المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

طغت صيحات الانتقام على كل ما عداها من أصوات في الشارع الإسرائيلي، وانخرط الجميع تقريباً من وزراء وأعضاء كنيست، وضباط الجيش وقادة الأحزاب المشاركة في حكومة بنيامين نتنياهو وقوى المعارضة، إلى الضباط المتقاعدين والمحللين السياسيينِ ورؤساء السلطات المحلية وناشطي وسائل التواصل الاجتماعي، في الدعوات للرد بقوة غير مسبوقة، من أجل القضاء على حماس، وعلى غزة، والرد على ما وصفته المصادر والأوساط الإسرائيلية عينها بالهزيمة المرّة ويوم الإذلال والمهانة والعار الوطني.

حملة التحريض هذه سبقت ومهدت للعملية العسكرية الواسعة وغير المقيّدة التي أطلقتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وتحولت حربا للإبادة والتهجير. كما ترافقت مع حملة افتراءات غير مسبوقة لشيطنة الشعب الفلسطيني والمقاومة وتبرير انتهاك القوانين الدولية إلى درجة ارتكاب جرائم حرب موصوفة. ومع أن الافتراءات التي رددها الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه ثم تراجع عنها، كما رددها الإعلام الغربي من دون تمحيص، سرعان ما ثبت زيفها وبطلانها، فإن طبيعة العمليات العسكرية وقسوتها وانتهاكاتها لقوانين الحرب لم تتأثر بانكشاف الافتراءات فهي مبيتة سلفا وما تلك الافتراءات سوى مقدمة لتبرير وحشية العمليات الحربية.

في الحديث عن عمليات الجيش الإسرائيلي وخططه لتدمير غزة وترحيل سكانها، يغيب تماما الاهتمام بمصير المدنيين عن قادة الجيش والمعلقين، حتى أثناء الحديث عن احتمالات الحملة البرية لم يعد أحد يتحدث عن الكلفة الباهظة لهذه العمليات التي سوف تتسبب بخسائر فادحة في صفوف المدنيين الفلسطينيين، بل إن بعض التقديرات تشير إلى احتمال مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين وتشريد مئات الآلاف، من دون استبعاد تهجير جميع سكان القطاع الذين يقدر عددهم بمليونين وربع المليون نسمة. في الحملات السابقة كان يُخشى من احتمالات أن تؤدي الخسائر الفادحة في صفوف المدنيين علاوة على الخسائر البشرية لجيش الاحتلال إلى انقلاب الرأي العام العالمي ضد إسرائيل، لكن التأييد المفتوح الذي حظيت به إسرائيل هذه المرة والانحياز المطلق لوسائل الإعلام والدعاية الغربية لإسرائيل دفعاها إلى تجاهل هذه الاعتبارات، ومعها تجاهل مصير الأسرى الإسرائيليين في ضوء الخسائر الكبيرة التي لحقت بإسرائيل فعليا يوم السابع من تشرين الأول، وبالتالي فإن أي خسائر إضافية لن تغير شيئا جوهريا.

عنصرية متجذرة...

معروف أن المواقف العلنية التي تحط من قدر الشعب الفلسطيني، وتدعو إلى تهجيره والقضاء على طموحاته الوطنية، ليست جديدة إطلاقا، بل هي ملازمة للنقاش السياسي الدائر في إسرائيل منذ بدايات إنشائها، وهي تتجدد مع كل أزمة جديدة مع الفلسطينيين سواء في المناطق المحتلة عام 1967، أو مع فلسطينيي الداخل. ومن المواقف المشهودة في هذا المجال ما تفوه به الوزير المتطرف بتسلئيل سموتريتش زعيم حزب الصهيونية الدينية من على منصة الكنيست في تشرين الأول 2021 حين تجادل مع النواب العرب في أثناء النقاش حول تعديل قانون العودة، حيث خاطب النواب العرب قائلا: "أنا لا أتحدث إليكم، أنتم هنا بالخطأ، حيث أن (دافيد) بن غوريون لم يكمل المهمة، ولم يطردكم في العام 1948".

تبدو تصريحات سموتريتش، صاحب الدعوة الشهيرة  إلى محو حوارة وتأييد إحراقها من قبل المستوطنين في شباط 2023، أقرب إلى "فلتات" محدودة بالنسبة لسياسي يحاول أن يقدم نفسه كصاحب رؤية أيديولوجيه ومُنظّر تيار الصهيونية الدينية، وبالقياس لشخص بنى كل شعبيته ومكانته السياسية على استفزاز العرب والصدام المباشر معهم في الشوارع على امتداد مساحات البلاد كما يفعل إيتمار بن غفير الذي يقدم نفسه كمن خلقه الرب للصراع مع العرب. فوزير الأمن القومي الإسرائيلي الذي يسميه الإسرائيليون ساخرين "وزير التيك توك"، يجدد التعبير عن أمنياته مرارا وتكرارا برحيل العرب طوعا أو كرها، فقد علق مرة على صورة للنائب العربي أحمد الطيبي وهو يدفع عربة السفر في المطار مغادرا بالتغريد على حسابه في "تويتر"، بتاريخ 7 تشرين الثاني 2022 " آن الأوان، بأن تحمل لنا الأيام بشائر كهذه وأن لا يرجعوا إلى هذا المكان". وقد برز اسم بن غفير في كل الأحداث التي شهدت صدامات مع العرب في العقدين الماضيين، ومن أبرزها افتتاحه مكتبا في حي الشيخ جراح في ذروة أزمة محاولات ترحيل سكانه الفلسطينيين، كما في مبادرته لحشد مئات المستوطنين في حافلات وتوجيهها نحو المدن المختلطة التي شهدت تحركات تضامنية من قبل فلسطينيي الداخل مع فلسطينيي الضفة وغزة. وجرت إدانة بن غفير في العام 2007 بعد قيامه بحمل يافطة كتب عليها "أطردوا العدو العربي"، وقد أثار مؤخرا ضجة عالمية أحرجت حكومة نتنياهو حين قال في لقاء تلفزيوني مع القناة 12 أواخر آب الماضي، ان حقه وحق زوجته في التحرك على الطرقات في الضفة الغربية يسبق حق العرب في التنقل، وبعد الضجة عمد نتنياهو إلى إعادة تكييف التصريح وصياغته بادعاء أن قصد شريكه هو أن حق اليهود في الحياة يتقدم على حق العرب في الحركة.

يجري تأصيل هذه المواقف العنصرية والمعادية لكل ما هو غير يهودي بالاستناد إلى فتاوى حاخامات ومقولات وأساطير دينية من عصور شتى، وتشكل هذه بمجموعها الأساس النظري لطائفة واسعة من القوانين العنصرية التمييزية مثل قانون العودة وقانون أساس القومية وقوانين مكافحة الإرهاب، وصولا إلى القانون العجيب الذي يقضي بتشديد العقوبات على مرتكبي جرائم الاغتصاب إذا تمت الجريمة على أساس قومي!

وتمثل هذه الذخيرة الأيديولوجية الإطار النظري الذي تستند إليه أحزاب علمانية ودينية على السواء، فطالما أن دولة إسرائيل تعرّف على أنها دولة يهودية أولا وديمقراطية ثانيا يصبح اشتقاق المواقف العنصرية في السياسة والحرب وكل مجال آخر، تحصيل حاصل.

التشكيك في آدمية العرب

ثمة كثير من الفتاوى والمواقف المعروفة في مجال التحريض على العرب والحط من قدرهم الإنساني، عبر سلسلة من الفتاوى والتصريحات التي أدلى بها الحاخام الراحل عوفاديا يوسف (1920-2013) الأب الروحي لحركة شاس، ففي العام 2001 وبعد فترة وجيزة من اندلاع انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية)  وصف يوسف العرب "الذين يتكاثرون في المدينة المقدسة" تارة بالنمل، وتارة بالعقارب والصراصير، ودعا إلى إبادتهم بالصواريخ. وفي مناسبة أخرى في آب 2004 قال يوسف في  خطبة بثتها محطات التلفزة الإسرائيلية "إن اليهودي حينما يقتل مسلما فكأنما قتل ثعبانا أو دودة، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن الثعبان والدودة كلاهما خطر على البشر، ولذلك فإن التخلص من المسلمين مثل التخلص من الديدان أمر طبيعي". وكما هو متوقع لم يُحاسَب يوسف أو يُراجَع بشأن هذه التصريحات العنصرية والتحريض على القتل، بل إن مكانته السياسية والاجتماعية كمرجعية مطلقة الصلاحيات لحزب شاس وكشخص حاسم التأثير في تشكيل الحكومات الإسرائيلية (وفرطها حين تستوجب المصلحة) لم تتأثر على الإطلاق.

يجدر الانتباه إلى أن هذه المواقف العنصرية التي تنضح بالكراهية ليست مجرد مواقف أخلاقية وكلامية عابرة، ولا هي مجرد تقاذف للسباب والشتائم بين الثقافات والشعوب التي تتبادل العداء، ولكنها في إسرائيل واقع مُمأسس، وأرضية تمهد لسياسات تمييزية وعدوانية مباشرة من قبيل إنكار كون الفلسطينيين شعبا له حقوق وطنية وسياسية، وعلى هذه الأرضية وصف وزير الدفاع الحالي يوآف غالانت الفلسطينيين وأعضاء حركة حماس ومؤيديها بأنهم حيوانات بشرية، ومن هذا الوصف يمكن اشتقاق الدعوات لـ"إبادة غزة". وقد ورد هذا التعبير المستمد من حقبة جرائم النازية في كثير من التعليقات والمداولات والندوات الحوارية التي استضافتها محطات التلفزة والإذاعة ومواقع التواصل العبرية، فتعبير الإبادة   (annihilation / הַשׁמָדָה) يستخدم مع الحشرات والآفات الزراعية الضارة، ولم يستخدم في السياسة منذ الحرب العالمية الثانية إلا في حالات محدودة تقل عن اصابع اليد الواحدة مثل جريمة الإبادة في رواندا والاتهامات الموجهة لحكم العسكر في ميانمار وقبلهم في كمبوديا على زمن الخمير الحمر، وها هو يستخدم من دون تحفظ تجاه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من قبل وزراء ومسؤولين وجنرالات متقاعدين وشخصيات جماهيرية عامة ومؤثرة، وهذا التعبير هو الترجمة العملية لما قاله رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في أول تعليق له على عملية طوفان الأقصى، والذي وصف غزة بأنها "مدينة الشر" متعهدا بتحويلها إلى ركام وأنقاض وخرائب.

تردد مصطلح الإبادة كثيرا في الندوات التلفزيونية فالجنرال في الاحتياط يسرائيل زيف، رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي سابقا، تحدث في لقاء حواري مع القناة 12 في اليوم السادس للعملية (12 آب) عن إبادة كل البنية التحتية التي تستخدمها حماس، وقد أفاض محاوروه في تفصيل الأهداف المرشحة للإبادة مثل المقرات الحكومية والجامعة الإسلامية ومكاتب الفصائل والمدارس الخاصة والأبراج، بل الأحياء التي يسكنها قادة حماس أو تضم مكاتب إعلامية وخدمية قريبة من الحركة.

 

غزة من دون بشر!

ومن بين المتحدثين عن أهوال الانتقام ومداه المنفلت من أي ضوابط، برز في الحوار الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، والذي ارتبط اسمه بمشاريع إقليمية واستراتيجية شاملة لإنهاء الصراع بتوسيع مساحة غزة على حساب سيناء وإجراء مبادلات للأراضي بين مصر وإسرائيل والفلسطينيين مع مكاسب لهذه الأطراف ومعها الأردن ومصر. فآيلاند يلخص ما جرى بالقول إن "دولة حماس" هاجمت دولة إسرائيل، وما على الأخيرة سوى قطع الماء والكهرباء والوقود وكل شيء. ويستبق آيلاند ما يجري خلال الحرب بالقول إن على إسرائيل أن تتسبب بوقوع كارثة إنسانية في غزة، إلى أن نصل إلى "غزة من دون حماس أو غزة من دون بشر".

ويرى المعلق العسكري المعروف ألون بن دافيد في مقاله بصحيفة "معاريف" بتاريخ 13 تشرين الأول، أن تدمير غزة وترحيل سكانها إلى دول مجاورة بات أمرا مُلحّا وضروريا للحفاظ على بقاء دولة إسرائيل، وهو يتوقع أن خطوة كهذه سوف تخلق توترا مع مصر، لكنه يرى أن ليس لإسرائيل بدائل أخرى، ما يتطلب البحث عن حل سياسي يفضي إلى إسكان هؤلاء اللاجئين في بلدان أخرى، ويقول: "نحن ملزمون بإبعاد الغزيين عن بلداتنا، ويدعي أن هذه الخطوة لا يحركها الثار رغم أن مشاعر الثأر تعتمل في أوساطنا، فهذه خطوة لبقاء أمة كاملة، وخراب غزة سيكون إشارة لمصير كل من سيحاربنا". وهو يتوقع أنه بعد كل هذا الخراب والدمار ستعود على إسرائيل بعض الفوائد، فالبلدات التي سيعاد إعمارها في الجنوب ستكون مُطلة على البحر هذه المرة.

لا تغيب العواقب الكارثية المتصلة بالأوضاع الإنسانية لمواطني غزة عن كاتب آخر هو ليرون ليبمان الذي يحرص في مقاله في "يديعوت أحرونوت" على البحث عن سبل لاستقبال اللاجئين وتوطينهم بجهود دولية داخل الأراضي المصرية، ويقترح إيجاد ممرات آمنة لإخلاء غزة من السكان ملقيا بمسؤولية معالجة أوضاع اللاجئين على المجتمع الدولي مع إعفاء إسرائيل من أي مسؤولية عن ذلك مع التأكيد على حقها في تدمير غزة.

حتى الوزير السابق اليساري يوسي بيلين ينخرط في هذا النقاش مسلّما بأن الهدف المعلن للقضاء على حماس هو أمر مفروغ منه ومحل إجماع، ولكنه يُسلّم ضمنيا بأن أي مشروع لن يشتمل على إفراغ القطاع من سكانه، ويتساءل في مقال له في صحيفة "يسرائيل هيوم" عما ستفعله إسرائيل في اليوم التالي للقضاء على حماس، مستبعدا قبول السلطة الفلسطينية تسلم الدفة بعد هذه الحرب، ويقترح آليات دولية بمشاركة مصر لمتابعة شؤون السكان الغزيين، ولكنه يحذر بشدة من فكرة العودة إلى حكم قطاع غزة.

ويشاطر إيال حولتا، مستشار الأمن القومي ورئيس مجلس الأمن القومي سابقا، بيلين أفكاره بأن الهدف الواقعي لعمليات الجيش في قطاع غزة هو القضاء على حكم حماس، وهو يقترح في مقاله بصحيفة "يديعوت أحرونوت" التباحث مع الأسرة الدولية والعالم العربي "الذي ينفر من حماس" حول طريقة لإيجاد بديل مدني فلسطيني آخر لحكم قطاع غزة.

الثمار المرة للعنصرية

لطالما تجاهل ساسة إسرائيل وقادتها وجود الفلسطينيين كسكان أصلانيين، أو كشعب جار، أو كشريك محتمل للسلام، فالنظرة الإسرائيلية إلى الفلسطينيين لا تتجاوز اعتبارهم مشكلة ديمغرافية أو أمنية، وفي أحسن الأحوال هم مجرد مشكلة إنسانية يجري التعامل معها من خلال سياسة التسهيلات والسلام الاقتصادي الذي ابتدع نتنياهو فكرته، وطوّرها من خلال صيغة "صفقة القرن"، ثم من خلال التوجه لتحقيق اختراقات وبناء علاقات دبلوماسية وتطبيع مع دول عربية وإسلامية على قاعدة "سلام مقابل سلام" مع تجاهل القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وإذا كانت هذه المقاربات تنطوي على نظرة عنصرية استعلائية لا ترى في الفلسطيني ندّا إنسانياً مكافئاً للإسرائيلي، فقد انعكست هذه النظرة وبالاً على الإسرائيليين الذين لم يتوقعوا أبدا أن هذا الفلسطيني التعس يملك خيارات أخرى غير القبول بفتات التسهيلات على شاكلة زيادة تصاريح العمل في إسرائيل، وتوسيع مساحة الصيد البحري وزيادة كميات الوقود المسموح بدخولها إلى القطاع، وقادر على تطوير إمكانياته حتى في ظل الحصار المطبق إلى الدرجة التي مكنته من توجيه لطمة قاسية تحطم هالة القوة والتفوق الإسرائيلي المطلق.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات