المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
في موقع "حادثة ميرون". (صحف)

"قررنا عدم تقديم أية توصية عملية بشأن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو. ذلك أن منصب رئيس الحكومة هو، في جوهره، منصب منتَخَب ذو سمات مميزة، ولذلك قررنا الامتناع عن تقديم أية توصية عملية بشأنه" ـ هذه هي الجملة التي رأى عدد من المعلقين والمراقبين الإسرائيليين أنها الجملة الأهمّ، على الإطلاق، من بين كل ما ورد طي الصفحات الـ 322 بالمجمل، التي تضمنها تقرير اللجنة الرسمية للتحقيق في الأحداث التي وقعت خلال الاحتفال الديني اليهودي الذي جرى في جبل ميرون (الجرمق) ليل 30 نيسان 2021 وراح ضحيتها 45 شخصاً، جراء الاكتظاظ الشديد والتدافع القوي جداً.

على سبيل المثال، اعتبر عيدو باوم، المعلق القضائي في صحيفة "ذي ماركر" (7 آذار 2024)، أن هذه الجملة وحدها كافية لتشكل "ضوءاً أخضر للفلتان والتسيب الإداري" وأنها "تمثل إخفاقاً أكبر حتى من الإخفاق الذي أدى إلى موت الضحايا الـ 45"، لأنها "تشكل سابقة ترسيها لجنة التحقيق بشأن العقوبات على منتخَبي الجمهور وتمنحهم ضوءاً أخضر للفساد والإهمال في رعاية حيوات المواطنين وحمايتها".

لكنّ هذه الجملة، التي تحاول اللجنة بواسطتها تفسير قرارها الإحجام عن تقديم توصيات شخصية عملية بخصوص رئيس الحكومة، نتنياهو، تزداد خطورة ولا معقولية، على حد سواء، على ضوء حقيقة أن اللجنة أقرّت تحميل نتنياهو مسؤولية مباشرة عن الأحداث التي أوقعت هذا العدد الكبير من القتلى خلال احتفال ديني لم تكن تلك المرة الأولى التي يقام فيها، بل هو احتفال سنوي تقليدي يجرى كل سنة، في الموعد المذكور نفسه.

وتظهر خطورة هذه الجملة ولا معقوليتها، بصورة أكثر بروزاً، عند الانتباه إلى التمييز الذي تقيمه اللجنة في شأن التوصيات الشخصية ما بين "موظفي الجمهور" وبين "منتخَبي الجمهور"، لكن دون أن تورد أي تفسير أو شرح لأسباب هذا التمييز ودوافعه. ففي حديثها عن مسؤولية "المفتش العام للشرطة"، الذي هو أحد "موظفي الجمهور"، أكدت اللجنة في تقريرها أنها تحمّله مسؤولية مباشرة عن تلك الأحداث ونتائجها، ولهذا فقد "كانت ستوصي بعزله عن منصبه بصورة فورية، لولا حالة الحرب التي تعيشها دولة إسرائيل"! وهو توجه مناقض تماماً للتوجه الذي اختارته في التعاطي مع مسؤولية رئيس الحكومة، الشخصية المباشرة، وإعفائها من أية إجراءات أو عقوبات شخصية.

الحادثة، اللجنة، الخلاصات والتوصيات

 

في يوم الأربعاء الماضي (6 آذار)، قدمت "لجنة التحقيق الرسمية في كارثة ميرون" ـ حسب اسمها الرسمي ـ تقريرها النهائي إلى الحكومة الإسرائيلية، بعد نحو ثلاث سنوات على تشكيلها، بموجب قرار اتخذته الحكومة الإسرائيلية السادسة والثلاثون في جلستها الثانية، التي انعقدت يوم 20 حزيران 2021، وذلك على خلفية ضغوطات ومُطالبات شعبية وسياسية واسعة للتحقيق في حالة الاكتظاظ الشديد والتدافع القوي خلال الاحتفال الديني السنوي بمناسبة "لاغ بَعومر" الدينية الشعبية ليل يوم 30 نيسان 2021 وأسفرت عن مقتل 45 شخصاً من المشاركين في تلك المناسبة.

ومن أبرز العادات التي يقيمها اليهود في هذه المناسبة: إحضار كتاب توراة قديم من بيت عائلة "عبو" في صفد، وهو كتاب قديم تحتفظ به العائلة، إلى مقام الحاخام شمعون بار يوحاي في قرية ميرون التي تبعد بضعة كيلومترات عن صفد، وسط أهازيج دينية وشعبية. ويشعل اليهود حرائق في معظم أنحاء إسرائيل إحياء لهذه المناسبة. ومنهم من يقوم بإطلاق السهام من أقواس أُعدّت خصيصا لهذه المناسبة، لكونها ترتبط بمحاربة الأعداء. ويتوافد عشرات آلاف اليهود من متدينين وغيرهم إلى مقام الحاخام شمعون بار يوحاي، حيث يتحلقون في حلقات ويرقصون على أنغام موسيقى وأغانٍ دينية وشعبية معروفة لديهم، خاصة اليهود السفاراديين (الشرقيين).

تنبغي الإشارة هنا إلى أن قرار تشكيل "لجنة التحقيق الرسمية" لم يصدر عن الحكومة التي وقعت الأحداث في عهدها، برئاسة نتنياهو، بعدما رفضت هذه الاقتراح الذي تقدم به إليها في أواخر أيامها، في أيار 2021، وزير الدفاع ووزير العدل فيها، بنيامين غانتس، لكنه صدر فيما بعد عن الحكومة التي خلفتها وعُرفت باسم "حكومة التغيير"، برئاسة نفتالي بينيت. في أعقاب قرار الحكومة تشكيل "اللجنة"، قررت رئيسة المحكمة العليا الإسرائيلية آنذاك، إستير حيوت ـ بموجب صلاحياتها حسب القانون ـ تعيين أعضاء لجنة التحقيق على النحو التالي: القاضية مريام نأور، الرئيسة السابقة للمحكمة العليا، رئيسة للجنة، وعضوية كل من رئيس بلدية بني براك السابق، الحاخام مردخاي كرليتس، واللواء (احتياط) شلومو يناي. وقد عقدت هذه اللجنة أولى جلساتها يوم 22 آب 2021. لكن في 24 كانون الثاني 2022 توفيت رئيسة اللجنة، مريام نأور، فقررت رئيس المحكمة العليا، حيوت، في 1 شباط 2022، تعيين الرئيسة السابقة للمحكمة المركزية في تل أبيب، القاضية (المتقاعدة) دفورا برلينر، رئيسة للجنة التحقيق خلفاً لنأور.

في ما يتعلق بالخلاصات التي توصلت إليها اللجنة حول المسؤولية الشخصية برزت، كما ذكرنا آنفاً، مسألة التمييز بين "موظفي الجمهور" و"منتخَبي الجمهور" التي تجسدت في فوارق جوهرية في التعامل مع كل من الفئتين. وهذه هي أبرز الخلاصات والتوصيات بشأن "منتخبي الجمهور": رئيس الحكومة - جزمت اللجنة أن رئيس الحكومة إبان وقوع الحادثة، بنيامين نتنياهو، "يتحمل مسؤولية شخصية عن الكارثة". ورغم أنه ادعى أمامها بأنه "لم يكن على علم بالنواقص والقصورات الأمنية في الموقع، فإن اللجنة رفضت هذا الادعاء وأقرت بأنه يتحمل المسؤولية الشخصية حتى بافتراض أنه لم يعلم، وذلك لأنه كان عليه واجب المعرفة". وأوضحت اللجنة أن نتنياهو شارك في العديد من جلسات الحكومة التي اتخذت فيها قرارات حول المناسبة وترتيباتها، كما تلقى العديد من الرسائل حول مشاكل ونواقص كثيرة في الموقع إلا أنه "لم يتصرف بمثل ما هو متوقع من رئيس الحكومة لإصلاح النواقص الخطيرة التي كشف عنها تقرير مراقب الدولة ولم يبد أي اهتمام بحل الخلافات بين الوزارات الحكومية بشأن الموضوع ولم يتابع تنفيذ قرارات الحكومة". ورغم ذلك كله، رأت اللجنة عدم تقديم أية توصيات شخصية عملية، عقابية، بحق نتنياهو، كما أوضحنا آنفاً. وزير الأمن الداخلي ـ حمّلت اللجنة وزير الأمن الداخلي آنذاك، أمير أوحانا (رئيس الكنيست الحالي) من الليكود، مسؤولية شخصية عن الكارثة، وذلك في مسألتين مركزيتين: الأولى، أنه قرر موقفه بشأن تنظيم المناسبة قبل أن يطلع على كامل الصورة الخاصة بالمشاكل والنواقص. والثانية، أنه لم يبحث في الرؤية العملانية التي وضعتها الشرطة وهو ما كان يتوجب عليه القيام به على خلفية التحذيرات المختلفة التي صدرت عن جهات رسمية عديدة. وعلى ذلك، أوصت اللجنة بعدم تعيين أوحانا في منصب وزير الأمن الداخلي مستقبلاً. وزير الشؤون الدينية ـ أوصت اللجنة بعدم تعيين وزير الشؤون الدينية إبان وقوع الحادثة، يعقوب أبيطان، في أي منصب وزاري في الحكومات الإسرائيلية المستقبلية. وهذه هي التوصية العملية الأشد حدّة التي قدمتها أية لجنة تحقيق رسمية بشأن أيٍّ من "منتخبي الجمهور" في إسرائيل، منذ قيامها.

بالإضافة إلى ما ذُكر أعلاه عن التوصية العملية التي قدمتها اللجنة بشأن المفتش العام للشرطة آنذاك، روني الشيخ، أبرز "موظفي الجمهور" وأهمّهم في سياق الحادثة موضع التحقيق، وجدت اللجنة أن مسؤولين آخرين في جهاز الشرطة الإسرائيلية يتحملون مسؤوليات شخصية مباشرة عن الكارثة ورأت عدم تقديم أية توصيات شخصية عملية بشأن أولئك الذين خرجوا إلى التقاعد أو استقالوا من الجهاز ولم يعودوا جزءاً منه، بينما أوصت بأخذ خلاصاتها بالحسبان عند البحث في ترقية أي من المسؤولين الآخرين الذين لا يزالون يتولون مناصب مختلفة في الشرطة. وأوصت اللجنة أمام المستشارة القانونية للحكومة بمواصلة الفحص أو التحقيق بشأن ثلاثة من المسؤولين عن الحادثة.

"ضغوطات وخلافات سياسية أثّرت بصورة سلبية"

شددت لجنة التحقيق على أنه "قد تولّد لدينا الانطباع بأن ضغوطات وخلافات سياسية قد أثرت بصورة سلبية على سيرورة اتخاذ القرارات وحالت دون محاولات جرت لتحسين هذه السيرورة ورفع مستواها". ثم أشارت إلى أنه من أجل منع وقوع الكارثة "كانت ثمة حاجة إلى ثقافة سليمة. كانت هنالك حاجة إلى مسؤولين يعملون بما يمليه واجب الولاء لكونهم مبعوثي جمهور ـ بمسؤولية وبمهنية".. "مبعوثي جمهور يتصرفون بكل ما أوتوا من كفاءات وشعور المسؤولية من أجل ممارسة هذه المسؤوليات والصلاحيات التي أوكلت إليهم لخدمة الجمهور، مصالحه وسلامته".

كما تكشفت أيضاً قصورات وإخفاقات في الامتناع عن اتخاذ القرارات، إذ أن "جهات رسمية عديدة كانت تتحمل مسؤوليات مختلفة عن الموقع، إلا أن توزيع الصلاحيات ومجالات العمل بينها كان ملتبساً وغير واضح تماماً، الأمر الذي شكل أرضية خصبة لخلافات عديدة ينها أدت، في نهاية الأمر، إلى حالة من الشلل في اتخاذ القرارات وفي تنفيذ أية إجراءات عملية في الموقع الذي عانى، في المحصلة، من الإهمال الشديد". وسجلت اللجنة "غياب الحوكمة" الذي تجلى في البناء غير المرخص والخطير في المكان، دون أي وازع أو مانع جراء غياب أية محاولة لتطبيق القوانين ذات العلاقة وأية محاولة لفرض القانون والنظام. كما أشارت اللجنة إلى "سلوك التظاهر من جانب العديد من الموظفين والمسؤولين الحكوميين، وهو ما تجسد بصورة واضحة في كتابة العديد من الوثائق الصورية والتوقيع عليها مع العلم المسبق بأنّ ليس ثمة أية نية حقيقية لتطبيق ما هو وارد في تلك الوثائق".  

وسجلت اللجنة ما يلي: "وجدنا ثقافة سيئة مترسخة في بيتنا. في داخل أجسام وهيئات رسمية وعامة، في مؤسسات سلطوية وبين مبعوثي جمهور ـ منتخَبين ومُعيَّنين، وضع الجمهور ثقته فيهم ثم وضع سلامته وأمنه أمانة بين أيديهم. وجدنا ثقافة سيئة في عرض أمور لمجرد التظاهر فقط، في التغاضي عن تحذيرات عديدة ومتكررة، في عدم الاكتراث، في جمود التفكير في القضايا الهامة المتعلقة بسلامة الجمهور وأمنه وحماية حياة الإنسان. ثقافة سيئة في غياب الحوكمة وسلطة القانون وفي نمط العمل القائم على التأجيل والتسويف والامتناع عن اتخاذ القرارات الضرورية وفي وقتها المناسب. واقع السلوك المتأثر بصورة سلبية واضحة من المصالح السياسية والاعتبارات الغربية التي لا علاقة لها بالموضوع العيني. ثقافة سيئة في تصغير المسؤولية والتنصل منها ومن تحملها". وخلصت اللجنة إلى القول: "هذه الثقافة السيئة أدت إلى وقوع الكارثة الفظيعة، الأقسى والأخطر على المستوى المدني منذ قيام الدولة، وقد كان العنوان واضحاً أمام الجميع، ومعروفاً لكثيرين على مدى سنوات عديدة. وباختصار: هذه الكارثة كان بالإمكان منع وقوعها، وكان من الواجب منع وقوعها، غير أن الثقافة السيئة السائدة أدت إلى وقوعها".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات