المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

فتحت الاشتباكات التي اندلعت عشية يوم الاثنين الموافق 25.09.2023 في ساحة ديزنغوف في تل أبيب بين مجموعة من اليهود المتدينين الذين كانوا يحاولون إقامة صلاة الغفران مع وضع ستار/ حاجز بين الرجال والنساء في أثناء تأدية الصلاة في الساحة وبين متظاهرين علمانيين ضد الفصل المقام بين الجنسين، الأعين على منظمة "روش يهودي" (رأس يهودي").  في هذه المساهمة، نحاول تسليط الضوء على هذه المنظمة والتعريف بها، أهم أهدافها، وأفكارها ومرجعيتها الأيديولوجية وأهم الجهات الداعمة لها، وذلك في إطار استكمال سلسلة بدأها مركز مدار منذ عامين في التعريف وتسليط الضوء على الجمعيات والمنظمات اليمينية وتلك المحسوبة على اليمين وتدور في فلكه.

تُقدّم "روش يهودي" نفسها على أنها جمعية تسعى لنشر وتعميق الهوية اليهودية في إسرائيل بروح "الصهيونية الدينية"، وهي "مركز للوعي الذاتي يتواجد في قلب تل أبيب بهدف توفير الخبرة والمعرفة والإلهام لجيل الشباب المتعطّش بشكل متزايد للهوية اليهودية، ويؤمن حاخامات الحركة بتعاليم الحاخام كوك".[1]

أُقيمت الحركة في العام 1994 بعد أن تخوفت قيادة المدرسة الاستيطانية "شفي حفرون" في الخليل من خطر الإخلاء في أعقاب اتفاق أوسلو بين إسرائيل وقيادة منظمة التحرير، حيث أطلقوا في ذلك الحين حملة إعلامية ضخمة حملت اسم "الخليل منذ الأزل وإلى الأبد"، وفي أعقاب نجاح الحملة، قرّر يسرائيل زاعيرا ومجموعة من قيادة المستوطنين نقل مركز نشاط الحملة إلى تل أبيب من أجل نشر تعاليم الحاخام كوك فيها، وقد تم الاتفاق على تسمية النواة الاستيطانية- التوراتية الجديدة باسم "روش يهودي"، وبذلك يُمكن اعتبار هذه النواة من الأنوية التوراتية الأولى التي بدأت بالعمل وفقاً لمنطق الأنوية التوراتية "استيطان القلوب" والعودة إلى المدن الإسرائيلية للاستيطان فيها ونشر تعاليم التوراة وتعميق الهوية اليهودية فيها. بلغت موازنة الحركة في العام 2021 قرابة الـ 4 ملايين شيكل، وبحسب معطيات مسجّل الشركات الإسرائيلي؛ فإن جُل هذه الموازنة من تبرّعات ومساهمات إسرائيلية، يلي ذلك الدعم الحكومي (وتحديداً من وزارتي الاستيطان والأديان)، ومن ثم مصادر أخرى لم يتم الكشف عنها،[2] كما أن للحركة ثلاثة فروع اثنان منها في تل أبيب والثالث في مدينة القدس تتوزع أنشطتها بين المعابد اليهودية والمدارس الدينية ومشاريع نشر وترويج الثقافة اليهودية والدين اليهودي.

تناولنا في مساهمة سابقة موضوعة "الأنوية التوراتية" بشكل مفصّل، وقد أوضحنا فيها أن الهدف من هذه الأنوية التي ينتمي روادها وأتباعها من الناحيتين الدينية والسياسية إلى الصهيونية الدينية، هو تديين المجتمع ونشر التوراة في جميع أنحاء "أرض إسرائيل الكاملة"، وذلك في أعقاب اتفاق أوسلو وما تبعه من اغتيال لرئيس الحكومة الإسرائيلية حينها إسحق رابين، ومن ثم مشروع "فك الارتباط" الذي قاده رئيس الحكومة السابق أريئيل شارون، وما نتج عن كل منهما من شعور تنامى في أوساط المستوطنين، تحديداً في مستوطنات الضفة الغربية، أن هذا المشروع؛ أي مشروع الاستيطان، لم يحظَ بالدعم الكافي والمطلوب وأصبح جزء كبير من الجمهور يُصنّف بالنسبة لهؤلاء المستوطنين على أنه "جمهور مُعادٍ" لهذا المشروع، الأمر الذي ترتّبت عليه الرغبة في "إعادة استيطان" الأرض والقلوب، أي وسط المدن الإسرائيلية التي تُركت للعرب وللجمهور اليهودي العلماني.[3] لا يُمكن إغفال الجانب السياسي في مشاريع الأنوية التوراتية عموماً، فالحاخام يوئيل بن نون، وعلى الرغم من أنه يُعد من المعتدلين في الصهيونية الدينية وليس حردلياً، أكّد على أن المستوطنين وعلى الرغم من أنهم أنشأوا مشروعاً استيطانياً مثيراً للفخر؛ إلّا أنهم عملياً لم يستوطنوا قلوب اليهود وهو ما أدّى إلى فقدان الأرض في "يهودا والسامرة"، يقصد الانسحاب الإسرائيلي المحدود من بعض الأراضي في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو، وبناءً على ذلك، بدأت موجتا انتشار "الأنوية التوراتية" الأولى في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو، والثانية في أعقاب مشروع "فك الارتباط" كما أشرنا أعلاه، وهو المشروع الذي تجنّد فيه أتباع ورواد الصهيونية الدينية والحاخام كوك بشكلٍ كبير ولافت.

في هذا السياق، برزت النواة التوراتية المعروفة باسم "روش يهودي" كإحدى مشاريع الأنوية التي انطلقت في المرحلة الأولى (المرحلة التي أعقبت توقيع اتفاقية أوسلو) واختارت من وسط تل أبيب مركزاً لها. فزاعيرا، الرئيس التنفيذي لشركة العقارات الإسرائيلية "بامونا" ومؤسس ورئيس "روش يهودي" الذي قضى حياته في مستوطنات جبل الخليل على الرغم من أنه ولد في تل أبيب، لم يُخفِ أهداف النواة التوراتية فيها رغم أنه تراجع عن ذلك فيما بعد، حيث أعرب في مقابلة أجراها مع "يديعوت أحرونوت" سابقاً عن أمنيته بأن "تنضم الصهيونية الدينية برمّتها إلى مشروع تديين المدينة"،[4] وهو ما جعله يُمثّل ما هو غير مرغوب فيه في الحكومة اليمينية الحالية بالنسبة لليهود العلمانيين- على الأقل- ولهذا السبب على ما يبدو، رفضت بلدية تل أبيب وكذلك المحكمة العليا منح الترخيص المطلوب لقيام أعضاء هذه النواة بإقامة صلاة الغفران مع الفصل بين الجنسين في ساحة ديزنغوف خلال السنوات الماضية رغم أنها سمحت بذلك لحركة "حباد" الحريدية مثلاً التي تحاول الابتعاد عن المضامين السياسية والقضايا الخلافية في المجتمع الإسرائيلي في نفس المنطقة، وقد وصلت ذروة هذه الخلافات خلال يوم "عيد الغفران" في أثناء قيام أعضاء نواة "روش يهودي" بإقامة فاصل بين الجنسين خلال الصلاة بواسطة الأعلام الإسرائيلية، الأمر الذي أدّى الى اقتحام متظاهرين رافضين لمثل هذه المظاهر الساحة وتخلّل ذلك اشتباكات بين الطرفين ألقت بظلالها على المستوى السياسي الذي انقسم في تصريحاته ومواقفه من الحادثة، حيث اعتبر إسحق هرتسوغ، رئيس الدولة، الحادثة بمثابة تهديد "وتُشكّل خطراً حقيقياً على الدولة"،[5] فيما أدلى موشيه يعلون، وزير الدفاع السابق، بتصريح هاجم فيه أعضاء النواة قائلاً "ماذا تريدون من تل أبيب، أخرجوا منها"، واعتبر إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي في الحكومة الحالية، ذلك بمثابة تعدّ على التعدّدية في إسرائيل مُؤكداً أنه سيتوجه يوم الخميس إلى الصلاة في الساحة في سياق دعم هذه الأنوية القريبة من الصهيونية الدينية واليمين بشكلٍ عام (تراجع عن هذه الخطوة في وقت لاحق)، ولا شك في أن كل ذلك يأتي ضمن التصور العام العلماني الذي اعتبر الخطوة بمثابة محاولة من اليمين المتدين ترمي إلى السيطرة على الفضاء العام وتديينه مُشيرين بأصابع الاتهام إلى رئيس بلدية تل أبيب رون خولدائي وحكومة اليمين الحالية بالوقوف خلف هذه المشاريع وتوفير الدعم لها.

 

[1] للمزيد، أنظر/ي موقع الحركة على الشبكة: https://bit.ly/3EUwlCk.

[2] معطيات عن "روش يهودي" في غايد ستار- وزارة العدل، https://www.guidestar.org.il/organization/580394419/services.

[3] للمزيد، أنظر/ي: عبد القادر بدوي، "استيطان الأرض والقلوب: عن أنوية التوراة"، المشهد الإسرائيلي، 26.04.2023، المركز الفلسطينية للدراسات الإسرائيلية- مدار، https://bit.ly/48wt09X.

[4] آدم قطب وجلعاد مورغ، "هذه هي بؤر الخلاف، وهذا من يقود الصلاة المنفصلة: "فخورين بعملية التديين الخاصة بنا"، Ynet- الموقع الإلكتروني لصحيفة يديعوت أحرونوت، 25.09.2023، https://www.ynet.co.il/news/article/bjyijhyl6.

[5] جلعاد كوهين، "تعقيب هرتسوغ على أعمال الشغب في تل أبيب: هناك خطر حقيقي على الدولة"، Ynet- الموقع الإلكتروني لصحيفة يديعوت أحرونوت، 26.09.2023، https://bit.ly/48yC26G.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات