المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
صورة تعبيرية. (صحف)

قبل 120 سنة افتتح تاريخ العلوم عهداً مختلفاً على نحو جذري، مع تطوير نظرية الكم الفيزيائية. وبلغت، في العقد الثالث من القرن الماضي، الفيزياء التجريبية مرحلة تمكّنها من إجراء نمط التجارب الكَموميّة في المختبر، عبر قياس مستويات الطاقة الخاصة بالجسيمات، كما تركيبتها الداخلية، واحتمال حركتها على هذا النحو أو ذلك، وتوصيف حركة الذرة بوصفها محصّلة احتمالات حركتها (مبدأ التراكب superposition). بينما، في راهن أيامنا، تتسابق دول العالم في الاستثمار في ما يعتبر "ثورة الكم الثانية" متمثلة في "الحاسوب الكَمومي" بوصفه يتجاوز قصور الحاسوب الكلاسيكي الذي نستخدمه اليوم، عن الأداء المتزامن في مستويات مختلفة ومتعددة، والوقت الطويل الذي يحتاجه من أجل أداء مهمات حسابية وقياسيّة معيّنة.

يقوم هذا التقرير بعرض مسعى إسرائيل للاستثمار في تطوير "الحاسوب الكَمومي"  لديها، ويقدّم أيضاً مادة حول توظيف هذا الحاسوب في مجالات الأمن وفي العمليات العسكرية.

ما حجم الاستثمار الإسرائيلي في "المستقبل"؟

بحسب تقرير "الأكاديمية القومية الإسرائيلية للعلوم"، تستثمر إسرائيل نحو 5.4% من مجمل الناتج القومي المحلي في البحث العلمي لديها. ورغم ما طرأ على إسرائيل في العامين الأخيرين، من أزمة "الإصلاح القضائي" والحرب مع الفلسطينيين، 2023-2024، ما أدى إلى تراجع تصنيف إسرائيل في قائمة مصاف الدول المستثمرة في البحث العلمي بشكل عام؛ ما زال مجال التقنيات المتطوّرة يشكّل 18% من مجمل الناتج القومي المحلي، ونحو 40% من مجمل الاقتصاد الإسرائيلي، وما زالت إسرائيل تقف في المرتبة الرابعة في مجال "الابتكار التقني/ ستارت آب" على مستوى العالم، والذي سجّل هذا العام استثماراً بنحو 1.6 مليار دولار، 38% في مجال السايبر.

في هذا السياق، صدر في شباط الماضي عن معهد أبحاث الأمن القومي - جامعة تل أبيب، بحث "الحوسبة الكَموميّة: المستقبل هنا". يشير البحث إلى استثمار "البرنامج القومي للعلم والتقنية" حتى العام 2020، بنحو 1.5 مليار شيكل، بتمويل 200 مليون شيكل من "سلطة التطوير" و"المعهد لتطوير معدّات القتال في وزارة الدفاع" بالتشارك مع شركات إسرائيلية ووزارات أخرى، بالحاسوب الكَمومي قيد التطوير. في حين بلغ الاستثمار في مجال التقنيات الكَمومية بين الأعوام 2018-2023، 480 مليون دولار. وفي مسعى تطوير حاسوب كَمومي ذي عشرات وحدات المعلومات الكَمومية "كيوبيت" Qubit (وحدة القياس الكَمومية الأساسية للبيانات في الحاسوب)، صادقت السلطة أعلاه على ميزانية بمقدار 115 مليون شيكل.

ونسبةً للإنتاج القومي، تقف إسرائيل في الدرجة الثانية عالمياً، بعد الصين، في الاستثمار في مجال التقنيات الكَمومية.

ما الجديد في هذا الحاسوب؟

ينطوي الحاسوب على ثلاث خصائص مميّزة: أ- وحدة قياسه "كيوبيت"، والتي تمكن قياس الجسيم Particle في وضعية معيّنة من مستوى طاقة واحتمالات أسلوب حركته بطريق معيّنة، أو كتركيب لهذه الطرق، استناداً لمبدأ التراكب superposition. على سبيل المثال، يتمتّع الحاسوب المطوّر في مختبرات شركة IBM بـ 127 وحدة معلوماتيّة كَموميّة "كيوبيت"، ما يحرره من الإزاحة الكَمومية وضرورة حساب احتمال الخطأ في عمليّة القياس. ب- معالجته لظاهرة "التشابك الكمّي" quantum entanglement. في هذه الظاهرة، ترتبط ذرتان ببعضهما البعض، وتؤثّران ببعضهما البعض على نحو متبادل، ما لا يمكن قياس وضعيّة أي ذرة باستثناء تلك التي ترتبط بها. ج- تعرّض الوضعيات المركّبة لتشويش، بواسطة جسيم الضوء الأولي فوتون photon، على سبيل المثال، وانهيارها، ما يوفّر معرفة واسعة عن هذه الوضعيّة الكَموميّة.

بواسطة هذه الخصائص، يوفّر الحاسوب قدرة على قياس طبقات أعمق للجسيمات، قياساً بما عهده الإنسان حتى يومنا هذا، لناحية ظواهر ذرية أو دون-ذرية (جسيم كَمومي، على سبيل المثال، بوسون Boson أو فرميون Fermion) تنطوي على درجات قياس غير مرئية، يتعذّر الحاسوب الكلاسيكي عن قياسها في مختبر متطور. كما أن الحاسوب الكَمومي يسرّع معالجة المعطيات التي يوفّرها انعكاس الكهرومغناطيسية Infrared، وغيرها، على مواد معينّة. وعموماً، صحيح أن تناسب السرعة في قياس ظواهر فيزيائية لا يصل فارق الحساب الرياضي بين الحاسوبين، بمعدّل 1 ثانية: 50 سنة، ألّا أن سرعة الحاسوب في القياس الفيزيائي قادرة على حل معضلات أساسيّة في علم الفيزياء، مثل إنتاج تفاعل الجسيمات لجسيمات جديدة، الأمر الذي قد يحتاج كاشف جسيمات Particle Detector متطوّر، دون هذا الحاسوب، سنوات لكشفها. موازاةً مع ذلك، يتمتّع الحاسوب الكَمومي بقدرة معالجة وحساب معطيات متعددة وبكميّات فائقة، على نحو متزامن، على عكس الأسلوب التتابعي serical للحاسوب الكلاسيكي.

بهذا الأسلوب، فإن القدرات المذهلة التي يوفّرها الحاسوب الكَمومي، تقف على تجاوزها للعالم الحسّي، والتقنيات المنجزة حتى الآن؛ يلحق هذا بسرعة كبيرة في معالجة المعطيات قياساً بالوتيرة الحالية، والقيام بمعالجات مختلفة المستويات والأبعاد على نحو متزامن.

واستناداً لهذه العناصر في الحاسوب، يعدد الباحث في معهد أبحاث الأمن القومي يهوشع كليسكي القدرات التالية التي يوفرها الحاسوب في مجالات الأمن والصناعة العسكرية:

أ- تشفير المعلومات والقدرة العالية على تخزينها وإحكام السريّة عليها، بالإضافة للقدرة على نقلها، بسرعة فائقة، من قواعد البيانات الضخمة إلى الخوادم الحسابية.

ب- القدرة على كسر آليات التشفير لدى العدو، في غضون ثوان معدودة، ما سيغيّر البعد الرقمي في المعارك، والحرب السيبرانية، على نحو حاسم من المصفوفات الرقمية إلى التقنيات الكَموميّة.

ج- تحييد قدرة العدو على التنصّت في المجال العسكري والاستخباراتي.

د- تقليل الخطر في إجراء التجارب النووية، وتوفير معدّات مختبرية وطواقم بحثيّة من أجل تطوير معدّات قتالية وبنجاعة أعلى، مثل المواد المتفجّرة، أو معدّات دفاعية ضد السلاح الكيميائي أو البيولوجي.

ه- في ميدان المعركة، سيوفّر الحاسوب بواسطة توجيه موجات ليزر، قدرة على تقدير المسالك الأكثر أمناً للقوات المتقدّمة في محاور توغّلها، ويذكر الباحث: "يوفّر الحاسوب الكَمومي القدرة على حساب الخطر الكامن في عدّة مسارات محتملة، أو عناوين محددة، أو على نطاق أوسع، المسارات المنطوية على تعدد في متغيّرات يجري إحصاء مجمل ما تحتمله. بهذا الأسلوب، يوفّر الحاسوب الحل الأمثل بحساب متزامن لجميع المسارات المتاحة والمتغيّرات الكامنة فيها (وهي في "لغة الفيزياء"، سلسلة الحلول الممكنة) وفي الوقت ذاته تُظهر الحل بوصفه ما تقيسه وحدة المعلومات الكَمومية كأكثر مستويات الطاقة انخفاضاً [وهو المسار المفضّل بالنسبة لحركة الجسيمات- الكاتب]. خيار آخر لمثاليّة اقتراح المسار المحتمل، هي استخدام "الحاسوب البصري" quantum annealing القائم على توظيف أشعة الليزر. ماهيّة الحاسوب هذا تختلف بتفاعل الفيزياء البصرية ونظريّة الكم quantum optics. يجدر بالذكر أن هذا الحاسوب لا يجري حسابات مجرّدة، بل يطوّر حلولاً لإشكاليات عينيّة وخاصة. بهذا الأسلوب، فإن مثاليّة اقتراح المسار المحتمل، "تمر" بواسطة عنصر بصري يتبع مسار موجات الليزر التي "تبحث"، على نحو متزامن وبسرعة الضوء من بين جميع المسارات المقترحة، عن مسار مثاليّ محدد، قيسَت فيه الطاقة الأكثر انخفاضاً من بين المسارات المختلفة. في المستوى الأمني، توفّر هذه القدرات تكيّفاً مثالياً مع أكثر السيناريوهات تطرفاً في محاور القتال المستقبلي، مثل التعامل مع هجوم متعدد المستويات والأبعاد، ضمن بلورة تقنيات طيفية وكهروضوئية spectral and electro-optical مبتكرة، ترجّح القرار الأكثر مثاليّة، وتتيح إصداره".

إجمال

تختلف المصادر في تقديرها الفترة اللازمة لخروج الحاسوب الكَمومي إلى الضوء، من  3 إلى 20 سنة. لكن من المؤكد حول هذا الحاسوب، هو إنذاره بتغيير وجه الحروب على نحو حاسم. لقد شهدت حروب العقد الأخير، بينها الحرب بين الفلسطينيين وإسرائيل 2023-2024، تطوّراً متطرّفاً في توظيف التقنيات العالية، بينها ما يعرف بالذكاء الاصطناعي، لخدمة العمليات العسكرية والأمنية، من الاغتيالات، إلى توسيع نطاق "بنك الأهداف" للقصف بواسطة الطائرات المقاتلة، الأمر الذي وسّع من المساحة الهائلة بين السلاح الهجومي واشتمال الهدف على تكتّل بشري، يضاف إلى هذا الإنتاج السينمائي (المبهر) للعمليات العسكرية، فضلاً عن تعقّب الأهداف "تحت الأرض". وتجاوزاً لهذا، يجسّد مسعى إسرائيل، وغيرها من دول العالم، لتطوير الحاسوب الكَمومي، تطلّع العقل البشري إلى خلق تطوّر ما بعد تقني، ينقل الأدوات الهجومية والدفاعية، وحرب الاستخبارات العسكرية، إلى مستويات يصعب تخيّل تطبيقها العلميّاتي، في هذه اللحظات.

قائمة المصادر:

1- الأكاديمية القومية الإسرائيلية للعلوم، التقرير السنوي - 2022، شوهد في 16/05/2024، في:

https://www.academy.ac.il/SystemFiles2015/SciReport2022_1_Overview.pdf

2- سلطة التطوير، "مساهمة الصناعات ما بعد التقنية في الاقتصاد الإسرائيلي" - تقرير سنة 2022، شوهد في 15/05/2024، في:

https://innovationisrael.org.il/report/%d7%97%d7%9c%d7%a7-%d7%90-%d7%aa%d7%a8%d7%95%d7%9e%d7%aa-%d7%94%d7%94%d7%99%d7%99-%d7%98%d7%a7-%d7%9c%d7%9b%d7%9c%d7%9b%d7%9c%d7%94-%d7%94%d7%99%d7%a9%d7%a8%d7%90%d7%9c%d7%99%d7%aa/

3- ميتال فايزبرغ، "بعد سنة صعبة، الربع الأول للعام 2024 يظهر تحسّناً في صناعات التقنيات المتطورة"، موقع غلوبس، 28/03/2024، شوهد في 16/05/2024، في:

https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001475032

4- يهوشع كليسكي، "الحوسبة الكَمومية - المستقبل بات هنا"، معهد أبحاث الأمن القومي - جامعة تل أبيب، 20/02/2024، شوهد في 15/05/2024، في:

https://www.inss.org.il/he/wp-content/uploads/sites/2/2024/02/%D7%A4%D7%A8%D7%A1%D7%95%D7%9D-%D7%9E%D7%99%D7%95%D7%97%D7%93-200224-3.pdf

مصادر ثانوية:

1- Chris Stokel-Walker, “Quantum computing in warfare: sensing the enemy”. Cybernews, 16/07/2022, at:

https://cybernews.com/security/quantum-computing-in-warfare-sensing-the-enemy/

2- Sagi Cohen, “The Big Money Is Here: The Arms Race to Quantum Computing”, Haaretz, 25/02/2024, at:

https://www.qedma.com/wp-content/uploads/2022/09/%E2%80%98The-big-money-is-here_-The-arms-race-to-quantum-computing-Tech-News-Haaretz.com_.pdf

3- עודד כרמלי, "המחשב הקוונטי עומד לשנות את העולם. שלושה ישראלים עומדים בחזית המהפכהת", הארץ, 12/02/2020,:

https://www.haaretz.co.il/magazine/2020-02-12/ty-article-magazine/.premium/0000017f-db0e-df0f-a17f-df4f42790000

4- Investing, ישראל - תוצר מקומי גולמי (תמ״ג) (רבעוני), 16/04/2024:

https://il.investing.com/economic-calendar/israeli-gdp-590

5- גדעון לב ושירה קדרי-עובדיה: האקדמיה הלאומית למדעים: שיעור ההשקעה במחקר ירד בחדות בעושר האחרון, הארץ, 28/02/2024:

https://www.haaretz.co.il/science/2023-02-28/ty-article/.premium/00000186-986f-d027-a5de-beffb3560000

6- Yaniv Dornbush, Quantum computing: A Significant Contribution to Israel’s Resilince, Haaretz, 8/05/2024:

https://www.haaretz.com/haaretz-labels/cutting-edge/2024-05-08/ty-article-labels/quantum-computing-a-significant-contribution-to-israels-resilience/0000018f-599a-d348-a7bf-ffbb75100000

المصطلحات المستخدمة:

يهوشع, أمنا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات