تلخص هذه المقالة كيف تنظر إسرائيل إلى التطورات المتسارعة في سورية، على ضوء الهجوم المفاجئ للمجموعات المسلحة، ابتداء من سيطرتها على مناطق أوسع في شمال شرق سورية وصولاً إلى دخولها إلى العاصمة دمشق والإعلان عن سقوط نظام حزب البعث. وبينما أن الحكومة الإسرائيلية والهيئات العسكرية تداولت فيما بينها بشأن هذه التطورات، وبدأت بتوجيه اهتمامها السياسي، والعسكري، والاستخباراتي إلى ما يحصل داخل سورية، فإن مراكز تفكير إسرائيلية تقدم نظرة أوسع إلى المصالح الإسرائيلية، وكذلك إلى الفرص المتاحة أمام إسرائيل لاستثمار هذه التطورات جيوسياسيا، والمخاوف التي على القيادة السياسية والعسكرية لدولة إسرائيل أن تاخذها بعين الاعتبار.
(1)
منذ اندلاع الصراع في سورية العام 2011، ركزت إسرائيل على مواجهة التهديدات الأمنية الناجمة عن النفوذ الإيراني ونقل الأسلحة المتطورة إلى حزب الله، الذي يُعتبر تهديداً مباشراً لأمنها. ضمن هذا السياق، عززت إسرائيل تعاونها العسكري مع روسيا لتجنب الاصطدام بين قواتهما العاملة من أجل أهداف متباينة داخل سورية. في الوقت ذاته، فضّلت إسرائيل استمرار نظام الأسد كـ "شرّ معروف"، خشية تداعيات سقوطه وما قد يرافق ذلك من فوضى أو صعود الجماعات الجهادية. اتبعت إسرائيل سياسة خطوط حمراء واضحة تشمل منع استخدام الأسلحة الكيميائية ونقلها، إضافة إلى منع توغل الميليشيات الإيرانية في المناطق الحدودية. كما استغلت البعد الإنساني كأداة دبلوماسية، حيث قدمت مساعدات إلى بعض مصابي المعارضة المسلحة والفصائل الإسلامية في المناطق الحدودية. علاوة على ذلك، عملت إسرائيل على بناء تحالفات تكتيكية مع بعض الفصائل السورية، مع التكيف مع وجود النظام السوري في الجنوب بدعم روسي وإيراني. وترى مراكز أبحاث عديدة أن النفوذ الإيراني في سورية كان يشكل تحدياً استراتيجياً طويل الأمد لإسرائيل التي تسعى لاحتوائه عبر تنسيق دولي دقيق.
(2)
في أواخر تشرين الثاني 2024، شنت "هيئة تحرير الشام"، بدعم تركي واضح وبمشاركة من فصائل المعارضة الأخرى مثل الجيش الوطني السوري، هجوماً واسع النطاق ضد قوات النظام السوري وحلفائه. أدى هذا الهجوم إلى تفكك نظام الأسد فجر يوم الاثنين 8 كانون الأول 2024، تقريباً بدون مواجهات عسكرية، وإلى مغادرة بشار الأسد لسورية.
تنظر مراكز التفكير الإسرائيلية إلى هذه التطورات في إطار "ساحة الحرب" التي تنشط فيها إسرائيل عسكرياً ضد حزب الله. وتمتد هذه الساحة إلى الأراضي السورية التي تلعب دوراً مزدوجاً، حيث تُستخدم كقواعد عمليات تنسيقية بين إيران وحزب الله، وكطرق لوجستية لنقل الأسلحة إلى حزب الله في لبنان.
(3)
لا تشير مراكز التفكير الإسرائيلية إلى قدرة إسرائيل على التحكم المباشر في التطورات الجارية في سورية أو اتخاذ موقف رسمي واضح من المعارضة السورية التي استولت على مساحات حيوية داخل البلاد، إلى جانب امتلاكها أسلحة ومعدات حربية متقدمة. بدلاً من ذلك، تقدم هذه المراكز إطاراً تفسيرياً لهذه التحولات على أنها "نتيجة مترتبة" وليست نتاجاً مخططاً له مسبقاً، لما تسميه بـ"الإنجازات الحربية" الإسرائيلية ضد محور إيران- سورية- حزب الله. وفقاً لهذا الطرح، فإن الضربات الإسرائيلية القوية التي استهدفت حزب الله أدت إلى انسحاب قواته من مواقع استراتيجية داخل سورية، حيث كانت تشكل سابقاً جزءاً من شبكة الدفاع عن النظام السوري. بالإضافة إلى ذلك، ساهم انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية في تقليل وجودها العسكري داخل سورية، مما أضعف الدعم الروسي للنظام السوري في مواجهة المعارضة. وبالرغم من أن الضربات الإسرائيلية في سورية كانت تهدف أساساً إلى تقويض قدرات حزب الله ومنعه من استخدام الأراضي السورية كجسر بري حيوي يربطه بإيران، فإنها في الوقت ذاته أضعفت قدرة النظام السوري على الحفاظ على سيطرته على أراضيه. وهذا الوضع، بالنسبة لإسرائيل، يحمل أهمية استراتيجية، إذ إن انهيار النظام السوري قد يؤول الى التوقف عن توفير حماية لخطوط الإمداد لحزب الله. مع ذلك، فإن استيلاء المعارضة السورية على هذه المناطق يضع إسرائيل أمام خيارات استراتيجية معقدة وغير محسومة.
(4)
تشير التوصيات الصادرة عن مراكز التفكير الإسرائيلية إلى بروز عدة مخاوف رئيسية لدى إسرائيل في ظل التحولات الجارية في سورية. أولاً، يمثل صعود الجماعات الجهادية المسلحة المزودة بأسلحة متطورة مصدر قلق لإسرائيل، خاصة في ضوء استيلاء المعارضة على قواعد عسكرية سورية تحتوي على أسلحة تتجاوز الإمكانيات التقليدية للمعارضة. ثانياً إذا تمكنت المعارضة من ترسيخ سلطتها على الأراضي التي تسيطر عليها، يصبح لزاماً على إسرائيل تحليل طبيعة النظام السياسي الذي قد تفرزه هذه المعارضة. تثير هذه القضية تساؤلات استراتيجية حول مستقبل العلاقة بين المعارضة وإسرائيل، وما إذا كانت هذه العلاقة ستمثل تهديداً أو فرصة لإعادة صياغة الترتيبات الإقليمية. ثالثاً، يمثل النزوح الجماعي للسكان، بمن فيهم تشكيلات عسكرية، من مناطق شمال شرقي سورية في اتجاه الجنوب قلقاً إضافياً لإسرائيل. يؤدي هذا التحرك إلى زيادة التوترات قرب الحدود السورية- الإسرائيلية، مع احتمالية ظهور تداعيات أمنية مباشرة.
(5)
من منظور جيواستراتيجي، تُعدّ سورية نقطة تقاطع للمصالح الإقليمية، مثل إيران وتركيا، والمصالح الدولية، مثل روسيا والولايات المتحدة. غالباً ما يتم تحليل الصراع داخلها وتصنيف المصالح من خلال ثنائيات مثل سني- شيعي أو روسيا والشرق في مواجهة الولايات المتحدة والغرب. يمثل اختلال التوازن الذي أحدثه سقوط النظام السوري عاملاً يجعل اهتمام إسرائيل الأمني بما يحدث داخل سورية مرتبطاً بأخذ المصالح الإقليمية والدولية الأخرى بعين الاعتبار. إن هذا الواقع يفتح المجال أمام المساومات والتجاذبات والتنازلات بين الأطراف المختلفة. ومن شأن هذه التفاعلات أن تؤثر بشكل مباشر على مسار الحرب الإسرائيلية ورؤية الجيش الإسرائيلي لشكل "الجبهة الشمالية" في المستقبل.
(6)
بعد سقوط نظام الأسد، قامت إسرائيل بتوسيع نطاق تدخلها العسكري في سورية من خلال اجتياح عدة كيلومترات داخل مناطق وقف إطلاق النار، واستهداف منشآت استراتيجية متنوعة. يشير هذا التحول إلى دخول مرحلة جديدة في التدخل الإسرائيلي، حيث لم تعد العمليات تقتصر على منع اللوجستيات إلى حزب الله، بل باتت تسعى إلى إعادة تشكيل البنية العسكرية والتكنولوجية والبنية التحتية داخل سورية. ويهدف هذا التوجه إلى التأثير العميق في إمكانية إعادة بناء سورية كمجتمع جديد بما يتماشى مع الرؤية الإسرائيلية للمستقبل الإقليمي، ما يفتح المجال أمام تحولات استراتيجية غير مسبوقة في طبيعة الصراع وفي ديناميكياته.
المراجع:
Nir Boms and Stéphane Cohen. "Israel and Syria: A Decade of War, 2011–2021." Israel Journal of Foreign Affairs 16, no. 1 (2022): 31-51.
Maya Hadar. "The War in Syria: An Israeli Perspective." IFK Monitor International. Vienna: Austrian National Defence Academy, October 2017
Helle Malmvig. "Israel’s Conflicting Interests in the Syrian War." DIIS Policy Brief, December 2016. Danish Institute for International Studies.
Meir Amit Intelligence and Terrorism Information Center. "The Rebel Attack in Syria: What Does It Mean for Israel?" December 6, 2024
كارميت فالنسي، "هجوم المتمردين في سورية: منعطف إستراتيجي أم حدث عابر"، نشرة استراتيجية رقم 1924، معهد أبحاث الأمن القومي، منشور بتاريخ 2 كانون الأول 2024.