السيطرة على الآخر الفلسطيني لها ثمن واضح وجلي هو إنكار إنسانيته ومن ثم إنكار إنسانية الإسرائيلي ذاته أيضا في نهاية المطاف
تعريف:
هنا ترجمة لمقاطع واسعة من مقالة نشرتها عالمة الاجتماع الإسرائيلية ذات الصيت العالمي البروفسور إيفا إيلوز في الملحق الأسبوعي لصحيفة "هآرتس" أخيراً وتطرقت فيها إلى تعامل أحد المستشفيات الإسرائيلية معها أثناء وجود والدها فيه لتلقي العلاج قبل وفاته والذي أحالها إلى مبلغ انعدام الشفقة الذي يميّز المجتمع الإسرائيلي وينعكس على شتى شرائحه.
الإنسانية كعادة أخلاقية
ما الذي يعنيه التعامل مع الناس كـ "بشر"؟
ظاهرياً يبدو هذه السؤال سخيفاً، ذلك لأن الناس أو البشر هم بشر، وبالتالي ليست هناك أيه وجاهة أو مبرر للسؤال ما الذي يعنيه التعامل معهم كما هم (أي كبشر). غير أن المجتمعات كحال الأفراد أيضا تتميز وتتباين في قدرتها على منح الناس جميعا الاحترام الخاص الذي يتطلب بدوره "إنسانية". فما هي "الإنسانية" إذن؟ ربما نتمكن من الاجابة عن هذا السؤال إذا ما تفحصنا نقيض "الإنسانية"، أي انعدام الإنسانية.
في كتابه "The Decent Society" (المجتمع العادل - إصدار جامعة هارفارد، 1996) يقول الفيلسوف الإسرائيلي صاحب الصيت العالمي أفيشاي مرغليت، إنه يمكن التعامل مع الناس بصورة "غير إنسانية" وفق أربعة أشكال مختلفة: أولاً: التعامل معهم كأشياء؛ ثانيا: التعامل معهم كآلات؛ ثالثا: التعامل معهم كحيوانات؛ رابعاً: التعامل معهم كما لو أنهم "دون البشر" (دونيين)، ومن ضمن ذلك التعامل مع الكبار والمسنين كأطفال.
إن السبب في كوننا لا نتعامل مع قسم من الناس كبشر، يكمن في أننا لا نراهم كبشر بكليتهم أو بكامل كينونتهم. وعلى سبيل المثال فإننا لا نتعامل مع الناس كبشر كاملين حين نراهم كجسد وليس كجسد وروح (مثلاً عندما نشغل مهاجري العمل في تنظيف وبناء بيتنا)، أو حين ننظر فقط إلى أعضاء معينة في جسم الإنسان (مثلا عندما يتم النظر إلى المرأة فقط من خلال نهديها وأعضائها الجنسية). إن التعامل مع الآخر (الغير) على أنه غير إنساني يعني عدم القدرة على رؤيته كإنسان كامل من ناحية جسدية وروحية.
ومن اللافت للانتباه أن مرغليت يعطي مثالاً على ذلك من خلال التعامل مع المواطنين العرب في إسرائيل، والذي تتجاهل فيه النظرة إليهم وجودهم في حد ذاته. وتنبع هذه النظرة من عدم رؤيتهم كجزء من المجموع (وحين تتم رؤيتهم كجزء من هذا المجموع فإن ذلك يجري فقط بصورة سلبية، إذ يُنظر إليهم كتهديد وكعدو أو كأناس دونيين ومتخلفين).
من هنا فإن انعدام الإنسانية هو انعدام القدرة على النظر للآخرين بصورة محددة جداً، أي كبشر كاملين في إنسانيتهم. إن رؤية الناس- البشر- بمثل هذه الصورة إنما هي مسألة عادة (سلوك) وليست قراراً واعياً أو مدركاً. ومثل هذه النظرة هي نوع من المهارة الأخلاقية التي تُكتسب بصورة غير مدركة من خلال العينين. من هنا فإن العينين هما إذن عضو أخلاقي يمكن تدريبه سواء من ناحية معرفية (إدراكية) أو من ناحية أخلاقية. ومثل هذا التدريب (التمرين) يتوقف بدوره على البنية والقيم السياسية (على سبيل المثال فإن حقوق الإنسان الراسخة عميقاً في الثقافة السياسية من شأنها أن تصوغ نظرة المواطنين بصورة مختلفة عما هي الحال في الثقافة الكولونيالية، بمعنى ما يراه هؤلاء المواطنون وبأي شكل أو صورة يرونه). وفي هذا المعنى يمكن التحدث عن أخلاقية (وسياسة) النظرة، وإلى أي حد نلاحظ الآخر وكيف نراه بالمقارنة مع رؤيتنا لأنفسنا، ومن هنا فإن الحد الكامل أو الجزئي الذي نعترف به بوجود الآخر، هو مهارة أخلاقية. ولكن ما الذي يتيح لنا الاحتفاظ بهذه المهارة الأخلاقية؟!
إن قدرة الثقافة السياسية والأخلاقية على تدريب (تمرين) العين بهذه الصورة التي تعترف بالآخر بأكمله، تتطلب وجود عدد من الفرضيات أو المفاهيم الأساس غير القابلة للجدل، وفي مقدمتها الإقرار بأن جميع الناس (البشر) متساوون، والإقرار بأن أجساد البشر كافة حساسة (قابلة للإصابة) وأن ذلك يجعلهم جميعاً متشابهين ومتساوين، وأن معاناتهم تتطلب مني، كإنسان – على المستوى الأخلاقي – التضامن والتعاطف مع معاناتهم.
في القرن الثامن عشر، حين تبلورت رؤية عالمية للبشر، تبلورت في الوقت ذاته رؤية مفادها أن القاسم المشترك بين الناس كافة هو المعاناة الجسدية، ولذلك فقد أضحت الرأفة، أو الشفقة، شرطا أساسيا للأخلاق والسلوك العام. وتشكل الرأفة، أو الإقرار بمعاناة الناس الآخرين، الوسيلة التي تتيح تذكر إنسانية الآخر. ومن هنا فإن التصرف بصورة "غير إنسانية" يعني بكل بساطة عدم رؤية الآخر، والإنكار التام لوجوده في الحجرة والحيز، والتنكر لمعاناته وحساسيته، وعدم الاستجابة أو الإحساس بمعاناته.
سيقول كثيرون إنه يمكن تفسير انعدام الرأفة التي واجهتها أخيراً في مستشفى معين، بنقص الموارد الاقتصادية والمالية الذي تعاني منه المستشفيات العامة والحكومية في إسرائيل، والاكتظاظ الشديد في غرف المستشفيات، والعبء الكبير الملقى على كاهل الممرضات والأطباء، وتحول العلاج الطبي إلى مشروع اقتصادي (تجاري) يخضع لمبادئ نيو- ليبرالية فظة. ولكن السياسة النيو- ليبرالية ما هي إلاّ تسمية أخرى لانعدام الشفقة لدى اللاعب الأقوى في المجتمع، أي الدولة، التي تفضل الاستثمار في البناء غير القانوني وفي الاستيطان، وفي منظومة كاملة من السيطرة والتعذيب والقتل، عوضاَ عن الاستثمار في تخفيف وطأة الضائقة والمشاكل والأزمات التي تعاني منها المجموعات السكانية الضعيفة في إسرائيل. بناء على ذلك فإن هذه الدولة تظهر مرتين تعاملاً يخلو من الرحمة أو الشفقة، مرة تجاه بؤس وشقاء شعب آخر، ومرة تجاه بؤس وشقاء مواطنيها.
سياسة النظرة
إن العامل المحرك للسياسة الاقتصادية في حد ذاتها، هو مبادئ أخلاقية أو غير أخلاقية، وتعبر هذه السياسة في الوقت ذاته عن بنى وأطر أكثر عمقاً. ولا تشكل هذه البنى العميقة سبباً مباشراً لعدم الاكتراث تجاه المعاناة، وإنما تشكل السياق والأرضية الثقافيين اللذين يحولان أشكالاً معينة من السلوك، مثل عدم الاكتراث بالمعاناة، إلى إمكانيات مشروعة.
فما هي تلك البنى العميقة للتفكير؟
لدى محاولة الإجابة الضمنية على هذا السؤال وجدت إشارتين تحيلان إليها في أحد الكتب وعلى لسان جندي إسرائيلي شاب.
الإشارة الأولى وجدتها في الكتاب الصهيوني الذي وضعه (المحلل السياسي) آري شافيط وصدر باللغة الإنكليزية تحت عنوان "My Promised Land"، وجاء فيه قول الكاتب: "لقد عانت الصهيونية مما يمكن وصفه بالعمى الانتقائي، حين لم تستطع أو لم ترغب في رؤية ما ينتصب أمام ناظريها: وجود شعب آخر في أرض إسرائيل. كان القرويون العرب يتواجدون في كل مكان، لكنهم ببساطة لم يُشاهدوا". واستطرد شافيط حين كتب عن جده الأكبر الذي كان بين أوائل المستوطنين قائلاً: "جدي الأكبر لا يرى لأن ما يحركه كان ضرورة عدم الرؤية. لم ير لأنه فيما لو رأى لكان يتعين عليه العودة من حيث أتى". إن ما أراد شافيط (الذي لا يمكن اتهامه بيسارية زائدة) قوله هنا بوضوح هو أن إمكانية استيطان البلد (فلسطين) اقتضت عمى انتقائياً، والاعتياد على عدم رؤية أولئك (الآخرين) المتواجدين في البلد ذاته. لقد اضطر الصهيونيون (المستوطنون) الأوائل إلى تدريب أعينهم على عدم الرؤية، وعلى تجاهل ألم ومطالب الناس (الآخرين) الذين عاشوا بين ظهرانيهم.
والإشارة الثانية قدمها لي صديق ابني، وهو جندي شاب يتبنى مواقف سياسية متماثلة مع أحزاب الوسط (المركز) ويخدم حاليا في إحدى وحدات النخبة القتالية. فبعد استماعه للقصة حول البروفسور "ك" في المستشفى الذي تعامل معي بعدم رأفة وبانعدام إنسانية، قال على الفور: "أراهنك على أنه كان ضابطاً في الجيش".
لم أفهم ملاحظته وسألته عن قصده، فأجاب بإيجاز: "في الجيش فقط يمكن تعلم التعامل بهذه الطريقة مع الناس".
هذه الإجابة جعلتني أفكر بالعلاقة الممكنة بين الجيش وأشكال وأنماط الحديث الرائجة في صفوفه، وبين النظرة الأخلاقية الملموسة. وقد فكرت بالفعل أن مشروع الاستيطان المستمر والمتواصل، والذي اقتضى جعل الجيش الإسرائيلي عاملا مركزيا في المجتمع، هو الذي صاغ سياسة النظرة: من الذي نراه، وكيف نراه؟!
لقد كان يتعين على اليهودي - الإسرائيلي - الجديد أن يترك خلف ظهره التاريخ اليهودي، تاريخ الألم والدموع والسلبية، حتى يتمكن من تشكيل ورسم مصيره، ومواجهة تاريخ يهودي جديد، يرتكز على القوة والدفاع عن النفس. من هنا، فقد اضطر طلائع المستوطنين عند قدومهم إلى فلسطين، إلى مواجهة متطلبات خوض صراع جسدي في ظروف صعبة، وصراع ضد أعداء عنيدين. إن هذين الصراعين كانا ضروريين من أجل تحقيق المشروع الصهيوني، وقد تطلب كلاهما (من "اليهودي - الإسرائيلي - الجديد") قدراً كبيراً من الصلابة والقسوة، والتخلي عن الجوانب الرقيقة والحساسة في الشخصية. هذه العملية، التي كانت نتاج انضباط جسدي شديد، اقتضت بدورها التغاضي عن الألم والعوز والحرمان. وقد كان هذا الانضباط الجسدي ضرورياً في العمل اليدوي والتأهيل العسكري والقتال، وكانت غايته جعل الإنسان يتجاهل ما يقاسيه من ألم. لقد كانت القسوة نتاج عملية درّب فيها المستوطنون الطلائعيون أنفسهم على التغلب على الألم والمعاناة والفقدان. وفي هذا المعنى، فقد أنكر النموذج الإسرائيلي الألم مرتين: في المرة الأولى، حين محا هذا النموذج، منذ بداية طريقه، تاريخ المعاناة التي كابدها اليهود تحت وطأة الاضطهاد في أوروبا، وفي المرة الثانية عندما قام باحتلال أراضي هذا البلد وبناء دولة إسرائيل عليها. وقد لعب الجيش، الذي سرعان ما تحول إلى منظمة مركزية في المجتمع الإسرائيلي، دوراً مهماً في تعميق تلك العملية. فالجيش في أي مكان من العالم هو منظمة تعلم الناس على القتل، وعلى مشاهدة وتقبل موت رفاق السلاح والأصدقاء والأقارب. لذلك فإن الجيش الذي يخوض حالة حرب دائمة، يخلق ما يصفه علماء النفس ببلاده الشعور والحساسية تجاه الفقدان والألم، والاعتياد على ذلك. إن بلادة الشعور هذه تجاه الفقدان والألم الشخصي، لم تظهر على هذا النحو، وإنما وصفت على أنها "قوة" و"صلابة". وقد أضحت هذه "الصلابة" قيمة عليا في المجتمع الإسرائيلي الذي يبذل قصارى الجهد في سبيل نفي وإنكار ضعفه. وبهذا المعنى فإن المجتمع العسكري هو مجتمع يحتقر الضعف النفسي أو الجسدي، وذلك لأنه ينشغل بالأساس في اكتساب القوة. وعليه فقد تحولت الصلابة (القسوة) والقوة إلى قيمتين مركزيتين في النموذج الإسرائيلي. فالإسرائيلي المنتمي أو الملتزم كما ينبغي هو شخص يتعين عليه أن ينسى ضعفه وحساسيته وأن يتيقن من أنه سيبقى دائما "قويا".
وامتزجت هاتان التجربتان الجماعيتان المركزيتان المتمثلتان في القسوة والقوة مع بعضهما لتتحولا إلى تجربة ثالثة، تجربة الانتصار على الأعداء، سواء كان هؤلاء دولا عربية معادية، أو سكان المناطق الفلسطينية المحتلة. فحين يسيطر شعب على شعب آخر بواسطة جيش وتجنيد عام على امتداد عقود وأجيال، تنشأ بفعل ذلك عادة جماعية تدعى عادة السيطرة. هذا هو المعنى للسيطرة بواسطة طرق عديدة، مثل القدرة على حمل السلاح، الاستيلاء على أراض والتحكم بكيفية وأشكال استخدام الأراضي، إصدار تراخيص بناء، هدم البيوت، التحكم بقدرة الآخرين على الحركة والتنقل، والسيطرة على مختلف نواحي حياتهم ومن ضمنها الناحية الصحية. وهذه الممارسات والسلوكيات تنتقل في طور آخر من الساحة الإسرائيلية - الفلسطينية إلى الساحة الإسرائيلية. وعلى سبيل المثال فقد وصف زئيف أبراهمي في مقال نشر مؤخرا في صحيفة "هآرتس" ما تعرض له هو وزوجته وأبناؤهما، أثناء قدومهم في زيارة لإسرائيل، من معاملة فظة ومهينة من جانب موظفتين في جهاز مراقبة الحدود في مطار "بن غوريون"، وقد تذكّر أبراهمي أثناء ذلك السبب الذي دعاه إلى مغادرة إسرائيل، وهو خشيته من التعامل مع الناس، في حياته اليومية، بنفس الطريقة التي تعامل بها مع الفلسطينيين في المناطق المحتلة. فالسيطرة على الآخرين لها ثمن واضح وجلي، وهو إنكار إنسانية الآخرين، ومن ثم إنكار إنسانية الإنسان (والمقصود هنا الإسرائيلي) ذاته أيضا في نهاية المطاف.
وتنطوي عادة السيطرة على تغييرات معرفية وإدراكية في النظرة للآخرين، وفي القدرة على استيعاب وتقبل وجود هؤلاء الآخرين الضعفاء: الفلسطينيون، العرب، غير اليهود، المهاجرون، اللاجئون الأفارقة، الشرقيون، وكذلك المرضى أيضا.
وتمس عادة السيطرة بالقدرة الأساسية للإنسان على رؤية نفسه متساوياً مع الناس الآخرين، ولا سيما الضعفاء منهم. فالسيطرة تجعلنا نعتاد على التفكير بالعلاقات مع الناس الآخرين كما لو أنها صراعات قوة، أو لعبة نريد ونتوقع الفوز فيها، كما أنها تكرس لدينا العادة على رؤية الآخرين كأعداء محتملين؛ فالناس الآخرون غير جديرين بالاحترام إلاّ إذا كانوا أقوى مني، وليس لأنهم ضعفاء أو حساسون مثلي.
وأخيراً فإن الجيش (الإسرائيلي) الذي لعب دورا مركزياً في تعزيز القوة والسيطرة، يكرس بدوره العادة على إصدار وتلقي الأوامر. والأوامر، التي هي شكل من أشكال الحديث الذي يعبر عن سلطة وقوة المتحدث، تمس بالقدرة على رؤية الآخر كمشابه ومساو لنا، وذلك لأن إصدار الأوامر يتناقض مع الحوار. فالحوار هو تفاعل كلامي يتساوى فيه كل متحدث مع المتحدث الآخر، كما أنه ملزم مبدئياً بالإصغاء له. في المقابل فإن الشخص الذي يصدر الأوامر، لا يعبأ باحتياجات وحساسية الطرف الآخر، وإنما يعلن فقط عن قوته.
الشفقة ليست واردة في القاموس الإسرائيلي
إن تجربة السيطرة على البلاد وعادة إصدار وتلقي الأوامر، وتدريب وتعويد الجسد على تحمل المعاناة، والانتصار والسيطرة على الآخرين- كل ذلك يشكل عادات إدراكية، عقلية وأخلاقية، تجعل من الصعب على أفراد المجتمع الاعتراف بصلة الحساسية والضعف التي تربط بين الناس (البشر) كافة، بمعنى ضعفهم وضعف غيرهم. فهذه العادات هي التي تصوغ أيضا الخلفية والثقافة اللتين تجري فيهما علاقات القوة بين الأطباء ومرضاهم. وفي مثل هذا السياق فإن الطبيب الذي يثق ويؤمن بقدرته أكثر من اللازم لن يجد سبيلا إلى معرفة لغة الشفقة. صحيح أن هناك بطبيعة الحال ممرضات ومستشفيات وأطباء إنسانيين ومهنيين، ولكن هؤلاء لا يشكلون القاعدة في المجتمع الإسرائيلي العام الذي اعتاد عدم التأثر أو عدم الانفعال إزاء أعمال القتل وهدم وتدمير بنى الحياة. فإذا كان رئيس الدولة الحالي رؤوفين ريفلين قد تعرض للإساءة والذم بشكل غير مسبوق فقط لأنه أعرب عن شفقته تجاه الأقلية العربية المقموعة في الدولة، وإذا كان الإعراب عن الشفقة إزاء ما تعرض له قطاع غزة من دمار وخراب قد أعتبر "خيانة"، فإن ذلك يدل على أن كلمة الشفقة ذاتها لم تعد جزءا من القاموس الأخلاقي لدى الإسرائيليين.
في تونس كان الحادث الذي أحرق فيه أحد الشبان نفسه، كافيا لإشعال ثورة في ذلك البلد، بينما في إسرائيل التي وقعت فيها عدة أحداث مشابهة خلال العام 2012، لم يرد ذكر هذه الأحداث سوى على هامش الأخبار. والسؤال: لماذا يؤدي حادث إحراق شاب لنفسه في تونس إلى إثارة غضب جماعي عارم، بينما لا يؤدي حادث مشابه لدينا – في إسرائيل – إلى إثارة أي رد فعل عدا عدم الاكتراث واللامبالاة؟! الجواب: لأن أحاسيس قسم متزايد من الجمهور الإسرائيلي أضحت بليدة تجاه معاناة الآخرين ومعاناتنا نحن أنفسنا (وإنني لا أتساءل هنا حول ما إذا كانت هناك علاقة بين بلادة الأحاسيس المتزايدة تجاه معاناة الآخرين وبين تنامي قوة أحزاب اليمين المتطرف في العقدين الأخيرين، مثل أحزاب "البيت اليهودي" و"إسرائيل بيتنا" و"الليكود" و"ياحد - الشعب معنا"؟!)
إن هذا التحليل عبرت عنه تماماً لهجة النقاش التي تخللت مؤتمراً نظمته حركة "إم ترتسو - إذا أردتم" (حول موضوع "المتسللين" من إفريقيا) وحضره ممثلون رسميون لقطاعات مختلفة في المجتمع الإسرائيلي. وقد عبر عن ذلك جيداً أحد الحضور، وهو مواطن بسيط يدعي ليئاف مرمر (من "بات يام" قرب تل أبيب) بقوله: "المشكلة هي أنه لا توجد لديهم (أي قضاة المحكمة الإسرائيلية العليا) يهودية، ولذلك فإن جميع قراراتهم وأحكامهم تنبع من الناحية الإنسانية". ويعني ذلك من وجهة نظر هذا المواطن أن النظر لهذه المسألة (مسألة "المتسللين" الأفارقة) من زاوية إنسانية يعتبر شيئا يستحق الشجب والإدانة، ويشكل "انحرافا" عن الفرضيات الأساس التي توجه السياسة الرسمية لدولة إسرائيل.
ذلك هو المناخ الأخلاقي والسياسي الذي نشأ رويدا رويدا وبات يقوض قواعد ومعايير الشفقة والإنسانية لدى المجتمع الإسرائيلي بأكمله. وفي الواقع فإن تلك النظرة التي تجعلنا لا نرى إنسانية "المتسللين" الأفارقة، والسكان الفلسطينيين المدنيين الذين يعيشون في خوف ورعب من هجمات الجيش الإسرائيلي، هي نفس النظرة التي تقفز عن معاناة المريض البسيط في المستشفى حتى لو كان إسرائيلياً.
يسمى الإسرائيليون أنفسهم "صباريين" (صابرا)، على اسم الفاكهة (الصبّار) التي تكون قشرتها مليئة بالأشواك الوخازة، بينما تكون الثمرة الداخلية طرية وحلوة المذاق. وهذه الاستعارة العميقة تعترف بقسوة الطبع (المزاج) الإسرائيلي الجماعي، لكنها تعوض عن ذلك إذ تعد بحلاوة مذاق خفية ستظهر بعد إزالة قشرة حبة الفاكهة.
لقد كان من الممكن لفترة من الوقت العثور على تلك "الحلاوة" الخفية في الاقتصاد الاشتراكي لدولة إسرائيل، في قيمها المتساوية، في وجود مجموع يهودي متحرر من سيطرة الدين، في شجاعة شعب آثر تخليد تاريخه بواسطة مبادئ أخلاقية تقوم على الحق في تقرير المصير. غير أن هذه "الحلاوة" لم يعد لها وجود، فقد استبدلت بالشعور بأن القوة العارية تسيطر في العلاقات الدولية، في العلاقات بين الدولة ومواطنيها، في الاقتصاد، وبالأساس في العلاقات بين المواطنين وبين أنفسهم، من هنا لا غرابة إذن في أنه لم يعد ممكنا نزع قشرة الفاكهة... وفي أننا بقينا فقط مع قشرتها السميكة والوخّازة!