منذ أسبوع تقريباً، تشن قوة إسرائيلية خاصة عملية عسكرية واسعة النطاق في مجمّع الشفاء الطبي في غزة، ذلك بعد عدّة أشهر على اقتحام المجمّع وما رافق ذلك من صخب إعلامي محلي ودولي كبيرين (في شهر تشرين الثاني من العام المنصرم)، ووسط تلفيقات وروايات إسرائيلية متعدّدة ثبت زيفها لاحقاً حول استخدام حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية للمجمّع كمقرّ عسكري لمهاجمة إسرائيل خلال "المناورة البرية" التي انطلقت في نهاية تشرين الأول من العام المنصرم.حظيت هذه العملية بتركيز إعلامي إسرائيلي وترويج للعديد من الروايات حول أبعاد ونتائج العملية التي ما تزال مستمرّة حتى وقت إعداد هذه المساهمة والتي ستسلّط الضوء على أبعادها من ناحية الرغبة الإسرائيلية باستنساخها لاحقاً بحيث تُصبح صورة مصغّرة عما سيحدث مستقبلاً في القطاع.
عملية "تطهير محلي": إنقاذ "إنجازات تكتيكية" وضغط في التفاوض؟
فجر الاثنين الموافق 18.03.2024، وبشكل مفاجئ، أغارت قوة عسكرية إسرائيلية خاصة مكوّنة من الفرقة 162 في الجيش الإسرائيلي، الوحدة 504 في شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، وحدة خاصة تابعة لجهاز المخابرات العامة "الشاباك" ووحدة النخبة- الوحدة 13 التابعة لسلاح البحرية (شاييطت 13) على مجمّع الشفاء الطبي في مدينة غزة. تخلّل هذه العملية قصف جوي ومدفعي عنيفان وأحزمة نارية في محيط المجمّع، بالتزامن مع تسلل القوة العسكرية وحصار المجمع من كافة النواحي. منذ بدء عملية الاقتحام، بدا واضحاً التركيز الإعلامي الإسرائيلي على أهمية العملية المستمرة حتى وقت كتابة هذه الماسهمة، حيث وصفت بأنها الأكبر والأهم في الحرب الحالية من حيث الاغتيالات والاعتقالات التي طاولت المئات ممن تدّعي إسرائيل أنهم كوادر في الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية (بحسب القناة 12 حتى مساء السبت تم اعتقال 800 وقتل قرابة 170).
قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي اللواء يارون فينكلمان، وخلال زيارة لمحيط المجمّع الطبي مساء السبت، قال إن "هذه العملية لن تنتهي حتى نقبض على آخر إرهابي، حيّاً أو ميتاً"، مضيفاً أن "العملية مكّنت الجيش من الحصول على كنوز عملياتية واستخبارية كبيرة". بالتزامن مع ذلك، أكّدت عدّة تصريحات صادرة عن الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي دانيال هغاري أن هذه العملية تُعدّ من أكبر الضربات التي تلقّتها فصائل المقاومة الفلسطينية منذ بداية الحرب، حيث "جرى اعتقال أكبر عدد من المقاتلين بالإضافة إلى قيادات ميدانية وشخصيات مهمة وحساسة لم يتم الكشف عن هوية بعضها حتى انتهاء التحقيق معها"، تبع ذلك تسريب إسرائيلي مساء السبت مفاده أن الجيش ألقى القبض على شخصية فلسطينية تُلاحقها إسرائيل منذ وقت طويل وصِفت بـ "الصيد الثمين" ليس لرتبته العسكرية أو السياسية؛ وإنما من حيث المعلومات ذات القيمة العالية التي من شأنها مساعدة الجيش في التقدّم في العملية العسكرية في قطاع غزة بشكلٍ عام.
مما لا شك فيه أن التضخيم الإسرائيلي حول "الإنجازات" التي تحقّقت خلال عملية "تطهير محلّي" في مجمّع الشفاء الطبي ربما يُمكن فهمها في السياق الأوسع والأعم حيث تجري مفاوضات برعاية الوسطاء للتوصل لتهدئة مؤقتة تشمل صفقة تبادل أسرى. لكن هذا الاعتقاد، وبصرف النظر عن طبيعة هذه "الإنجازات" التي يُمكن وضعها في سياق "الإنجازات التكتيكية" لا الاستراتيجية (المرتبطة بأهداف الحرب)، لا ينفي أن إسرائيل قد نجحت من ناحية في "تطبيع" مسألة استباحة المرافق الصحية والمستشفيات بالاقتحامات المتكرّرة لها وما يرافق ذلك من ادّعاءات وتلفيقات ثبت زيفها في أكثر من موضع منذ بداية العدوان، وهذا ما يُفسّر ربما الصمت الدولي والغياب شبه التام للإدانات لما يحدث حالياً في الشفاء. من ناحية ثانية، لا يُمكن تركيز الأبعاد المترتبة على هذه العملية في طبيعة "الإنجازات" التي يدور الحديث عنها إسرائيلياً؛ وإنما أيضاً يجب أن يتم فهمها في الواقع الذي تسعى إسرائيل لتثبيته في قطاع غزة.
عمليات عسكرية خاصة: واقع غزة في المستقبل؟
تأتي العمليات أو الحملات العسكرية المفاجئة (نموذج الإغارات) في شمال وجنوب قطاع غزة ضمن "المرحلة الثالثة" التي أُعلن عنها مطلع العام الحالي، وقد أوضحنا في مساهمة سابقة أن هذه المرحلة بما تشمله من انسحابات شكلية تعني إعادة تموضع اونتشار الجيش تمهيدًا لإعادة الاحتلال العسكري المباشر للقطاع. من جهة أخرى، إن هذا الشكل من العمليات ينسجم مع طرح الولايات المتحدة التي دفعت باتجاه الانتقال لهذه المرحلة. إن عملية "تطهير محلي" المستمرة في مجمّع الشفاء الطبي، إلى جانب العملية العسكرية الأخيرة في حيّ الزيتون قد تُشكّلان صورة بانورامية لمستقبل القطاع الذي تريده إسرائيل، وهو واقع ربّما لن يكون مختلفاً عن الواقع الأمني- العسكري القائم في الضفة الغربية منذ عقدين تقريباً. هذا المسعى، وإن كان يصطدم بالعديد من المعيقات المرتبطة بأن المعطيات التي تُشكّل واقع الضفة غائبة في تشكيل مشهد القطاع منذ العام 2006 تقريبًا؛ إلّا أن السلوك الإسرائيلي الميداني الذي يجري سياق تأكيد المستويين السياسي والأمني- العسكري أن إسرائيل ستحتفظ بسيطرة أمنية مستقبلاً على القطاع.
من الناحية الأولى، يُثير السلوك الإسرائيلي في إقامة "المنطقة العازلة" أو "الحزام الأمني" على طول الحدود مع قطاع غزة الشكوك حول رغبة إسرائيل في الانسحاب الشامل من قطاع غزة (هذا الأمر يتضح أيضاً من خلال تعنّت إسرائيل في هذه القضية في مفاوضات التهدئة). ميدانيًا بدأت عملية إنشاء هذه المنطقة بعمق متفاوت بحسب العديد من الصور الجوية التي تم التقاطها للمنطقة الحدودية، وتسعى إسرائيل من خلالها لخلق قواعد متقدّمة للجيش (داخل حدود القطاع) تُشكّل قواعد انطلاق لهجمات وعمليات مستقبلية في القطاع شبيهة بما حصل في عمليتي حيّ الزيتون ومجمّع الشفاء الطبي بعد الانسحاب منها، ومحطة لإحكام السيطرة الأمنية على الحيز لاحقًا، علاوةً عن أنها تسعى إلى تعويض الأمن المفقود لمستوطنات الغلاف وإحباط أي إمكانية لإعادة بناء شبكة الأنفاق الهجومية بعد فشل وانهيار منظومة الرقابة والتجسّس والجدار الأمني خلال هجوم طوفان الأقصى. من ناحية ثانية، يتعزّز ادّعاء هذه المساهمة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أيضًا البدء بشق طريق "عابر غزة" أو شارع 749 الذي يقطع القطاع من شرقه إلى غربه في شباط الماضي لغرض تحقيق بعض الأهداف من ضمنها توفير منطقة حيوية لتمركز الجيش وإنشاء قواعد عسكرية على جانبي الطريق. من ناحية ثالثة، إن إرجاء الحكومة الإسرائيلية مناقشة ملف "اليوم التالي" في القطاع، واستمرار رفض القبول بسلطة حركة حماس في غزة، وكذلك السلطة الفلسطينية، وضبابية الرؤية الإسرائيلية لهذا الأمر تقود إلى تآكل "الإنجازات العسكرية التكتيكية" في المناطق التي ينسحب منها الجيش، ما يجعل من مسألة السيطرة العسكرية (وإن كان ذلك مؤقتاً)، مع تنفيذ سلسلة عمليات أو حملات عسكرية بديلاً مؤقتاً قد يتحول لبديل دائم للحفاظ على "الإنجازات" ولخدمة هدف خلق بديل محلي لإدارة شؤون القطاع وتحديداً في منطقة الشمال القطاع (علمًا أن هذا المشروع قوبِل برفض العشائر ولا يزال يعتريه العديد من المعيقات) في ظل استمرار منع مئات آلاف النازحين من العودة إلى مناطق الشمال ميدانياً وعلى طاولة التفاوض. أخيراً، إن التفاعلات الإسرائيلية الداخلية وتحديداً حملات الضغط والتأثير التي تمارسها التيارات الاستيطانية المطالبة بإعادة الاستيطان في غزة، تُلقي بظلالها على مسألة استمرار السيطرة الأمنية- العسكرية على القطاع على غرار النموذج القائم في الضفة وفقاً لشعار هذه التيارات "الاستيطان يجلب الأمن".
تسعى إسرائيل لخلق فرص في قطاع غزة لضمان تحقيق السيطرة الأمنية بشكل يحفظ حرية عملها الأمني والعسكري على غرار نموذج الضفة الغربية. ومع ذلك، تصطدم هذه المحاولات بالعديد من المعيقات التي لا تستطع إسرائيل تجاوزها بسهولة وفي مقدّمتها غياب بديل لحكم حركة حماس، وهذا الأمر يُعد مشكلة كبيرة بالنسبة للجيش الذي بدأ كبار ضبّاطه بالتذمّر. ويرى الجيش أن تلكّؤ المستوى السياسي في حسم مسألة "اليوم التالي" هو أمر تستفيد منه حركة حماس في إعادة بناء نفسها من جديد خاصة في المناطق التي قام الجيش بـ "تطهيرها" في بداية "المناورة" في شمال قطاع غزة، وهو ما يعنى تآكل "الإنجازات" التي حقّقها. من ناحية أخرى، إن المشاريع والبرامج الإسرائيلية المختلفة الساعية لتخليق "قيادة محلية" من العشائر والحمائل في القطاع لكي تملأ الفراغ السلطوي كان مصيرها الرفض والفشل. من ناحية ثالثة، إن استنساخ واقع الضفة الغربية يحتاج لتفعيل كل أشكال العلاقة الأمنية تماماً كما هو قائم مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية مع السلطة الجديدة/ البديلة في القطاع، ومن دون ذلك لن تُفضي السيطرة الإسرائيلية الحالية إلى تدمير قدرات فصائل المقاومة، ولا ضمان تحقيق التواجد العسكري والحرب لأهدافها بل قد تقود لغرق إسرائيل في القطاع. كل هذه المعيقات المترتبة على غياب البديل ومعيقات أخرى مثل عامل الضغط الدولي والتفاعلات الإسرائيلية الداخلية تضع المخطط الإسرائيلي بالسيطرة الأمنية- العسكرية مستقبلاً أمام مغامرة قد تكون مُكلفة.
إن المعيقات المُشار إليها، وهي معيقات لا يُبدو أن إسرائيل تمتلك حلولاً واضحة لها، تعني أن نية استمرار التواجد العسكري الإسرائيلي في القطاع (وإن كان بالحدّ الأدنى) وعلى الرغم من الفرص التي يخلقها لإسرائيل في الوقت الحالي، فإن ذلك ربما لن يُفضِي على المدى البعيد إلى استعادة الأمن المفقود ليس في مستوطنات الغلاف، بل أن التواجد العسكري سواءً في "المنطقة العازلة"، أو "طريق عابر غزة" قد يتحول إلى مصيدة، ويجعله عرضة لاستهداف فصائل المقاومة. في هذا الأمر يُمكن المحاججة بتجربة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان الثقيلة منذ الاحتلال في العام 1982 وحتى الانسحاب العام 2000، مع استمرار توارد التقارير الصادرة عن جهات استخبارية أميركية بأن إسرائيل استطاعت القضاء فقط على 35% من مقاتلي حماس وثلث شبكة أنفاقها، وما زالت بعيدة عن تدميرها بالكامل على الرغم من تصاعد حدّة التصريحات الإسرائيلية حول استكمال "المناورة البرية" واجتياح رفح الذي تسعى له إسرائيل محمومة استناداً إلى المنطق الذي عبّر عنه رئيس الشاباك السابق "إن القضاء على التنظيمات الإسلامية (حماس والجهاد) يتطلّب تحقيق أمرين رئيسيين: فقدان الأرض، وفقدان السلطة".