منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 واندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة، وانضمام حزب الله إلى المواجهة على الجبهة الشمالية وجماعة أنصار الله الحوثي من اليمن على شكل جبهات إسنادية لقطاع غزة، انشغلت العديد من القراءات الإسرائيلية في بحث نجاعة المنظومة الدفاعية أمام التهديدات الصاروخية من قطاع غزة ولبنان واليمن والعراق، كما ذهب بعضها لتسليط الضوء على الاعتماد المفرط على الاستراتيجية الدفاعية لإسرائيل التي تعتمد على الوسائل التكنولوجية وإسهام ذلك في فشل 7 أكتوبر وتوريط إسرائيل في حرب استنزاف على الجبهات المختلفة. في المقابل، روجّت العديد من التقارير للقدرات الدفاعية المميزة لإسرائيل والتي تم اختبار بعضها للمرة الأولى خلال هذه الحرب وتحديداً منظومتي السهم 2، والسهم 3. جزء من المساهمات المذكورة، تجمع بين المسألتين، الترويج للمنظومة الدفاعية الإسرائيلية ضد التهديدات الصاروخية، وتوجيه النقد للاستراتيجية الدفاعية الإسرائيلية التي تم تبنّيها على مدار السنوات الماضية، وسط تزايد الحديث عن مخاطر الحرب الشاملة مع إيران والمحور التابع لها في المنطقة، بما يمتلكون من قدرات صاروخية متفاوتة من حيث المدى ودقة الإصابة والقدرات التدميرية.
تُقدّم هذه المساهمة قراءة سريعة في تقرير إسرائيلي أعدّه د. يوفال بوستن لموقع Israel forbes، يتناول فيه تاريخ تطور التهديدات الصاروخية ضد إسرائيل ونظرة عامة شاملة على استراتيجية الدفاع الجوي الإسرائيلية متعدّدة الطبقات، ويسلّط الضوء على التقدم التكنولوجي والتطورات المستمرة على منظومة الدفاع الجوي، وكذلك يدرس بشكل نقدي الآثار الواسعة للموقف الدفاعي "الشديد" لإسرائيل أمام التهديدات الصاروخية المتنامية. من المهم الإشارة إلى أن المصطلحات والأفكار الواردة أدناه مصدرها الدراسة نفسها، ولا تُعبّر عن توجهات المركز أو كاتب المساهمة.
يتتبع التقرير تطور التهديد الصاروخي لإسرائيل، حيث يُشير إلى أن المرة الأولى التي تعرّضت فيها الأخيرة إلى مثل هذا النوع من التهديد كان بتاريخ 16 أيلول 1968، وذلك حينما أطلق الوابل الأول من صواريخ الكاتيوشا من الأردن باتجاه بيت شان بدون أن توقع خسائر في الأرواح، وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تتعرّض فيها إسرائيل لهجوم صاروخي عابر للحدود. بعد ذلك بعدّة أشهر، وتحديداً بتاريخ 31 كانون الأول من العام نفسه، تعرّضت كريات شمونه لأول مرة لوابل من صواريخ الكاتيوشا أدت لمقتل 3 إسرائيليين، وقد تحولت مع الوقت إلى المدينة الأكثر عرضة للصواريخ القادمة من لبنان والتي بلغ معدّلها خلال التسعينيات حوالي 300 صاروخ كاتيوشا وقذائف هاون أدت إلى مقتل 3 أشخاص وإصابة أكثر من 167 إسرائيلياً.
يُشير التقرير إلى أن هذا التهديد اتسع على مر السنوات، وقد تأتى ذلك من إدراك "أعداء إسرائيل" صعوبة اختراق حدودها برياً من ناحية، وسهولة وفعالية الهجوم على العمق الإسرائيلي باستخدام الأسلحة الصاروخية من ناحية أخرى، وبذلك، أصبحت الصواريخ الصغيرة والخفيفة والرخيصة السلاح المفضل للمنظمات التي تقاتل إسرائيل، حيث من السهل تهريبها وإخفائها وشحنها، ومتاحة للشراء بكميات كبيرة. لقد كانت هذه الصواريخ في معظمها بدائية وغير دقيقة كما يؤكّد التقرير، إلّا أن إطلاقها بأعداد كبيرة أصبح يُشكل تهديداً كبيراً. مثلاً خلال الحرب الثانية على لبنان في العام 2006، لم تكن إسرائيل قد أنشأت بعد منظومة القبة الحديدية، تم إطلاق حوالي 4200 صاروخ على إسرائيل، وعلى الرغم من أن قرابة 80% منها فشلت في إصابة المناطق المأهولة، إلا أن الـ 20% التي أصابتها تسببت في مقتل 44 إسرائيلياً بشكل مباشر وغير مباشر، و12 جندياً ونحو 2000 جريح، بالإضافة إلى توقّف الحياة في شمال إسرائيل بشكل غير مسبوق على مدار أيام الحرب الطويلة.
أما بالنسبة لقطاع غزة، فيُشير التقرير إلى أنه قد تم تسجيل إطلاق أول صاروخ من القطاع في 16 نيسان 2001 باتجاه سديروت، حيث كان صاروخاً صغيراً وبسيطاً أرض- أرض يحتوي على نصف كيلوغرام فقط من المتفجرات، ورغم الاعتقاد بأن هذا الصاروخ كان وحيداً، إلّا أن الهجمات الصاروخية ازدادت من غزة بشكل كبير: في العام 2001 تم إطلاق أربعة صواريخ على الأراضي الإسرائيلية، وفي عام 2003: ما يقارب من 155 صاروخاً، وفي العام 2006: ما يقارب 2000 صاروخ في السنة، خلال هجوم 7 أكتوبر، أُطلق من قطاع غزة 3000 صاروخ بشكل متواصل.
في المقابل، يُشير التقرير إلى أن إسرائيل قد استثمرت على مرّ السنوات جهوداً هائلة في التعامل مع التهديدات الصاروخية وإحباط التهريب من البحر، وعمليات عسكرية في العديد من الأماكن لتدمير سلسلة إنتاج وتوريد الصواريخ المتوجهة إلى قطاع غزة، وعندما لجأت المنظمات الفلسطينية إلى الإنتاج الذاتي أو تمكّنت من تهريب صواريخ أجنبية الصنع إلى قطاع غزة، شرع الجيش الإسرائيلي في سلسلة من العمليات العسكرية في قطاع غزة من أجل تدميرها.
من العمليات العسكرية إلى الحرب الشاملة
يُشير التقرير إلى أن الجهود العملياتية الإسرائيلية في قطاع غزة يُمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام بحسب المدّة الزمنية: الفترة ما بين 2004-2008، أي السنوات التي سبقت الحرب على غزة المعروفة إسرائيلياً بـ "الرصاص المصبوب"، حيث قام فيها الجيش بتنفيذ عدد من العمليات القصيرة في قطاع غزة والتي فشلت في إحداث تغيير جوهري. في الفترة ما بين كانون الأول 2008 وحتى آب 2014، شنّ الجيش الإسرائيلي ثلاث عمليات عسكرية كبرى: "الرصاص المصبوب"، و"عمود السحاب"، و"الجرف الصامد"، وعلى الرغم من أن هذه العمليات قد استطاعت تحقيق هدوء نسبي إلّا أنها لم تمنع التنظيمات الفلسطينية في غزة من إعادة تسليح نفسها. الفترة الثالثة الممتدة ما بين عام 2014 والعملية العسكرية "الدرع والسهم" عام 2023، تميزت بمحاولات إنشاء آليات تنظيمية جديدة ضد التنظيمات بغزة، خاضت فيها إسرائيل أربع جولات قتالية كبيرة وعدداً من أيام القتال المحدودة التي زادت حدتها تدريجياً. أخيراً، في تشرين الأول/أكتوبر 2023، اندلعت حرب "السيوف الحديدية" في أعقاب 7 أكتوبر، وهي الحرب التي تأمل فيها إسرائيل بتغيير الواقع في القطاع بشكل جذري، حيث يؤكّد التقرير أن نهج إسرائيل خلال هذه السنوات كان أقرب لـ "جزّ العشب"، وذلك لأن الخيارات كانت محدودة ولم يكن لإسرائيل رغبة في العودة لاحتلال القطاع بعد الانسحاب منه العام 2005، إذ كانت تسعى من خلال توجيه الضربة العسكرية الكبيرة للقطاع بين الحين والآخر لتعزيز الردع والتأثير على قدرة المنظمات واستعدادها لمهاجمة إسرائيل مرة أخرى لأطول فترة ممكنة.
منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي متعدّدة الطبقات
يُشير التقرير إلى أن نظام الدفاع الجوي في إسرائيل مصمم لمواجهة جميع أنواع التهديدات: من صاروخ باليستي يطلق من إيران أو اليمن باتجاه إسرائيل، لمسافة تزيد عن 1000 كيلومتر، إلى صاروخ يطلق من قطاع غزة باتجاه سديروت، أي مسافة 2-3 كم، حيث أن مفهوم الدفاع الجوي الذي تبلور على مرّ السنوات هو متعدّد الطبقات، ويجمع بين مجموعة من الأنظمة التي تلائم التهديدات المختلفة، وتختلف في سرعة الطيران والوقت ونمط الطيران والحجم والكتلة والقدرة على المناورة، وهي على النحو التالي:
- منظومة "حيتس"- السهم 3: هي الطبقة العليا والأبعد المصممة لاعتراض الصواريخ الباليستية خارج الغلاف الجوي، على ارتفاع عشرات الكيلومترات وعلى مسافة مئات الكيلومترات من إسرائيل. سجّلت هذه الطبقة أول اعتراض عملياتي لها {الاختبار الأول} خلال الحرب الحالية على غزة، وذلك عندما اعترضت بنجاح صاروخاً أطلقه الحوثيون من اليمن، على مسافة نحو 1600 كيلومتر من إيلات، من بين جميع الأنظمة الدفاعية، السهم 3 هو الوحيد الذي يقوم فيه الصاروخ بإصابة التهديد (الصاروخ) بدقة- حديد ضد حديد - وليس مجرد إحداث انفجار بالقرب من الصاروخ لإسقاطه.
- منظومة "حيتس"- السهم 2: تتعامل هذه الطبقة مع التهديدات الباليستية التي يتم إطلاقها من مدى مئات إلى حوالي 1500 كيلومتر، وفي العام 2017، سجّل هذا النظام أول نجاح عملياتي له، عندما اعترض صاروخا مضادا للطائرات أطلق من قاعدة سورية من نوع (S־200)، كما تمكن بنجاح من اعتراض التهديدات القادمة من اليمن في الحرب الحالية. يؤكّد القرير أن قسم الصناعات الجوية يعمل بالفعل على تطوير منظومة جديدة تحمل اسم "السهم 4" لاستبدال هذه المنظومة خلال السنوات القادمة، تكون قادرة على مواجهة صواريخ أسرع وأكثر قدرة على المناورة وتحمل رؤوسا حربية متباينة.
- منظومة "كيلع دافيد"- "مقلاع داوود": تقع هذه المنظومة في الطبقة الثالثة (معروقة سابقاً باسم "العصا السحرية") وهي مصممة للتعامل مع الصواريخ الثقيلة والبعيدة المدى 150-200 كيلومتر، التي تمتلكها منظمتا حزب الله وحماس، وكذلك الطائرات المسيرة (طائرات بدون طيار) والصواريخ الباليستية المتوسطة. سجّلت هذه المنظومة أول نجاح (اختبار) عملياتي لها في أيار 2023، عندما اعترضت صواريخ أطلقت على منطقة المركز (تل أبيب وغوش دان) في إطار العملية العسكرية على غزة التي استمرت لعدّة أيام، كما وسجّلت المنظومة في الشهر الأول من هذه الحرب نحو 60 اعتراضاً بنسبة نجاح بلغت 100% بحسب البيانات التي يقدّمها التقرير استناداً إلى وزارة الدفاع.
- منظومة "كيبات برزيل"- "القبة الحديدية": هي الطبقة الرابعة من طبقات الدفاع الجوي، هذه الطبقة مصممة لاعتراض الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى على ارتفاعات منخفضة، كان الهدف من هذه المنظومة التعامل مع التهديدات التي يتراوح مداها من 4 إلى 70 كيلومتراً، ولكن تم توسيع هذا النطاق بشكل كبير منذ أن أصبح جاهزاً للعمل، اعترض النظام آلاف الصواريخ بينما أظهر تحسناً مستمراً في السنوات الأخيرة وحافظ على معدلات اعتراض عالية في المنطقة، وقد أدى "النجاح المذهل" إلى تحويل "القبة الحديدية" إلى نموذج لأنظمة التصدّي حول العالم، كما يشير التقرير.
- منظومة الليزر: هذه هي الطبقة الخامسة والأدنى، حيث يتم استخدام أنظمة الليزر لاعتراض أصغر التهديدات، والصواريخ قصيرة المدى، كالقذائف الصاروخية والطائرات المسيرة، إلى جانب أنظمة التشويش الإلكترونية للسيطرة على الطائرات المضادة للسفن.
يُشير التقرير إلى أن مفهوم الدفاع متعدد الطبقات في إسرائيل المُشار إليه يعمل بشكل تكميلي لزيادة نجاح الاعتراض، فمثلاً، إذا لم تنجح منظومة "السهم 3" في اعتراض صاروخ باليستي خارج الغلاف الجوي، فسيظل هناك ما يكفي من الوقت لمحاولة إسقاطه من خلال منظومة "السهم 2" وهكذا.
الجيل القادم: الليزر والصواريخ الفرط صوتية
يُشير التقرير إلى أن الصناعات الجوية في إسرائيل تستثمر جهوداً كبيرة في تطوير أنظمة اعتراض جديدة، حيث شرعت شركة "رفائيل" في حزيران 2023 الإعلان عن نيتها تطوير نظام الاعتراض "كليع حاد" الذي من المفترض أن يكون الأول في اعتراض الصواريخ الفرط صوتية المناورة. هذه المنظومة، بحسب التقرير، تعتمد على السلاح الذي استخدمه الروس لأول مرة في الحرب في أوكرانيا، من خلال أنظمة دفع تزيد سرعة الصاروخ إلى أكثر من خمسة أضعاف سرعة الصوت– أي أسرع بكثير من الصواريخ التي تتصدّى لها "القبة الحديدية". وقد جاء هذا الإعلان، كما يؤكّد التقرير، بعد أسبوع من إعلان إيران عن البدء بتطوير أول صاروخ فرط صوتي "سيكون قادراً على الهروب من أنظمة الدفاع الصاروخية الأميركية والإسرائيلية". وإلى جانب هذه المنظومة قيد التطوير، تعمل إسرائيل على تعزيز منظومة "القبة الحديدية" من خلال تزويدها بأنظمة اعتراض تعتمد على الليزر، حيث من المتوقع أن يكون اعتراض الليزر أكثر دقة وسرعة وأقل تكلفة بكثير (بضعة شواكل فقط مقارنة بتكلفة صاروخ "تامير" الذي يصل إلى حوالي 50 ألف دولار)، بالإضافة إلى أن الليزر لن يواجه مشكلة في الإمدادات مقارنة بالصواريخ الاعتراضية التي تعتمد على مخزون محدود، ونظرياً، يمكن لهذه الطريقة أن تجعل استخدام الإنذارات في إسرائيل غير ضروري لأن الاعتراض "لن يكون فوق إسرائيل بل في أراضي العدو".
يؤّكد التقرير أن منظومة الليزر الأولى التي من المقرر أن تدخل إلى الخدمة هي "ماغين أور" من تطوير شركة رافائيل، وقد كان من المقرر أن تبدأ تجربتها التتشغيلية الأولى خلال هذا العام، لكن تم تأخير ذلك بسبب الحرب، التي ربّما ستشكّل فرصة لإجراء اختبارات عملياتية مباشرة في الميدان. من ناحية أخرى، يؤكّد التقرير أن الجهات ذات الصلة في إسرائيل تعمل على تخفيف التوقعات من هذه المنظومة، حيث من المقرّر أن تعمل إلى جانب "القبة الحديدية" وليس بديلاً لها، وذلك لأنها غير قادرة على العمل في ظروف الطقس المختلفة (الأمطار مثلاً)، ولن تكون فعالة ضد الصواريخ الثقيلة التي تحتوي عادة على طبقات حماية من الحرارة.
ختاماً، يؤكّد التقرير على ضرورة التفكير في المسار المستقبلي لاستراتيجية الدفاع الإسرائيلية، ففي الوقت الذي عزّزت فيه أنظمة الدفاع متعددة الطبقات بلا شك من أمن إسرائيل ضد التهديدات الصاروخية، فإنها تثير أسئلة حرجة حول فعالية مثل هذه الاستراتيجية على المدى الطويل، حيث يؤكّد التقرير أن النهج الدفاعي البحت قد لا يكون مستداماً على المدى الطويل، خاصة إذا لم يكن مصحوباً بجهود دبلوماسية لمعالجة الأسباب الجذرية للتهديدات وعدم الاكتفاء بالتصدّي لها، وذلك لأن الأمن الحقيقي لا يمكن تحقيقه من خلال التكنولوجيا وحدها، بل إن ذلك يتطلب استراتيجية شاملة تتضمن أبعاداً سياسية ودبلوماسية وأخرى كثيرة. وبينما يُقرّ التقرير بالتقدم والنجاحات التكنولوجية الإسرائيلية في مجال الدفاع الجوي ضد التهديدات الصاروخية؛ فإنه يقدم أيضاً تحليلاً نقدياً للقيود والتحديات الكامنة في الموقف العسكري الدفاعي في المقام الأول {البحت}، ويدعو إلى اتباع نهج أكثر شمولية للأمن يتجاوز الحلول التكنولوجية لمعالجة الأسباب الكامنة وراء التهديدات.