المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1994

تعمل منظمات بدعم وتمويل حكومة إسرائيل والحركة الصهيونية، وفي مقدمتها الوكالة اليهودية، ومتبرعين يهود أثرياء، على تلقين الشبان اليهود من دول العالم بالأفكار الصهيونية وإقناعهم بـ"عدالة" السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، و"صدقية" الرواية الصهيونية حول الصراع. ويتم تنفيذ هذا المشروع من خلال إحضار هؤلاء الشبان من شتى أنحاء العالم إلى إسرائيل وتنظيم زيارات ورحلات لهم إلى مواقع في البلاد، وخصوصا القدس ومتحف "يد فَشِم" لتخليد ذكرى المحرقة النازية، وكذلك إلى المستوطنات في الضفة الغربية.

وغالبا ما يكون هؤلاء الشبان يمارسون نشاطا في إطار المنظمات اليهودية التي تنشط في الدول التي يعيشون فيها، أو أنهم تعلموا في مدارس تابعة للمجتمعات اليهودية هناك، وهي ظاهرة منتشرة في المناطق التي توجد فيها تجمعات يهودية كبيرة في الولايات المتحدة وفرنسا.

وتعتبر منظمة "تغليت" (بالانكليزية: Birthright Israel، أي "حق الآباء") أبرزها، وهي مشروع تموله حكومة إسرائيل والوكالة اليهودية وأثرياء يهود، أبرزهم الثري اليهودي الأميركي اليميني شيلدون إدلسون. وقد أحضرت هذه المنظمة بين الأعوام 2000 – 2014 حوالي 400 ألف شاب يهودي من دول العالم، 80% منهم من الولايات المتحدة، لزيارة إسرائيل، لمدة عشرة أيام مليئة بالجولات المكثفة. كذلك تبادر المنظمة إلى تنسيق مسبق للقاءات بين الشبان وأشخاص من إسرائيل.


ويتبين أن قسما من هؤلاء الشبان، وخاصة الأميركيين بينهم، يعودون من هذه الرحلة إلى بلادهم وقد حدث تغيير في أفكارهم تجاه إسرائيل والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لدرجة أن قسما منهم يتجه إلى منظمات يهودية معادية للصهيونية، وحتى أن بعضهم ينخرط في نشاط حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "هآرتس"، في 8 أيار الحالي.
"إنها قصة تبدأ في يد فشم وتنتهي في BDS"، كما أشارت الصحيفة.

يشار إلى أنه في خلفية هذا التقرير التقاطب الحاصل في السنوات الأخيرة بين إسرائيل واليهود الأميركيين.
وينبع هذا التقاطب من عدة أسباب، بينها الخلافات "المذهبية" بين اليهود الأرثوذكس، الذين يشكلون الغالبية الساحقة في إسرائيل، واليهود من الحركتين الإصلاحية والمحافظة، الذين يشكلون قرابة 85% من اليهود الأميركيين. إضافة إلى ذلك، فإن أغلبية اليهود الأميركيين هم من مؤيدي الحزب الديمقراطي، ومن أنصار التعددية الفكرية والانفتاح. ويبرز ذلك بشكل أوضح، وفقا لدراسات إسرائيلية حديثة، لدى اليهود الأميركيين الشباب، أكثر منه بين الأجيال المتقدمة سنا. كما أن الشبان اليهود لا يتخوفون من الزواج المختلط. ويشار في هذا السياق إلى أن أحد أسباب تأسيس منظمة "تغليت" هو "محاربة انصهار" اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها من خلال الزواج من غير اليهود.

"زيارة إسرائيل دفعتني إلى صفوف BDS"

أحد الأمثلة على نفور شبان من الأفكار التي استمعوا إليها أثناء زيارتهم لإسرائيل هو سام سوسمان، وهو طالب يهودي أميركي من نيويورك، زار إسرائيل، سوية مع 50 شابا آخر، في إطار برنامج "تغليت"، قبل ثلاث سنوات، وعاد إلى بلاده وهو مستاء من زيارته إلى إسرائيل. فخلال رحلة إلى موقع متسادا في النقب، قال لهم المرشد الإسرائيلي "لدي جيران من إيطاليا ترعرعت بقربهم وهم رائعون، لكن إذا اضطررت إلى الاختيار بين إنقاذ حياتهم وبين إنقاذ حياة يهودي واحد، كنت سأختار إنقاذ حياة اليهودي. ولو خُيّرت بين إنقاذ حياة مئة غير يهودي أو يهودي واحد، لاخترت اليهودي. أريدكم أن تفهموا مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة لي... لو اضطررت أن أختار بين إنقاذ يهودي واحد أو جميع ضحايا التسونامي في اليابان في العام 2006، كنت سأختار اليهودي".

وقال سوسمان إنه يدرس العلوم السياسية وإنه شارك في رحلة "تغليت" بهدف التعرف على الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، لكن هذا الموضوع لم يذكر أبدا خلال أيام الرحلة. وأردف "لم نلتق مع عربي أو فلسطيني واحد، وربما التقينا مع إسرائيلي واحد أو اثنين لم يكونا يمينيين. وقد أذهلتني العنصرية العفوية. وعندما سألت المرشد عن الصراع، قال إن ’العرب لم يهدروا أبدا الفرصة من أجل إهدار فرصة’. ثم قال ’أنا أعيش هنا، وأنت لن تفهم الوضع هنا’".

بعد رحلة "تغليت"، ذهب سوسمان إلى جولة في الضفة الغربية، حيث "اطلعت، على سبيل المثال، على اعتقال الأولاد في الضفة. والتقينا مع ولد كان معتقلا، وقد هدم هذا الاعتقال حياته. ولو التقى الأشخاص الذين شاركوا في رحلتي مع تغليت مع هذا الفتى، لساورهم القلق حيال كيف أن دولة لديها هذا الكم من القيم الرائعة تفعل أمرا كهذا".

في أعقاب تجربته هذه، أسس سوسمان منظمة Extend التي تنظم جولة إلى الضفة الغربية لخمسة أيام لتكون مكملة لجولة "تغليت" في إسرائيل.

وأشار شاب آخر من نيويورك، يدعى كريس غودشل، إلى عدم التطرق إلى الفلسطينيين تقريبا خلال زيارته لإسرائيل ضمن برنامج "تغليت": "الموضوع لم يطرح خلال الرحلة. وكانت هناك رواية الضحية، عن الفلسطينيين الذين يضعون حزاما ناسفا ويقتلون الناس في الحافلات، من دون السياق السياسي". وخلال زيارة إلى شمال إسرائيل قال المرشد الإسرائيلي لمجموعة الشبان إن "من واجبي أن أدافع عن هذه الأرض، التي هي أرضكم أيضا". وأضاف المرشد أنه "سأطلق النار على أي لبناني يصل إلى هنا، ولا يهمني إذا كان رجلا أو امرأة أو طفلا. لا مكان لهم هنا، وحتى أن الأولاد والنساء اللبنانيين مسؤولون عن الجرائم ضد إسرائيل".

ووصف غودشل أقوال هذا المرشد بأنها "موبوءة". وأضاف أنه صحيح أن هذا المرشد هو شخص متطرف ولا يعبر عن كل الإسرائيليين "لكن حقيقة أنهم جعلونا نلتقي به قالت لي الكثير عن هذه الرحلة. وبالنسبة لمعظم المشاركين في الرحلة، فإن هذا الرجل هو جزء من التجربة الحياتية الإسرائيلية ويتم تصوير رأيه على أنه هام وشرعي. وقد ناقشنا ذلك لدى عودتنا، وقال مرافقنا إنه ’لا أوافق على كل شيء قاله المرشد، لكن هذا هو الواقع الذي يضطرون إلى العيش فيه’. فقد تم وصف ذلك بأنه نموذجي وقد كان لهذا الأمر تأثير عميق على أفكاري عن إسرائيل... وشعرت أن هدف الرحلة هو ليس اللقاء مع تراثي، وإنما جذبي نحو تأييد إسرائيل من الناحية السياسية".

بعد عودته إلى الولايات المتحدة، بدأ غودشل ينشط في منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، التي تنشط ضد الاحتلال وتوسيع النقاش حول إسرائيل بين المنظمات اليهودية وتدعم حركة مقاطعة إسرائيل. وشدد على أن "الأمور التي سمعتها في إطار تغليت، مثل ’نحافظ على هذه الدولة من أجلكم’ أو ’ندافع عنكم من العداء للسامية’، هي التي جعلتني أكون ناشطا. وعليّ أن أشكر تغليت على فكرة أن إسرائيل مرتبطة بي، لكني لست متأكدا من أنهم تعمدوا دفعي إلى تأييد BDS. وأحاول أن أفكك فكرة أن إسرائيل تمثلني بممارساتها. وهدفي ما زال التماثل مع هويتي اليهودية، ولكن من أجل تطبيق ذلك ينبغي أن أشارك في حركة تُقصي إسرائيل من هذه الهوية اليهودية". وأردف قائلا إنه "خسارة أن المقاطعة ستؤثر سلبا على الإسرائيليين الذين يعارضون الاحتلال، لكن هذا الأمر له تأثير أقل من الاحتلال المفروض على الفلسطينيين. وهذه الطريقة غير العنيفة الوحيدة لممارسة ضغط بشكل فعال على حكومة إسرائيل".

"شيء مني مات في الخليل"

إيلاه شابة يهودية أميركية، ووالدها رئيس كنيس للحركة المحافظة. وقالت إن "الكنيس كان بيتي الثاني. وتعلمت في ’هيبرو سكول’، ودخلنا في نقاشات سياسية، لكن كلمة احتلال لم تذكر أبدا". وعندما كانت في السادسة عشرة من عمرها شاركت في برنامج برفقة إسرائيليين وعرب. وقالت إيلاه إن العرب واليهود في البرنامج لم يتحدثوا مع بعضهم. وأضافت أن شابا إسرائيليا قال لها إنه على وشك التجند للجيش، وإنه عندما يعود سيمحو كافة العرب الذي تعرف عليهم في البرنامج من صفحته في "فيسبوك"، لأنه لن يتحدث طواعية مع عربي أبدا. وقالت "أعرف أنه لا يمثل الجميع لكن هذه أفكار موجودة في إسرائيل بكل تأكيد. والتعابير العنصرية جاءت من جانب المشاركين اليهود في البرنامج".

بعد سنوات حضرت إيلاه إلى إسرائيل من خلال منظمة "تغليت". وهي تقول إن هدفها الأساس كان المشاركة في جولة تنظمها Extend في الضفة الغربية. زارت بؤرا استيطانية عشوائية، رام الله، النبي صالح وبلعين. لكن أسوأ ذكرياتها كانت في الخليل. "كنا نسير في شارع تواجدت فيه في الماضي سوق عامرة والآن لا يوجد شيء فيه. وبدأ سكان فلسطينيون يتحدثون معنا، وعندها جاء الجنود وصرخوا عليهم وأخذوا أحدهم. سألنا الجنود: ماذا تفعلون؟ أجابوا أن الشاب الفلسطيني سيأتي معنا إلى مركز الشرطة. وسألنا: إلى متى ستبقونه قيد الاعتقال؟ فأجابوا أنه سيبقى معتقلا طوال المدة التي نريدها. وقد شعرت أن شيئا ما مني قد مات في ذلك اليوم".

كانديس غراف هي شابة يهودية من نيويورك، زارت إسرائيل لمدة ثلاثة شهور، قبل ست سنوات، في إطار برنامج لمنظمة "الشبيبة اليهود". وأخذت هذه المنظمة المشاركين في البرنامج إلى مستوطنة "إفرات" للقاء ناشطات في حركة "نساء بالأخضر" الاستيطانية المتطرفة. إحدى الناشطات قالت لمجموعة الفتية الأميركيين إن "يهودا والسامرة ملكنا، وعلينا أن نطرد العرب، والرب اختارنا من أجل أن نسكن في هذه البلاد". وقالت غراف إنها توجهت إلى هذه المستوطنة وقالت لها "أنت مقرفة أكثر من العرب الذين تتحدثين عنهم. وهي ضحكت وقالت ’ستقتنعين لاحقا’".
بعد عودتها إلى نيويورك، انضمت غراف إلى حركة "جي ستريت" اليهودية الأميركية اليسارية. ثم سافرت إلى رام الله، وتطوعت في منظمة حقوق إنسان. وطولبت بكتابة تقرير حول انتهاك حقوق الإنسان في المنطقة "ج" في الضفة. وخلال عملها على التقرير شاهدت شريطا مصورا تظهر فيه مستوطنة تشارك في اعتداء على فلسطينيين خلال قطف الزيتون. "ما أن بدأ الشريط حتى تعرفت على المستوطنة من إفرات. لقد شاهدت تجسد رغبتها في إلقاء الفلسطينيين من الضفة الغربية. وفي تلك اللحظة أدركت أخيرا إلى أي مدى أنا شريكة في هذا الاحتلال العنيف".

اغتراب عن إسرائيل

أشار الباحث في "مركز كوهين للدراسات اليهودية المعاصرة" في جامعة براندايز، البروفسور تيد ساسون، إلى أن "تأثير تغليت نابع بقدر كبير من التوقعات، إذ أن غالبية المشاركين يتوقعون أن يتزايد تأييدهم لإسرائيل في أعقاب المشاركة في البرنامج، وهكذا يحدث فعلا. ونحن نعلم أن للبرنامج تأثيرا قويا حتى بعد عقد من المشاركة فيه. وأعتقد أن أولئك الذين يقولون إنهم عادوا من هذه البرامج وأصبحوا يؤيدون مقاطعة إسرائيل، جاؤوا نقديين من بيوتهم. وفي مقابل ذلك، فإن من أصبح مؤيدا لجي ستريت، يحقق أهداف البرنامج، إذ أن تغليت تتطلع إلى جعل الأفراد ضالعين أكثر في إسرائيل، وجي ستريت لا يزال داخل الإجماع".

وكتب ساسون في مقال مشترك مع الباحث في الشؤون اليهودية من جامعة ويندربيلت، البروفسور شاؤول كلنر، حول تأثير برامج "تغليت" على المشاركين فيها من الناحية السياسية، أنه "وجدنا أن البرنامج يزيد من الارتباط بإسرائيل، لكن لا يوجد دليل على أنه يجعل آراءهم يمينية أكثر. ورغم أن خريجي هذه البرامج يميلون أكثر من غير المشاركين فيها إلى تأييد القدس الموحدة، لكن فيما يتعلق بمسألة الاستيطان فإنهم في الوسطية السياسية، تماما مثل مجموعة النقديين".

وأظهر استطلاع أجراه معهد "بيو" (Pew) في العام 2013، وشمل سبعين ألف يهودي أميركي، أن 70% منهم أشاروا إلى "ارتباط معين" بإسرائيل، وهذا المعطى لم يتغير منذ العام 2001. وأفاد 43% أنهم زاروا إسرائيل مرة واحدة على الأقل، وقال 40% إنهم يؤمنون بأن "الرب منح إسرائيل للشعب اليهودي". رغم ذلك، تبين من الاستطلاع أن التأييد لإسرائيل يتراجع بحسب السن. فقد قال 79% من أبناء سن 65 عاما فما فوق إنهم يشعرون بارتباط بإسرائيل، مقابل 60% من بين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 – 29 عاما. وأشار 53% من أبناء سن 65 عاماً فما فوق إلى أن الارتباط بإسرائيل هو جزء هام من هويتهم اليهودية، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 32% لدى الذين تقل أعمارهم عن 30 عاما. كذلك فإن التأييد لإسرائيل لا يترجم إلى تأييد لسياستها. فقد قال 38% فقط إن إسرائيل تبذل جهدا من أجل التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين، و17% فقط يعتقدون أن المستوطنات تعزز أمن إسرائيل.

ولفت ساسون إلى أن "إحدى نتائج التعرف إلى إسرائيل هي الميل إلى اتخاذ موقف من القضايا الإسرائيلية. فإسرائيل لم تعد صندوقا أسود، ليس مهما ماذا يوجد في داخله. ويتزايد عدد الأميركيين اليهود الذين يقيمون تحالفات مع جهات في إسرائيل تتلاءم مع أفكارهم. ويتم التعبير عن ذلك لدى الشبان بازدياد النشطاء في منظمات مثل ’صوت يهودي من أجل السلام’ التي لديها 60 فرعا وتسعة آلاف ناشط في الجامعات الأميركية، و’جي ستريت يو’ الذراع الشابة لمنظمة جي ستريت التي تنشط في 58 جامعة أميركية".

وأشار ساسون إلى تطور آخر بين اليهود الأميركيين، وهو أن "اليهود باتوا قلقين أقل مما يفكره حيالهم يهود آخرون إذا ما وجهوا انتقادات لإسرائيل". وخلص إلى أنه "من جهة، يرتفع عدد الشبان اليهود الذين يسافرون إلى إسرائيل وهذا الأمر يزيد من التزامهم تجاهها. وفي المقابل، أرى اغترابا حقيقيا عن إسرائيل في الجانب اليساري من الخارطة (اليهودية الأميركية). وهذه ليست الانتقادات للحكومة الإسرائيلية فقط، وإنما اغتراب عن مفهوم إسرائيل، إذ أنني أسمع من حاخامين أنهم يمتنعون عن ذكر إسرائيل في الكنس، لأن هناك جدلا كبيرا حولها. وقبل فترة ليست طويلة كانت إسرائيل تشكل رمزا موحدا، واليوم هي عامل انقسام".

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, هآرتس, الوكالة اليهودية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات