًا لحقوق الإنسان. وأكثرية ساحقة من اليهود تعتقد أنّ مثل هذه الممارسات ضد الفلسطينيين مبرّرة، في المقابل فإنّ أكثر من نصف اليهود بقليل يعتقدون أنّ الممارسات المشابهة ضد المستوطنين غير مبررة.
بخصوص الممارسات ضد المستوطنين، فإنّ المعطيات أكثر تعقيدًا: هناك أكثرية بسيطة تعرّف الممارسات كانتهاك حقوق، وفي الوقت ذاته هناك أقلية بسيطة تبرّرها أيضًا. من الجدير بالذكر أن نسبة عالية ممن يبررون الانتهاكات ضد المستوطنين مصدرها هو المركز واليسار: نسبة عالية من المجيبين في كلتا المجموعتين تفيد بأنّ الممارسات ضد المستوطنين لا تشكّل انتهاكًا لحقوق الإنسان وهي مبررة أيضًا. في أوساط المركز يحظى هذا المعطى بأهميّة خاصّة – إنّه يعكس فهم إسرائيل الذي كان ذات مرّة: إسرائيل محقة غالبًا (أي في السؤال، هل تحافظ الدولة على حقوق الإنسان الخاصة بالفلسطينيين)، إلا أنّ المستوطنين ينتهكون الأمور المتّفق عليها ويثيرون الشّغب، ولذلك ثمّة ما يبرّر انتهاك حقوقهم. للتّلخيص، المواقف لا تبدو كما لو أنّها نابعة من مفهوم متقدّم لحقوق الإنسان، وإنّما من منطلق ما هو أفضل للدّولة (في نظر الأشخاص الذين يبرّرون هذه الممارسات).