"المعارضة (البرلمانية ـ السياسية) الحالية فشلت في تشكيل وطرح بديل عن حكومة اليمين في الدورة الأولى (الصيفية) للكنيست، على الرغم من الفرص العديدة التي أتيحت لها"!- هذه هي الحقيقة التي تقرّها، كمنطَلـَق، "ورقة موقف" خاصة أصدرها "مركز مولاد لتجديد الديمقراطية في إسرائيل"، الأسبوع الماضي، في خطوة يبدو أنها جاءت متزامنةً مع إحياء الذكرى الـ 20 لاغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق، إسحق رابين، يوم 4 تشرين الثاني 1995.
وقد أعدت "ورقة الموقف" هذه، التي صدرت بعنوان "نادي القتال: كيف تكون المعارضة فعالة"، الكاتبة الصحافية أيالا بنييفسكي، المحررة السابقة في صحيفة "هآرتس" والمديرة السابقة لدائرة العمل الجماهيري في منظمة مساعدة اللاجئين وطالبي اللجوء في إسرائيل.
وتضع هذه الورقة (التي تستعير عنوان أولى روايات الكاتب الأميركي تشاك بولانيك، المنشورة في العام 1996: "نادي القتال") هدفا تحدده بالتالي: "رسم استراتيجية سياسية لبلورة معارضة فاعلة في إسرائيل"، وذلك على خلفية ما تعتبره "حقيقة ناجزة" تتمثل في "فشل المعارضة الحالية في إنتاج وطرح بديل لحكومة اليمين في دورة الكنيست الأولى، على الرغم من الفرص العديدة، الجماهيرية والسياسية ـ الحزبية، التي أتيحت لها، الواحدة تلو الأخرى"! خاصة وأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة، للكنيست الـ 20 (في آذار 2015)، تمخضت عن ازدياد قوة المعارضة، بينما كان من المفترض أن يكون الائتلاف اليميني المتطرف والمقلّص "هدفا سهلا"، ناهيك عن أن "موجة العمليات الأخيرة، التي أكدت فشل سياسة اليمين الإسرائيلي، كان يفترض أن تؤدي إلى تعزيز قوة المعارضة، موقعها ومعركتها من أجل طرح أجندة أيديولوجية خاصة بها".
وترى "الورقة" أن ثمة "جمهورا واسعاً يقف خلف المعارضة اليوم، يقابله ائتلاف مهزوز ومعزول دولياً يجد صعوبة بالغة في تسيير شؤون الدولة" وهو ما يشكل ـ من وجهة نظر مركز "مولاد" ـ "فرصة نادرة لوضع المعارضة في موقع البديل الجدي والجذاب للحكومة الحالية، وخاصة في الأيام التي يفقد فيها المواطنون الإسرائيليون الشعور بالأمن الشخصي"!
ويقوم التقييم القائل بأن "الائتلاف مهزوز" على حقيقة أنها المرة الأولى منذ العام 1981 التي يقوم في إسرائيل ائتلاف حكومي من 61 عضو كنيست فقط (مع الإشارة إلى أن ائتلاف حكومة إسحق رابين في العام 1992 ضم 62 عضو كنيست فقط، لكنه كان مدعوماً "من الخارج"، من أعضاء الكنيست العرب). فمثل هذا الائتلاف الضيق جدا، في الحد الأدنى القانوني، "بينما يمتلئ كثيرون من أعضاء الائتلاف أحقادا وضغائن شخصية وسياسية ضد رئيس الحكومة ويتربصون به"، يشكل "فرصة جدية وحقيقية أمام المعارضة، من الناحيتين العددية والجوهرية". ثم تضيف الورقة إلى "عوامل الفرصة" عنصرا آخر يتمثل في "سيرورة التطرف والتصعيد الأيديولوجيين المستمرين بين أحزاب الائتلاف الضيق والمتجانس، وهو ما يخدم المعارضة ومصلحتها".
ويشير ناشرو "الورقة" إلى أن "هذه الوثيقة لا تعالج الأسباب النفسية والأيديولوجية وراء إخفاقات المعارضة، مثل خنوع أعضاء الكنيست للعربدة اليمينية وافتقارهم، هم أنفسهم، إلى الرؤية اليسارية الواضحة ـ وهي مواضيع سيعالجها المركز (مولاد)، مباشرة وعينياً، في إصدارات قادمة"!
مشكلات بنيوية وإسقاطات
على قوة المعارضة الإسرائيلية
تحدد "الورقة" أربع مشكلات بنيوية أدت، في النتيجة، إلى تضاؤل قوة المعارضة الإسرائيلية وتراجع دورها السياسي والجماهيري.
وتضع هذه المشكلات الأربع تحت بابين اثنين:
1. سيرورات تاريخية أضعفت المعارضة: ويشمل هذا مشكلتين اثنتين: أ ـ ضعف الأحزاب الكبيرة وتراجع قوتها، ما أدى إلى طمس الفوارق والحدود بين مواقف المعسكرين الأساسيين. ويضاف إلى هذا تعدد (تكاثر) الأحزاب الصغيرة، مما أثـّر، بصورة حاسمة، على وحدة المعارضة وتكاتفها. ب ـ تدهور مكانة رئيس المعارضة وقصورات جوهرية في أدائه، وهو ما سببه ـ أيضا ـ تعدد الأحزاب الصغيرة وتغيير شخص رئيس المعارضة بوتائر سريعة جدا، نسبيا.
2. إجراءات حكومية لمحاصرة المعارضة وتقييدها: أ – التضييق على المعارضة من خلال قوانين خاصة بادرت حكومة بنيامين نتنياهو إلى تشريعها، ابتداء من قانون رفع نسبة الحسم مرورا بقانون الحدّ من اقتراحات نزع الثقة عن الحكومة وانتهاء بقانون الأغلبية الاستثنائية اللازمة لإسقاط الحكومة (61 عضو كنيست ابتداء من العام 1996، بدلا من الأغلبية العادية ـ أغلبية الأعضاء الحاضرين والمشاركين في التصويت). وبالإضافة إلى هذا، قلصت الحكومة أيضا من قدرة المعارضة على تمرير القوانين الجديدة وتشريعها، وذلك من خلال رفضها / عدم إقرارها في "اللجنة الوزارية لشؤون التشريع"، فضلا عن فرض "الانضباط الائتلافي" الملزم على أعضاء الكنيست من الائتلاف الحكومي في التصويت على الأغلبية الساحقة من مشاريع القوانين الجديدة، إلى جانب سلسلة من القوانين الجديدة التي تُجهض، أو تحدّ على الأقل، مبادرات التشريع غير الحكومية. ب ـ التضييق على هيئات وتنظيمات مؤيدة للمعارضة، وذلك من خلال مشاريع قوانين خاصة بادرت إليها حكومة نتنياهو وترمي إلى ترهيب هذه الهيئات والتنظيمات وردعها عن إبداء أية علاقة بالحلبة السياسية والحزبية. وأبرز مشاريع القوانين هذه: الحدّ من التبرعات المسموح بتلقيها من خارج البلاد. وبينما تلجأ هذه الهيئات والتنظيمات إلى لغة الاعتذار والتنصل من أية علاقة لها بالمعارضة السياسية أو بالأحزاب السياسية، تواصل الجمعيات والتنظيمات اليمينية تلقي التبرعات السخية من خارج البلاد، وحتى من مصادر مشبوهة، بل لا سامية، كما تؤكد "الورقة".
وكانت لهذه المشكلات إسقاطات على وضع المعارضة، قوتها ومكانتها، تجسدت في إخفاقات هامة، أبرزها:
• المنهجية السياسية لدى قيادة اليسار ـ الجهة الوحيدة القادرة على طرح بديل سلطوي هي المعارضة، وذلك واجبها الأول: العمل من أجل اكتساب قوة التأثير الجدي والحقيقي على الأجندة السياسية. وهو ما لم تفعله قيادة اليسار الإسرائيلي.
• التعاون مع الائتلاف ـ أصبح اليسار الإسرائيلي غارقا في العمل التشريعي الهامشي، علما بأن التشريعات الأساسية، الجوهرية والهامة، لا تجد تجاوبا أو دعما من جانب حكومة اليمين. وأصبح النشاط التشريعي، بمعنى عدد القوانين التي تم سنها، المعيار الوحيد تقريبا لتقييم نشاط أعضاء الكنيست وتدريج فاعليتهم وجدوى عملهم. ولهذا، أصبحنا نجد أن عضو الكنيست الذي يحتاج إلى دعم وزير ما (في مسعى تشريعي) يجد صعوبة بالغة في توجيه النقد العلني له.
• التركيز على "إلا بيبي" ـ أداء بنيامين نتنياهو، شخصيته ومسلكياته تعود بالضرر على دولة إسرائيل ومصالحها، لكنها ليست السبب المركزي لتغيير السلطة واستبدالها. فإذا ما بقيت المعارضة تركز هجومها على شخص نتنياهو فقط، وسط إحجام (تام تقريبا) عن مهاجمة أيديولوجية اليمين، فلن يكون ثمة سبب وجيه لفوزها بالسلطة واستبدال اليمين.
ما الذي يتوجب على
المعارضة فعله؟
كي تستطيع المعارضة تشكيل قوة نوعية وطرح بديل جدي وحقيقي لإدارة دفة السلطة، يتعين عليها الإسراع في اتخاذ عدد من الخطوات والإجراءات، من أهمها:
أـ التمايز عن السلطة: ويشمل هذا عددا من الخطوات:
1. التركيز على القضايا المركزية، غير "الحيادية". فحيال حملة نزع الشرعية التي يتعرض لها اليسار، "يستسلم" عدد كبير من أعضاء الكنيست فيتنافسون في إطلاق التصريحات المقبولة على الأوساط السياسية المختلفة، عموما. ولا ينتبه هؤلاء إلى حقيقة أن تصريحاتهم تلك قليلة القيمة الجماهيرية وعديمة الأهمية السياسية. فمثلا، إذا كان اليمين أيضا يدعي بأن الشوفينية مرفوضة وبأن الشفافية ضرورية ومطلوبة، فليس ثمة في إطلاق مثل هذه التصريحات ما يمكن أن يجند دعما جديا وحقيقيا لليسار. وعلى المعارضة، أيضا، التوقف عن إدارة الصراعات الهامشية وتوظيف طاقات كبيرة في معارك لا تعود إلا بانتصارات هزيلة وبمنفعة ضئيلة جدا ليس في مقدورها خدمة الهدف الأساس في إسقاط اليمين من سدة الحكم، فضلا عن أنها تُظهر اليسار بصورة سلبية وغير ذات جدوى. ويتوجب على اليسار وضع أجندة شاملة وواضحة، وخاصة في القضايا السياسية والأمنية.
2. التوقف عن اعتبار التشريع هدفا والتحول إلى اعتباره وسيلة. فالسباق خلف اقتراحات قوانين يغيّب الحاجة إلى طرح أجندة بديلة ويأتي على حسابها. وإذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أن تشريعات اليسار لا تحظى بدعم حكومة اليمين ولا تمتلك حظوظا كبيرة بتمريرها، فمن الواضح إذن أن على اليسار استخدام التشريع رافعة، فقط، لشن معارك شعبية وتوجيهها.
3. التوقف عن "تلطيف" قرارات وممارسات السلطة، حتى حين تكون مدمّرة. فليس من واجب المعارضة، أو مهمتها، إنتاج حكومة يمينية أفضل، بل استبدالها. هذا هو الطريق لتحسين وضع إسرائيل، وهو أكثر أهمية بكثير من تلطيف هذا القانون أو ذاك. وممنوع على اليسار، أيضا، أن يكون شريكا في قصورات اليمين وإخفاقاته، بينما يواصل هذا الأخير اتهام اليسار بالمسؤولية عن تلك القصورات والإخفاقات. وبهذه الرؤية، فإن المساعدة التي يقدمها اليسار لليمين هي مساعدة هدامة: إنها تخفي إخفاقات الحكومة تجاه الداخل وتعرض صورة اعتدال زائف تجاه الخارج. وفوق هذا كله، فالمعارضة التي تتعاون مع من تصفه بأنه خطر على إسرائيل تفقد مصداقيتها وثقة الجمهور.
4. الامتناع عن المشاركة في الحكومة. لا يمكن للعمل السياسي أن يقوم على غاية التوصل إلى قواسم مشتركة بين اليمين واليسار. فحكومة "الوحدة الوطنية" من شأنها أن تحتم خضوع أحد المعسكرين للمعسكر الآخر أو أن تؤدي إلى حالة من الشلل العام، وهو ما يسلب الجمهور الواسع قدرته على الحكم أي المعسكرين هو الأفضل. ومن غير المنطقي أن تكون لدى حزب يطمح إلى استبدال السلطة مصلحة في العمل المشترك مع قيادة يسعى هو إلى تغييرها. هذا أولا. وثانيا، ليس ثمة أي مبرر اليوم لتشكيل حكومة وحدة كهذه. لا يمكن إقامة "حكومة عقلاء"، ذلك أنه لم يعد ممكنا التمييز بين عقلاء ومتطرفين في داخل الائتلاف الحكومي الحالي. كما أنه لا يمكن "التأثير من الداخل"، في الوقت الذي تكون فيه مواقف الأطراف متناقضة. أو، هكذا يفترض أن تكون. وثالثا، ثمة تآكل يومي في شرعية اليسار جراء ما يقوله ويفعله ممثلو اليمين، الذين سيصبحون شركاء في حكومة وحدة كهذه. ورابعا، ثمة معارضة واسعة بين الجمهور لتشكيل "حكومة وحدة". وعلى هذا كله، فإن إقامة حكومة وحدة كهذه ستكون خطأ سياسيا فادحا وخطيرا. وسيكون انضمام اليسار إلى حكومة كهذه بمثابة "بيع المبادئ في سبيل الكرسي". إما إذا أراد اليسار اجتذاب المصوتين، فيتعين عليه ترميم الثقة بسياسييه، لا تعزيز شعور الاشمئزاز والنفور وفقدان البوصلة.
5. بث رسائل قصيرة وواضحة وتكرارها، مرارا. ليس لدى المعارضة أي جسم موكل بصياغة رسائل واضحة وقصيرة بصورة دائمة ومنتظمة. ومن نتائج هذا الغياب، تراجع قدرات أعضاء الكنيست التعبيرية وضعف التعاون والتنسيق بينهم، فضلا عن "خصخصة المواقف": فالذين يصوغون مواقف أعضاء الكنيست فعليا هم أطراف تمثل مجموعات وقيما مختلفة تقوم بتزويد أعضاء الكنيست بـ"أوراق مواقف". لكن هذه الأطراف لا يؤرقها هدف استبدال السلطة، بل هدف آخر هو ما يمكنها تحصيله لصالح المجموعات التي تمثلها في الوضع السياسي القائم. وهكذا، نجد أعضاء كنيست كثيرين يستخدمون لغة "جمعياتية"، بدلا من لغة المعارضة السياسية التي ينبغي أن تكون محددة، واضحة وتعرض المصلحة العامة، الكلية.
ب - التعاون في سبيل استبدال السلطة: في هذا الباب، تدعو "ورقة الموقف" إلى التركيز على منهجين اثنين أساسيين:
1. تعميق وتعزيز التعاون والتنسيق بين أعضاء الكنيست من المعارضة، بغية تشكيل معارضة واسعة وقوية للحكومة، شن معارك جماهيرية صاخبة ومؤثرة، بدلا من "توزيع المواضيع" بين أعضاء الكنيست وتجنب "تدخل" عضو ما في "مجال عمل" عضو آخر، كما هي الحال الآن.
2. العمل من أجل توسيع القاعدة لائتلاف حكومي بديل محتمل ـ يجب توظيف الحد الأقصى الممكن من الموارد والطاقات السياسية المتوافرة، من خلال بناء شراكات حقيقية مع ممثلي الجمهور العربي والجمهور الحريدي (بدلا من تعميق القطيعة معهما، كما يحدث الآن)، والذين يمكن أن يشكلوا "بيضة القبان" في الانتخابات البرلمانية المقبلة. فهؤلاء قريبون إلى اليسار في العديد من القضايا، التي من شأنها أن تخدم مصالحهم وتعود بالفائدة المباشرة عليهم أيضا. ومن الضروري الانتباه إلى أن توحيد أعضاء الكنيست العرب في قائمة واحدة (القائمة المشتركة) يمثل فرصة تاريخية هامة، كما عبر رؤساء أحزاب الحريديم، في الماضي بل ومؤخرا أيضا، عن استعدادهم، بل تفضيلهم، للجلوس في حكومة يسار، بدلا من حكومة نتنياهو. ومن هنا، فإن التحالف مع الجمهوري العربي والجمهور الحريدي هو حاجة ضرورية وملحة.