المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كشفت تبعات قرار الوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، القاضي بتقليص زيارات أهالي الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، حجم تمرّده على رئيس حكومته بنيامين نتنياهو، فحينما نفى نتنياهو وجود قرار كهذا، كان رد بن غفير فوريا، بأنه هو صاحب القرار وسيتم تطبيقه. وهذه جولة جديدة مما يبدو وكأنها "حرج" لنتنياهو، إذ أن بن غفير يفاجئ شركاءه بالعديد من القرارات والتصريحات، التي تضع حكومته في موقع مساءلة مع أوروبا والولايات المتحدة؛ وليس بن غفير وحده، بل أيضا شريكه السابق، وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، الذي يدلي بدلوه في هذا المجال؛ لكن من غير الطبيعي أن يكون نتنياهو متفاجئا، فهو على يقين من جوهر شركائه حينما ضغط لتحالفهما في الانتخابات الأخيرة، ليحققا قوة برلمانية غير مسبوقة، صدمت الساحة السياسية الإسرائيلية.

 

خلفية

سعى نتنياهو في الجولات الانتخابية البرلمانية الخمس، منذ نيسان 2019 وحتى مطلع تشرين الثاني 2022، إلى وحدة معسكره، وضمان عدم "حرق أصوات"، بمعنى عدم خوض قوائم من اليمين الاستيطاني المتطرف الانتخابات، من غير أن تضمن اجتيازها نسبة الحسم، التي تعد عالية، في الظروف السياسية الإسرائيلية، 3.25%.

ولم ينجح نتنياهو في أكثر من جولة في مسعاه، وساهم "حرق الأصوات" من جمهور معسكره، متعدد الأحزاب، في فقدانه الأغلبية البرلمانية المطلقة. وفي كل واحدة من جولات الانتخابات، كان يسعى نتنياهو إلى توحيد كافة أحزاب اليمين الاستيطاني المتطرف، الذي في صلبه التيار الديني الصهيوني، وفي كل واحدة من محاولاته، كانت العقبة الأبرز هي دمج أكثر حركة بارزة في انبثاقها عن حركة "كاخ" الإرهابية، المحظورة إسرائيليا صوريا، والتي آخر تسمية لها هي "قوة يهودية" ("عوتسما يهوديت")، بزعامة إيتمار بن غفير، الذي حتى حينما لم يكن هو المرشح الأول عن الحركة كان واضحا أنه القائد الفعلي لها.

إلا أن عوامل المنافسة الشديدة داخل جمهور اليمين الاستيطاني المتطرف، وخاصة لدى التيار الديني الصهيوني، قادت إلى حالة رفض ضم الحركة، التي يقودها بن غفير، إلى أي تحالف في ثلاث جولات انتخابية من أصل 5 جولات، بالرغم من أنه من حيث الجوهر والأهداف، فإن أجندته لا تختلف عن أجندة الحزب الذي يقوده بتسلئيل سموتريتش، ونجح الأخير قبل أقل من شهر، في ضم حزب المفدال التاريخي، بتسميته "البيت اليهودي" له، بعد أن لم ينجح هذا الحزب في اجتياز نسبة الحسم، في الانتخابات الأخيرة.

قبل انتخابات الكنيست الـ 25 الأخيرة، التي جرت يوم 1 تشرين الثاني 2022، وقع انشقاق في التحالف بين سموتريتش وبن غفير، الذي تشكّل في انتخابات الكنيست الـ 24، التي جرت في أواخر آذار 2021. وحتى الأسابيع الثلاثة الأخيرة، قبل تقديم القوائم، ظهر وكأنه لا يمكن إعادة التحالف، إلا أن نتنياهو مارس ضغوطا جمّة على الاثنين ليستمرا في التحالف، وحتى أن يضما حزبا ثالثا صغيرا، وهو حزب "نوعام"، الأشد تطرفا، بين الأكثر تطرفا في اليمين الاستيطاني المتطرف.

وكان الاتفاق، كما ظهر لاحقا، إبرام تحالف تقني، بمعنى أنه تحالف لغرض اجتياز الانتخابات، ثم يتفكك إلى ثلاث كتل، وهذا ما حصل فورا بعد الانتخابات، ليجد نتنياهو نفسه أمام ضغوط شديدة جدا لتشكيل الحكومة، رغم أنه لم يكن أي خيار آخر أمام كل واحد من الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم، ولم يكن في بال أحد أن لا تتشكل الحكومة في نهاية المطاف، والتوجه لانتخابات سادسة، لأن الأغلبية التي حققها معسكر نتنياهو، كان قسم منها تقنيا، بمعنى بسبب عدم اجتياز قوائم نسبة الحسم، رغم أنها حتى لو اجتازت، لكان هذا المعسكر سيحظى بأغلبية 61 مقعدا من أصل 120 مقعدا في الكنيست، لكن إعادة للانتخابات في حينه، كانت ستضع تلك الأغلبية على "كف عفريت".

في نهاية الضغوط، حقق كلٌ من بن غفير وسموتريتش مكانة سلطوية بوزن يفوق حجم كل واحد منهما في البرلمان، مع صلاحيات غير مسبوقة، خاصة في ما يتعلق بجهاز الشرطة، إذ باتت لبن غفير صلاحيات إدارية أكبر بكثير مما كان لأي وزير سبقه، وهذا انعكس على عمل الشرطة.

كما أن سموتريتش، وبعد رفض توليه منصب وزير الدفاع، يتولى حاليا منصب وزير في وزارة الدفاع إلى جانب كونه وزيرا للمالية، وتولى مسؤولية "الإدارة المدنية" في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها شؤون التنظيم والبناء، لتمرير مخططات استيطانية أشد خطورة مما كان.

"حرج" من دون ضغوط

لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد وضع الاثنان نتنياهو وحكومته في "حالة حرج" معلنة أمام أوساط عالمية، وخاصة دول أوروبية، والإدارة الأميركية، رغم أن هذا الحرج، وحتى الآن، لا يقود إلى أي حالة صدام أو ضغوط على حكومته، وإنما حالة قطيعة واضحة جدا. فنتنياهو من "عُشاق التجوال"، بحسب وصف الصحافة الإسرائيلية على مر السنين، وهو يهتم كثيرا بأن يكون ضيفا على الدول بوتيرة عالية، لكن هذه ليست الحال منذ أن عاد إلى منصبه الحالي في نهاية العام الماضي 2022.

وحسب تقارير إسرائيلية، فإن نتنياهو ليس فقط في حالة شبه انقطاع، عن زيارات الدول، بل حتى الاتصالات مع قادة دول العالم في أدنى مستواها، عدا عن أن عددا من وزرائه، وبشكل خاص بن غفير وسموتريتش، هم أشخاص غير مرغوب بهم في دول العالم.

والانقطاع الأبرز الحاصل، هو مع الولايات المتحدة، فهذه المرّة الثانية التي يكون فيها نتنياهو رئيس حكومة في عهد الرئيس جو بايدن، لكن في الثلث الأول من العام 2021، حينما تولى بايدن الرئاسة الأميركية، كانت إسرائيل في أوج حملة انتخابات برلمانية، فقد بعدها نتنياهو رئاسة الحكم. أما الآن، ورغم مرور أكثر من 8 أشهر، فإن نتنياهو لم يزر واشنطن، وهناك علامة سؤال على مسألة لقائه بادين على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الجاري، في حين قالت تقديرات إن نتنياهو قد يزور البيت الأبيض في تشرين الثاني المقبل.

لكن شبه القطيعة الأميركية لنتنياهو ليست بسبب تركيبة حكومته، التي أضافت ذرائع لإدارة بادين لانقطاعها عن نتنياهو، وإنما أيضا بسبب دور نتنياهو في الحلبة السياسية الأميركية، منذ الانتخابات الأميركية في العام 2012، حينما ظهر بشكل جلي تحرك نتنياهو ضد الحزب الديمقراطي، لمنع إعادة انتخابات الرئيس الأسبق باراك أوباما، وتكرر الأمر في انتخابات العامين 2016 و2020، لصالح الجمهوريين ودونالد ترامب.

حرج ولا مفر  

كما ذكر سابقا، فقد أصدر بن غفير قبل أيام، قرارا فرديا، بتقليص زيارات أهالي الأسرى الأمنيين إلى أبنائهم، لتصبح مرّة كل شهرين، بدلا من زيارة واحدة كل شهر، وفرض الأمر على سلطة السجون، وثارت اعتراضات من مراكز حقوقية، فيما سارع جهاز المخابرات العامة للإعلان عن أنه ليس شريكا في القرار، وأنه فوجئ به. تبعه بيان من مكتب رئيس الحكومة نتنياهو، وقال إن النبأ الصادر مزوّر وليس صحيحا (فيك نيوز)، فسارع بن غفير للرد على بيان نتنياهو بالإعلان عن أن القرار صادر عنه بموجب صلاحياته الجديدة، وسيدخل القرار حيز التنفيذ فورا.

ما يعني أنه بغير المتبع على مدار عشرات السنين، فإن بن غفير اتخذ قرارا فرديا، في حين أن قرارات بهذا المستوى تؤخذ إما بالتشاور مع الأجهزة الأمنية، أو بتوجه من الأجهزة لحكومتها، ولم يحدث سابقا أن قرارا كهذا يصدر مباشرة عن الوزير المكلف بسلطة السجون.

وهذا ينضم لسلسلة قرارات وتصريحات أصدرها بن غفير بموجب الصلاحيات التي أسندت له، بعد تعديل القانون المتعلق بمنصبه، بحسب شروط الانضمام إلى حكومة نتنياهو، بدءا من فرض قيود على الأسرى، مثل منع تناولهم الخبز العربي، ومؤخرا تصريحه بأن حقه هو وزوجته بالتجوال بحرية في الضفة الغربية، يفوق حرية تنقلات الفلسطينيين في الضفة الغربية، الأمر الذي وضع إسرائيل أمام طلبات استفسار وتوضيح من جهات دولية.

كذلك فإن بن غفير، ومثله سموتريتش، انفلتا أكثر من مرّة على الإدارة الأميركية، طالبين منها عدم التدخل، بما أسموه "الشؤون الإسرائيلية الداخلية"، وهذا ما يزيد حالة التباعد بين الجانبين، كما يبدو حتى الآن.

حينما سعى نتنياهو لضمان تمثيل قوي لهذا التيار السياسي الأشد تطرفا، كان يعرف تماما ليس فقط جوهر أجندة قادته، بل أيضا تصرفاتهم الشخصية، ونهجهم العدواني، عدا عن كونهم العنوان السياسي لعصابات الإرهاب الاستيطانية، ما يضعنا أمام استنتاج بأن نتنياهو لا يرى بهذه الأجندات تناقضا جوهريا مع أجندته السياسية، والنتيجة السياسية التي يريدها على الأرض.

ورغم ذلك، في ظروف طبيعية، فإن كل رئيس حكومة معني بأن يظهر بأنه هو صاحب القول الفصل في جميع القضايا في حكومته، وشؤون المؤسسات الحاكمة، وفي هذه النقطة، فإن الاثنين، بن غفير وسموتريتش، أظهرا ضعف نتنياهو، لكن كمن يسعى للثبات في حكومته، وبقدر أكبر، اجتياز حاجز محاكمته دون أي ادانة، أو فرض أحكام تبعده عن السياسة، فإنه لا مفر أمام نتنياهو من تجرّع مرارة صنيعته، الماثلة أمام الجميع.

فكل هذا يجري حاليا، يتزامن مع بدء مرحلة شديدة الحساسية بالنسبة لشخص نتنياهو: نظر المحكمة العليا بالالتماسات ضد تعديل قانون تجميد صلاحيات رئيس الحكومة، واستئناف جلسات محاكمته بعد انتهاء عطلة المحاكم الصيفية.

وبحسب العديد من التقارير الإسرائيلية، فإن نتنياهو أكثر ما يعنيه حاليا، هو أن يمر تعديل قانون تجميد صلاحيات رئيس الحكومة، حاجز المحكمة العليا، إذ أنه في أوائل العام الجاري، أي في بدايات عمل الحكومة الحالية، بادر الائتلاف لتعديل بند في قانون الحكومة، الذي يُعنى بحالات تجميد صلاحيات رئيس الحكومة، بحيث أن تجميد الصلاحيات يكون فقط في حالات صحية ونفسية، والقصد اخراج الشأن الجنائي من ضمن قائمة حالات تجميد الصلاحيات. وبموجب القرار فقد دخل التعديل القانوني حيز التنفيذ فورا، ليسري على نتنياهو، الذي كان يتخوف طيلة الوقت من صدور قرار محكمة، خلال سير محاكمته، يقضي بأنه بات تناقض مصالح يقضي بتجميد صلاحيات رئيس الحكومة.

وقدمت سلسلة التماسات ضد هذا التعديل القانوني، ومن المتوقع أن تصدر المحكمة قرارا بشأنها خلال الأسابيع المقبلة.

وفي الأسبوع الماضي، استأنفت المحكمة المركزية في تل أبيب جلسات محاكمة نتنياهو، بقضايا فساد، بعد انتهاء عطلة المحاكم الصيفية، وبعد أن كانت المحكمة قد أنهت في شهر تموز الماضي، أحد فصولها المركزية، بالاستماع لأبرز شهود النيابة، الذين منهم من انقلب على إفادته في الشرطة؛ إلا أن خط النهاية في هذه المحاكمة يبدو أنه ما زال بعيدا بسنوات، رغم مرور عامين و7 أشهر على بدئها، إذ أعلنت النيابة أنها ستحتاج لسبعة أشهر إضافية على الأقل، لاستكمال عرض شهودها على المحكمة.

كل هذا الوضع يجعل نتنياهو متمسكا أكثر من غيره بالقاعدة الائتلافية المتينة، كي تحافظ على حكومته، التي يرى فيها حصنا في مواجهة إجراءات قضائية ضده، قبل انتهاء محاكمته.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات