في الثاني من تشرين الثاني الأخير، أدلى الرئيس الأميركي، جو بايدن، بتصريح لافت بشأن الحاجة إلى "إعادة إحياء" ("إحياء من جديد") السلطة الفلسطينية "استعداداً لليوم التالي" للحرب الإسرائيلية التدميرية المتواصلة على قطاع غزة، دفع الكثير من المعنيين، المباشرين وغير المباشرين، الأفراد والمؤسسات، إلى الشروع الفوري في البحث والتحليل والتمحيص لمحاولة الإجابة على جملة من الأسئلة المركزية المترتبة على التصريح أعلاه والمشتقة من دلالاته ومقاصده السياسية.
كان من الواضح تماماً، آنذاك، أن بايدن قصد من تصريحه ذاك، بالدرجة الأولى، طرح موقف مضاد للمعارضة التي أبداها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ليس فقط لأي شكل من أشكال إعادة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، بل لمجرد وجود السلطة الفلسطينية واستمرار بقائها لكونها ـ في زعمه ـ "داعمة للإرهاب وتربي أولادها على كراهية إسرائيل".
غير أن بايدن، الذي وجد نفسه وإدارته في ورطة سياسية، داخلية وخارجية، من جراء استمرار الحرب الإبادية في غزة وما تخللها من مجازر وجرائم وما أثارته من موجة غضب دولية عارم، وخصوصاً على أعتاب الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة، أراد لتصريحه عن "إعادة إحياء" السلطة الفلسطينية أن يكون جزءاً من تصوّره العام لحل الدولتين، الذي لا يزال يشكل، من وجهة نظره وإدارته، الحل الوحيد الممكن والقابل للتطبيق للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، وهو ما عبر عنه بالقول إن "بنية سلطوية واحدة ينبغي أن تشمل منطقتيّ غزة والضفة الغربية اللتين ينبغي أن يعاد ربطهما معا، فيما نسعى نحن جميعاً إلى سلطة فلسطينية قد مرت بعملية إحياء من جديد وحل الدولتين".
في ضوء ذلك، بدأ البحث عن إجابات للأسئلة المتوالدة من الحديث عن "إعادة إحياء السلطة الفلسطينية"، وهي أسئلة عديدة ومتفرعة، لكنّ أهمها هي التالية: كيف ستكون السلطة الفلسطينية "المُجَدَّدَة"؟ كيف ستستعيد مكانتها، كما كانت في أيامها الأولى؟ ماذا سيكون دورها؟ وهل ستكون قادرة على القيام بالمهامّ المعقّدة التي ستُوكَل إليها في "اليوم التالي للحرب" وبحيث تشكل قاعدة مستقبلية للدفع نحو حل الدولتين؟
من بين أبرز المحاولات العديدة التي جرت في إسرائيل مؤخراً لرسم ملامح "السلطة الفلسطينية المجدَّدّة" وتحديد طبيعتها ومهماتها، كانت "الورقة السياساتية" التي صدرت الأسبوع الماضي عن معهد "مِتفيم" (مسارات)، "المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية" بالتعاون مع "صندوق بيرل كتسنلسون" وأعدّها الباحث الكبير في "معهد دراسات الأمن القومي" في تل أبيب، يوحنان تسوريف. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن تسوريف، في منصبه العسكري الأخير، كان "مستشاراً للشؤون العربية للإدارة المدنية في قطاع غزة"، خلال الفترة منذ بداية الانتفاضة الأولى حتى الانتهاء من تطبيق اتفاق أوسلو، وكان المترجم الخاص لرئيس الحكومة الإسرائيلية، إسحاق رابين، في لقاءاته العلنية العديدة مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات خلال السنة الأولى بعد تطبيق الاتفاق.
جزء من رؤية سياسية واضحة
يؤكد تسوريف، في مستهل ورقته هذه، أنه "ليس بايدن فقط الذي يؤيد تعزيز السلطة الفلسطينية، بل أيضاً كل المعنيين بضمان الأمن لإسرائيل يدركون أنه بدون سلطة فلسطينية تعترف بحق دولة إسرائيل في الوجود وتتمتع بالقدرات الفاعلة القادرة على فرض القانون والنظام وتوفير احتياجات السكان الفلسطينيين، لن يكون بالإمكان نقل المسؤولية السلطوية إلى الفلسطينيين أنفسهم. ومن هنا، فقد أصبحت السلطة الفلسطينية المُجدَّدَة أحد المركّبات المركزية والضرورية لتحقيق الأمن والدفع نحو تسوية يميزها الاستقرار".
لكي تكون السلطة الفلسطينية المُجدّدَة قادرة على خلق واقع جديد في قطاع غزة ما بعد الحرب، ينبغي أن ترتكز على، وأن تكون جزءاً من، رؤية سياسية واضحة يلتزم الطرفان، الإسرائيلي والفلسطيني، بالسعي إلى تطبيقها، بالاتكاء على الأسس التالية: 1. قدرة السلطة على السيطرة الفاعلة، التي تتعزز باستمرار، وتسمح لإسرائيل بالخروج من القطاع نهائياً؛ 2. تتولى إدارة الشؤون المدنية دون أي تدخل إسرائيلي ودون أي احتكاك إسرائيلي مع السكان الفلسطينيين، لا من "إدارة مدنية" ولا من خلال "لجان/ مكاتب تنسيق" ولا من خلال أي إطار آخر؛ 3. تحتفظ إسرائيل، من الخارج، بالسيطرة الأمنية في قطاع غزة فترةً زمنية محددة يتم الاتفاق عليها بين الطرفين، كجزء من جهاز مرحلي. ويكون بإمكانها "الاستعانة بقوات دولية توكَل إليها مهمة المساعدة في إعادة تأهيل القطاع". لكنّ هذه القوات لا تعيق عمل إسرائيل في حال "اضطرت إلى إجراء مطاردة ساخنة"، وفقما ورد في اتفاقيات أوسلو؛ 4. يتم توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت سلطة حكم واحدة، على أن يتقرر مصيرهما بانتهاء المدة الزمنية المرصودة لإعادة التأهيل واستقرار السلطة الفلسطينية المجدَّدة، بروح المسار الذي اقترحه الرئيس بايدن؛ 5. منع نشوء فراغ سلطوي في القطاع بما يتيح استيلاء أو تسلل قوات معادية لإسرائيل؛ 6. تمتنع إسرائيل عن إقرار حقائق ناجزة جديدة في مناطق القطاع خلال المرحلة الانتقالية.
شروط ومعايير وواجبات إسرائيل
ترى الورقة أيضاً أن السلطة الفلسطينية المجددة "يمكن أن تُقاد من قبل أي فلسطيني يتمتع بالأهلية وتشكل خدمة الجمهور والعمل من أجل الصالح العام هاجسه وهدفه ويتم انتخابه، أو تعيينه، بصورة قانونية". أما المرشحون لإشغال هذا المنصب فيُشترَط فيهم استيفاء عدد من المعايير الأساسية قبل أن يكون بإمكان أحدهم تسلم الصلاحيات المخولة إليه. وهذه المعايير تشمل، بحسب الورقة: 1. القبول والاعتراف بجميع التعهدات التي أخذتها منظمة التحرير الفلسطينية على عاتقها، بما في ذلك وأولها الاعتراف بدولة إسرائيل كدولة سيادية وبحقها في الوجود والعيش بأمان؛ 2. احتكار استخدام القوة و/ أو السلاح في أيدي السلطة الفلسطينية المنتخَبة والشرعية، بصورة حصرية، ومنع الاحتفاظ بأي قوة عسكرية أو مليشياتية أو من أي نوع آخر لأي تنظيم أو جسم غير تابع للسلطة وأذرعها الرسمية؛ 3. مطالبة أي جسم جماهيري أو سياسي يطلب العمل والنشاط العلنيين في المناطق الخاضعة لسلطة السلطة المنتخبة بالإعلان عن معارضة كل أنواع وأشكال الكفاح المسلح أو العنيف ضد إسرائيل أو ضد أي جسم آخر؛ 4. نزع جميع أنواع السلاح، باستثناء التي تم الاتفاق عليها بين الطرفين، من جميع المناطق الخاضعة لسلطة السلطة الفلسطينية، وذلك سعياً إلى تعزيز سيادة القانون والنظام العام.
وتشدد الورقة على أن "بناء سلطة فلسطينية قوية مرهون، إلى حد بعيد، بالخطوات التي ينبغي على إسرائيل القيام بها، أو تلك التي تستطيع القيام بها". أما تلك الخطوات التي "ينبغي على إسرائيل القيام بها"، فتحددها الورقة على النحو التالي: 1. على إسرائيل أن تحدد، أولاً وبصورة واضحة، أن "تعزيز السلطة الفلسطينية المحددة هو مصلحة قومية إسرائيلية حيوية"، ثم التعهد ـ استجابة للطلب الأميركي ـ بأن تكون السلطة البديلة في قطاع غزة معتمدة على السلطة الفلسطينية، بصورة أساسية؛ 2. على إسرائيل تحويل أموال الضرائب إلى السلطة الفلسطينية، والتي كانت إسرائيل قد جمّدتها. وهذا، أيضاً، استجابة لطلب أميركي؛ 3. على إسرائيل تعميق وتوثيق التنسيق الشامل بين السلطة الفلسطينية وكل واحدة من الوزارات المعنية وذات الصلة في الحكومة الإسرائيلية؛ 4. على إسرائيل استئناف عقد لقاءات اللجنة الاقتصادية المشتركة ووضع برنامج عمل يهدف إلى تعزيز الاقتصاد الفلسطيني؛ 5. على إسرائيل الدفع قدماً بخطوات خاصة لبناء وتعزيز الثقة في مقابل الفلسطينيين، بما في ذلك في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة؛ 6. على إسرائيل تنسيق ومرافقة العمليات والإجراءات الإصلاحية التي سينفذها ويقودها المجتمع الدولي في المناطق الفلسطينية، وخاصة في قطاع غزة.
تشدد الورقة على أن إدارة الرئيس بايدن في الولايات المتحدة، وكذلك في الدول الأخرى المعنية بتجديد السلطة الفلسطينية، حريصة على المحافظة على التسوية التي نشأت نتيجة تطبيق اتفاقيات أوسلو، على الرغم من الأزمات العديدة التي تعرضت لها. ذلك أن استمرار الوضع القائم الذي لا اتفاق فيه حول مسار محدد لمرحلة ما بعد الحرب من شأنه إطالة أمد الحرب دون طائل ووضع إسرائيل على مسار تصادمي مع الإدارة الأميركية التي تجتهد لإعادة صياغة سياستها في الشرق الأوسط وتحتاج، لهذا الغرض، إلى موقف حليفتها إسرائيل بشأن مستقبل قطاع غزة.
هذا المسار المُقترح في هذه الورقة يمكن أن يشكل ـ بحسب مُعدِّها ـ قاعدة متينة لتلبية المطلب الإسرائيلي بوضع مسألة الأمن واعتباراتها في رأس سلم الأولويات، "شريطة أن تكون أهداف الحرب الحالية قد تحققت، وفي مقدمتها أن حركة حماس لم تعد صاحبة السلطة في قطاع غزة وأنه من الممكن البدء بمشروع ترميم قطاع غزة وإعادة بنائه من جديد"، كما يختم.