لم تتضمن الميزانية العامة لإسرائيل للعامين 2015- 2016 بقيمة 800 مليار شيكل التي صادق عليها الكنيست يوم 19/11/2015 مطالب الجماهير العربية في الداخل كما تبلورت على أيدي مهنيين واللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية والقائمة المشتركة.
وتمّ تعميم هذه المطالب على كل المسؤولين في الحكومة والكنيست بمن فيهم موشيه كحلون وزير المالية ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. أضف إلى ذلك أنه لم يتم إدراج الخطة الحكومية للتطوير الاقتصادي الخاصة بالمجتمع العربي في كتاب الميزانية، تلك الخطّة التي كان يلوّح بها وزير المالية وكبار موظفيه، وعلى رأسهم أمير ليفي المسؤول عن الميزانيات في الوزارة، بأنها البديل الأفضل للتطوير الاقتصادي في المجتمع العربي!
سأحاول هنا البحث عن إجابة للتساؤل المركزي: إسرائيل تعي تمامًا أن التطوير الاقتصادي للمجتمع العربي في الداخل هو تطوير لاقتصاد الدولة بشكل عام، فلماذا إذن لا نرى ملامح هذا التطوير في كتاب الميزانية؟
كتاب ميزانية الدولة الذي يضم آلاف البنود والتي بغالبيتها أرقام كبيرة، هو ليس مجرد أرقام بل إن الموازنة العامة للدولة هي الأداة الأكثر موثوقية التي تعكس سياسات وأولويات الحكومة وبرامج عملها. وبالتالي فإن الميزانية، بالإضافة إلى أمور أخرى، هي تقنية اجتماعية لتخصيص الموارد من ناحية الإنفاق ومن ناحية الإيرادات. يعني هذا أن أي حديث عن تغييرات في سلم الاولويات أو الاستثمار في مجال ما، يكون حبرا على ورق وضريبة كلامية ما لم تكن لهذا الكلام ترجمة في كتاب الميزانية.
منذ ما يقارب نصف سنة يجري مندوبو المجتمع العربي في الداخل (ومن باب الشفافية أقول بأنني كنت من الطاقم المفاوض) مفاوضات مع الحكومة للتوصل إلى برنامج وخطّة عمل للمدى المتوسط للتطوير الاقتصادي للمجتمع العربي (خطّة خماسية)، وكان من المفروض أن تتبلور الخطّة قبيل المصادقة على ميزانية الدولة كي يتم إدراجها في كتاب الميزانية. لكن، وكما أسلفت، صودق على الميزانية دون أن تتضمن الخطّة المرجوة.
ما يجب الانتباه له هو الضرورة الملحّة للاقتصاد الإسرائيلي لدعم وتقوية اقتصاد المجتمع العربي لأنه سيشكل الرافعة الاقتصادية الرئيسية للاقتصاد الإسرائيلي العام وذلك لسببين رئيسيين:
الأول: أن استثمار الدولة برفع نسبة المواطنين العرب في سوق العمل سيؤدي الى زيادة الناتج القومي بما بين 5ر3% و3ر7% سنويًا (تقدير حذر ومحافظ) وإذا كنا نتحدث عن ناتج قومي لإسرائيل يصل إلى 1ر1 تريليون شيكل، فإننا نتحدث عن زيادة متوقعة طائلة.
الثاني: من المتوقع أن تصل نسبة المواطنين العرب واليهود الحريديم (وهما قطاعان بنسبة مشاركة منخفضة في سوق العمل) إلى نصف المجتمع تقريبًا (بعد جيل، أي ما بعد سنة 2055). ولذلك فإن بقاء الوضع على ما هو عليه الآن بأرقام المشاركة هذه في سوق العمل، مؤشر يحمل في طياته أنه سيكون تراجع في الاقتصاد الإسرائيلي بدلًا من النمو.
أضف إلى ذلك أن الاستثمار في المجتمع العربي هو أيضّا لحل مشاكل بنيوية وأن الاستثمار هو رؤيا للمدى البعيد وأن التطوير الاقتصادي يحد من المشاكل المجتمعية وبالتالي يخفف من تكاليف معالجتها مستقبلًا.
برغم التحليل أعلاه، إلّا أن الدولة لا تسعى جاهدة لتغيير الوضع الراهن، حتى أن بعض المحللين والمراقبين يعزو أي تغيير طفيف في السياسة الاقتصادية الإسرائيلية تجاه المواطنين العرب إلى حقيقة انتساب دولة إسرائيل إلى منظمة دولOECD ، حيث أن انتساب إسرائيل لهذه المنظمة يفرض عليها تحسين ظروف "الأقليات" ومن هنا يأتي حرص إسرائيل على إعداد البرامج للتطوير الاقتصادي للمجتمع العربي.
لا أستطيع أن أدحض الطرح أعلاه، ولكنني أشير فقط إلى المعضلة: لدى إسرائيل كل الأسباب الاقتصادية (ناهيك عن الأسباب الأخلاقية وواجب الدولة تجاه مواطنيها) لتطوير اقتصاد الجماهير العربية، ولكنها لا تفعل! لماذا؟
ومن المفهوم ضمنًا أن المواطنين العرب في الدولة معنيون بالانخراط في سوق العمل وتحسين ظروف المعيشة وتوفير لقمة العيش بكرامة والوصول إلى رفاهية في الحياة تتلاءم مع الطموحات الفردية والجماعية للمجتمع.
بناء على ذلك يبدو أن السبب الأهم الذي يجعل الدولة لا ترى ما أراه أنا وكل باحث اقتصادي، ولا تخطو باتجاه تغيير الواقع، ليس اقتصاديا بل له أبعاد سياسية بعيدة كل البعد عن النظريات الاقتصادية.
___________________________
(*) باحث اقتصادي فلسطيني.