المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1488

هذا "المسار الجانبي السرّيّ" جاء مكمّلا للمسار الرسمي والمعروف (العلني) الذي تقوم السلطات الإسرائيلية من خلاله بوضع وإعداد مخططات البناء الاستيطاني، إيداعها والتصديق عليها بواسطة الهيئات والأذرع الرسمية المختلفة، وفي مقدمتها الحكومة الإسرائيلية نفسها اعتماد هذا المسار يشكل نقضاً واضحا وفظا لتعهدات قطعتها دولة (حكومة) إسرائيل على نفسها، دوليا ("خارطة الطريق") ومحليا (رد إلى "محكمة العدل العليا")، بإخلاء هذه البؤر وإزالتها

 

  

 

عشر سنوات، بالضبط، مرّت منذ نشر تقرير "البؤر الاستيطانية غير المرخّصة"، الذي أعدته المحامية طاليا ساسون، المديرة السابقة لوحدة المهمات الخاصة في النيابة العامة في إسرائيل، وقدمته في العام 2005 إلى رئيس الحكومة آنذاك، أريئيل شارون، وتوصلت في منتهاه إلى القول القاطع، من الوجهة القانونية ـ القضائية،  بأن "إنشاء هذه المواقع / البؤر يشكل خرقا متواصلا، فظا ومؤسساتيا، للقانون يقوّض أسس سيادة القانون"!

 

والآن، بعد عشر سنوات على تقرير طاليا ساسون هذا، تأتي منظمة "يش دين" ("يوجد قانون"-منظمة متطوعين لحقوق الإنسان) الإسرائيلية لتكشف النقاب عما تصفه بأنه "تحوّل دراماتيكي" حصل منذ أربع سنوات، أي منذ العام 2011، في كل ما يتصل بسياسة دولة إسرائيل وحكوماتها بخصوص هذه "البؤر الاستيطانية غير القانونية". ويتمثل هذا التحول، باختصار وبوجه أساس في: إنشاء إسرائيل "مساراً جانبيا وخفيّا" لتشجيع، دعم وتوسيع البناء الاستيطاني من خلال وبواسطة شرعنة (منح تراخيص) عشرات البؤر الاستيطانية التي تم إنشاؤها، في الأصل، بصورة غير قانونية، وسط توظيف جهود وموارد كبيرة جدا لهذا الغرض. ويأتي هذا "المسار الجانبي السرّيّ" مكمّلا للمسار الرسمي والمعروف (العلني) الذي تقوم السلطات الإسرائيلية من خلاله بوضع وإعداد مخططات البناء الاستيطاني، إيداعها والتصديق عليها بواسطة الهيئات والأذرع الرسمية المختلفة، وفي مقدمتها الحكومة الإسرائيلية نفسها.

 

تقدم منظمة "يش دين" كشفها هذا الآن من خلال تقرير خاص أعدّته، بحثاً وكتابة، زيف شطهل، مديرة دائرة الأبحاث في "يش دين"، وأصدرته المنظمة في أوائل شهر آذار الأخير تحت العنوان التالي: "تحت الرادار ـ السياسة الهادئة في تحليل بؤر غير مُجازة وجعلها مستوطنات رسمية". (يستخدم التقرير مصطلح "تحليل" المستعار من الشريعة اليهودية، بمعنى: جعله حلالاً ـ كاشير ـ وهو ما سنستخدم له هنا مصطلح "شرعنة"، أي: جعله شرعيا وقانونيا).  

 

ويشمل التقرير، الذي يقع في 34 صفحة، ستة أبواب هي، على التوالي:

 أ ـ خلفية، وفيها: 1. المستوطنات والبؤر طبقا للقانون الإنساني الدولي؛ إدارة المنطقة الخاضعة للاحتلال كوديعة ولمصلحة السكان المحليين؛ حظر نقل سكان مدنيين إلى المنطقة المحتلة؛ مبدأ وقتيّة الاحتلال؛ 2. خلفية إنشاء البؤر؛ 3. ضلوع الدولة في إنشاء البؤر وفي حفظ وجودها: الحماية والأمن/ الجيش؛ تخصيص الأراضي/ المسؤول عن الممتلكات الحكومية والمهجورة في الإدارة المدنية وقسم الاستيطان؛ الدعم في التمويل، في البناء وفي البنى التحتية/ وزارات حكومية مختلفة، سلطات شعبية عامة وقسم الاستيطان؛ عدم تطبيق القانون الجنائي والإداري على البناء غير القانوني/ حكومة إسرائيل، الإدارة المدنية، لواء "شاي" ("لواء يهودا والسامرة") في شرطة إسرائيل والنيابة العامة للدولة.

ب ـ تحولات في السياسة: تراجع عن نيّة الإزالة ومنحى للتسوية.

ج ـ المسار الهادئ: إقامة مستوطنات جديدة بشرعنة بؤر غير قانونية: معطيات ـ نحو الربع من هذه البؤر أتِمّت مهمة شرعنته، أو هو قيد إجراءات الشرعنة في المسار الهادئ؛ 13 بؤرة غير قانونية تمت شرعنتها و"تبييض" البناء فيها؛ 12 بؤرة في مراحل مختلفة من إجراءات الشرعنة، بعد أن تجاوزت المرحلة الأولى، إذ أصدرت القيادة السياسية تعليمات بإنجاز شرعنتها.

د ـ إسقاطات على حقوق الإنسان بين الفلسطينيين.

هـ ـ التأثيرات على مجموعات فلسطينية: حالة اختبارية.

و ـ سلاسل استيطانية.

 

ثلاث مراحل لشرعنة البؤر

 

 يؤكد التقرير أن السلطات الرسمية المختصة قد أنجزت، حتى اليوم، شرعنة ما يعادل رُبع هذه البؤر الاستيطانية غير القانونية (25 بؤرة من أصل 100 في الضفة الغربية)، أو أن بعضا منها هو قيد الإجراءات الرسمية لإنجاز شرعنته نهائيا وأن هذا كله يتم، على قدم وساق، تنفيذا لقرارات وتوجيهات المستوى السياسي. 

 

ويشير التقرير إلى أن شرعنة البؤرة الاستيطانية تشترط توفر وتحقق ثلاثة مكوّنات/ مركّبات، تمثل عمليا ثلاث مراحل:

أولا: المركّب السياسي ـ قرار من الجهات السياسية الرسمية المختصة وتعليمات رسمية بشأن فحص إجراءات الشرعنة، إتاحتها ودفعها قدما، إلى جانب تعليمات رسمية أخرى بشأن "طابع الشرعنة" ـ أي، كمستوطنة جديدة مستقلة أم كحيّ جديد يتم إلحاقه بمستوطنة قائمة. والتجسيد الفعلي لهذه التعليمات يتمثل في تحديد منطقة نفوذ المستوطنة الجديدة، أو توسيع منطقة نفوذ قائمة ومصادق عليها بحيث يصبح في الإمكان إلحاق البؤرة المراد شرعنتها بها، من الناحية التخطيطية ـ التنظيمية القانونية.

 

ثانيا: المركّب التملّكي ـ أن تكون قطعة الأرض المقامة عليها البؤرة "غير خاصة". أي، أن تكون الأرض مسجلة رسميا ضمن "أراضي الدولة" أو تم الإعلان عنها كذلك من قبل الدولة، في إطار إجراء إداري خاص. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الإعلان عن مساحة ما من الأرض "أراضي دولة" يستوجب تنفيذ إجراء إداري خاص يسمى "تصنيف أراضٍ" الغرض منه هو استيضاح وضعية الأرض القانونية، قبل إعلانها "أراضي دولة".  

 

ثالثا: المركّب التخطيطي ـ دفع وتنفيذ الإجراءات التخطيطية والتنظيمية اللازمة (لدى دوائر التنظيم والبناء المختصة) حتى المصادقة النهائية على خارطة هيكلية مناسبة وإصدار تراخيص البناء اللازمة، على أساسها وبموجبها. وتجري جميع المداولات حول هذه "الخارطة الهيكلية" تمهيدا لإقرارها في "المجلس الأعلى للتخطيط" التابع للإدارة المدنية، وتحتاج كل واحدة من مراحل التخطيط إلى مصادقة وزير الدفاع، قبل الانتقال إلى المرحلة التالية.

 

وقد تم إنجاز هذه الإجراءات وإتمام هذه الشروط كلها بالنسبة إلى 13 بؤرة "غير قانونية" كهذه: أربع منها تمت شرعنتها والإعلان عنها مستوطنات جديدة مستقلة هي ـ "رحليم" (سوية مع "نوفي نحاما")، "سنسنا" و"بروخين"، بينما تمت شرعنة التسع الأخرى وإلحاقها أحياءً جديدة لمستوطنات قائمة، غير أن الجزء الأكبر منها تعمل كمستوطنات جديدة مستقلة (بما في ذلك من حيث المؤسسات الجماهيرية الرسمية المختلفة).

 

وفي المقابل، هنالك 12 بؤرة أخرى لا تزال قيد إجراءات ومراحل الشرعنة المتقدمة بعدما أصدرت الجهات السياسية المخوّلة تعليمات رسمية بفحص ودفع شرعنة هذه البؤر: ست منها في مرحلة تخطيطية ـ تنظيمية متقدمة جدا (وبعضها تجاوز مرحلة إقرار الخرائط الهيكلية تمهيدا لإيداعها بغية التصديق الرسمي النهائي عليها) وست أخرى في مراحل التحضير للإعلان عن الأراضي المقامة عليها "أراضي دولة" أو في مراحل فحص وضعية الأراضي من ناحية قانونية، تمهيدا للشروع في إجراءات الإعلان عنها "أراضي دولة". ومع انتهاء إجراءات التخطيط والتنظيم هذه، تكون هذه البؤر جميعها قد استوفت شروط شرعنتها وتحوّلها إلى مستوطنات قانونية تماما من وجهة نظر القانون الإسرائيلي. 

 

إنشاء مستوطنات جديدة - نقض للتعهدات

 

من الواضح، بالطبع، أن مصطلح "شرعنة البؤر" ("تحليلها") ينطوي على كثير من التمويه والتضليل. ذلك أن عملية "الشرعنة" هذه تعني، في محصلتها، إنشاء مستوطنات جديدة، بما يشكل نقضا للتعهدات السياسية التي قطعتها دولة إسرائيل على نفسها وعادت وكررت التزامها بها، مرارا، وفي جوهرها: تجميد ووقف أعمال البناء الاستيطاني في الضفة الغربية، من جهة، وإزالة جميع البؤر الاستيطانية "التي أقيمت بصورة غير قانونية"، من جهة أخرى، وهو التعهد الذي قطعته إسرائيل بشكل خاص في أعقاب خطة "خارطة الطريق" التي طرحت في نيسان من العام 2003 كمشروع لإنهاء النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. وأحد التعهدات الأساسية التي تضمنتها تلك الخطة كان يقضي بتفكيك، إخلاء وإزالة جميع "البؤر غير القانونية" التي تم إنشاؤها بعد آذار من العام 2011. ورغم أن هذا التعهد بقي حبرا على ورق ولم يتم تنفيذ شيء منه على الإطلاق على أرض الواقع، إلا أن دولة إسرائيل اضطرت ـ من خلاله ـ إلى "تبني" الموقف السياسي الذي يعتبر "البؤر غير القانونية" وبقاءها انتهاكا متواصلا للقانون ينبغي العمل من أجل وقفه وإنهائه، إلى جانب الإقرار بواجب إسرائيل في الدفاع عن حقوق ملكية الفلسطينيين وحمايتها ـ ملكيتهم على أراضيهم التي أقيمت وتقام عليها هذه البؤر الاستيطانية "غير القانونية".

 

وتأسيساً على هذا، ذهبت منظمة "يش دين" في تقريرها هذا إلى اعتبار "مسار الشرعنة" الذي تكشف عنه هنا "تحولا سياسيا دراماتيكيا من جانب دولة إسرائيل، يحدث من تحت رادار الجمهور الإسرائيلي والمجتمع الدولي"، خاصة وأن الدولة (حكومة إسرائيل) كانت قد أعلنت في العام 2008 بأنها "تعتزم إخلاء جميع الأبنية غير القانونية في الضفة الغربية، وفقا لسلم أولويات محدد" وضعته وعرضته. وقد جاء إعلان الحكومة هذا في متن رد رسمي قدمته إلى المحكمة العليا الإسرائيلية التي كانت تنظر في التماس حركة "السلام الآن" ضد البناء غير القانوني في بؤرتيّ "حورشا" و"هيوفيل".

 

ويذكر هنا أن الغالبية الساحقة من هذه "البؤر غير القانونية" أقيمت ابتداء من منتصف التسعينيات وحتى منتصف سنوات الـ 2000. وقد جرى ذلك كله ليس فقط تحت أسماع وأبصار الدولة، الحكومة، وأذرعها الرسمية المختلفة ـ الأمنية، العسكرية، السياسية والقضائية ـ بل كانت الحكومة هي الجهة المباشرة التي أعطت الضوء الأخضر وسمحت بإقامة هذه البؤر، رصدت الأموال اللازمة لتمويل تكاليف إقامتها ثم دعمت وجودها فقدمت لها (ولا تزال، حتى اليوم أيضا) مختلف المعونات الاقتصادية المباشرة وخدمات الحراسة والحماية الأمنية، بينما تواصل التصريح  ـ في المقابل ـ بأن مكانة هذه البؤر، التي أقيمت بصورة مخالفة للقانون، "ليست مساوية لمكانة المستوطنات" ("القانونية") وبأنها "طبقا لتعهداتها السياسية الدولية، فهي لا تقيم مستوطنات جديدة"!!

 

ويشير تقرير "يش دين" إلى أن المنظمة تقوم الآن، في إطار عملها، بتوثيق ومعالجة ما يزيد عن ألف حالة موضوعها المسّ بحق مواطنين فلسطينيين في الحياة، في الأمن والمس بحق الملكية، وهي حالات يقع الجزء الأكبر منها في مناطق محاذية جدا للبؤر الاستيطانية "غير القانونية". ويشكل القبول بواقع وجود هذه البؤر، بل تحويلها إلى مستوطنات" شرعية وقانونية"، توفير غطاء دائم من الشرعية للاعتداء على عشرات الآلاف من الفلسطينيين والمسّ بهم وبحقوقهم الأساسية. 

 

ويستدل من المعطيات أن دولة إسرائيل قد تبنت في السنوات الأخيرة ما يمكن وصفه بأنه "سياسة خفيّة" في صلبها إنشاء مستوطنات جديدة أو توسيع مستوطنات قائمة، وذلك بواسطة شرعنة البؤر "غير القانونية" ومن خلالها، بما يعني عمليا شرعنة كل ما ينطوي عليه فعل إقامة هذه "البؤر" من مخالفات واعتداءات.

 

 

 

 

المصطلحات المستخدمة:

شاي, الإدارة المدنية, رئيس الحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات