تقدم هذه المقالة تلخيصا مكثفا للفتوى القانونية التي أعدتها منظمة "يش دين" الحقوقية الإسرائيلية، حول الطبيعة القانونية للممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة منذ العام 1967، وهي فتوى قانونية تنطلق من القانون الدولي الإنساني والمكانة القانونية التي استندت اليها إسرائيل لتبرير وتسويغ وجودها (المؤقت) واحتلالها العسكري للأراضي الفلسطينية بحكم كونه "احتلالا عسكريا مؤقتا" وإدارة للأراضي المحتلة لا يفترض أن يؤثر أو يمس بطبيعته هذه مكانة الأراضي التي يحتلها، وحقوق السكان الخاضعين لسيطرتها العسكرية التي يفترض أن تنتهي بانتهاء الاحتلال.
هذه الفتوى القانونية قدمت إلى محكمة العدل الدولية، بطلب من هذه المحكمة، وقد أعدها طاقم قانوني ترأسه المحاميان ميخائيل سفراد وكيرن ميخائيلي، ونشرت على موقع منظمة "يش دين" باللغتين العبرية والإنكليزية في حزيران 2023 بالتزامن مع مرور 56 عاما على الاحتلال الإسرائيلي.
تكمن أهمية هذه الفتوى القانونية بسبب طبيعة الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة التي تتنكر للقانون الدولي، والاتفاقيات الموقعة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، والتي تجهد بشكل حثيث ومن خلال تسلم قادة المستوطنين وممثليهم في الحكومة حقائب وزارية مفتاحية وذات صلة مباشرة بمؤسسات المستوطنين والجيش ومنظومة الاحتلال وإدارته العسكرية والمدنية في الضفة المحتلة من أجل تكريس الاحتلال، بما يشير إلى أن عملية إعادة صياغة الواقع القانوني والديمغرافي والمعيشي للفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال والأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل لصالح المستوطنين والسعي لحسم الصراع تجري بشكل متسارع وعلني وبما يتعارض كليا مع القانون الدولي الإنساني.
تتكون الفتوى من ستة أبواب تنطلق في الباب الأول من الأساس القانوني الذي استند إليه الإحتلال الإسرائيلي بحيث يشرح المميزات الاستثنائية للحكم الإسرائيلي في الأراضي المحتلة وآليات الهندسة الديمغرافية لهذه الأراضي، والفصل القانوني والسكاني الذي أنتجه على أسس إثنية وقومية، وتاليا الضم الزاحف والذي يكرس يوميا دون إعلان رسمي. وفي الفصل الخامس يفرد التقرير مساحة مهمة لقانونية الاحتلال من وجهة نظر القانون الدولي، وأخيرا طبيعة النظام الذي نشأ فعليا على الأرض وهو يظهر بكل وضوح على كونه نظام أبارتهايد عنصري.
مميزات الحكم العسكري الإسرائيلي في الأراضي المحتلة عام 1967
لم تبدأ عملية الضم وتأسيس نظام أبارتهايد عنصري مع استلام حكومة اليمين المتطرف أعمالها نهاية العام الماضي، بل وضعت بذورها مع بداية الاحتلال الإسرائيلي قبل 56 عاما، وهو احتلال تميز بعدة محددات أبرزها:
العمل على هندسة المنطقة ديمغرافيا من خلال إدخال العنصر اليهودي وتوطينه في المستوطنات الإسرائيلية على حساب أراضي الفلسطينيين وبشكل منفصل عنهم، وخلق فصل جغرافي على أساس قومي بين المجموعتين السكانيتين، مع السعي بشكل متدرج وثابت نحو الضم وفرض السيادة الإسرائيلية، وهو ما يعكس الرغبة بتحويل الاحتلال إلى حالة دائمة.
برّرت حكومات الاحتلال هذه التوجهات بالسيطرة على الأرض والفصل بين المجموعتين السكانيتين وتجاهل القانون الدولي وحقوق الفلسطينيين وبحاجاتها الأمنية (الداخلية والخارجية) وهي ذريعة تسقط أمام الواقع الذي تم تكريسه وتم ارساؤه عبر وسائل عديدة.
وتجزم الفتوى المقدمة للمحكمة الدولية أن الهدف الرئيس الذي سعت إليه حكومات إسرائيل المتعاقبة، والذي أصبح أحد أبرز معالم سياستها، هو الهندسة الديمغرافية وإدخال العنصر الإسرائيلي اليهودي لتعزيز سيطرته وتوسيعها وإدامتها من خلال التغيرات والسيطرة الديمغرافية.
ان هذه العملية التي بدأت منذ اليوم الأول للاحتلال سعت إلى تهويد المكان وافراغه من ساكنيه وملاكه وتغيير طابعه بما يطمس هويته العربية الفلسطينية، عبر تشجيع الهجرة من داخل الخط الأخضر إلى المستوطنات المقامة في المناطق المحتلة، والتي طورتها ووسعت دائرة الاستثمار بها وفي تهيئة بنية تحتية مدنية متطورة وشبكة طرق معقدة ومرافق تعليمية وصحية، مقابل قيام الحكم العسكري الصارم بلجم تطلعات الفلسطينيين وحجب تطورهم بعدة وسائل أبرزها مصادرة الأراضي العامة والخاصة وتقييد البناء، والحد من قدرة الفلسطينيين على الوصول إلى أراضيهم ومواردهم التي سخرت لصالح الاستيطان وتهيئة المناطق المحتلة للضم الفعلي.
وقامت الهندسة الديمغرافية التي اعتمدها الاحتلال على أساس مركبين أساسيين: زيادة عدد المستوطنين والمساحات التي يسيطرون عليها والبنية التحتية التي تخدمهم، مقابل تضييق الخناق على الفلسطينيين وحصر وجودهم في معازل محاطة بالاستيطان من كل الجهات من خلال:
وتعتبر السياسات الكولونيالية وتشجيع الاستيطان العامل المؤسس وحجر الزاوية في السياسة الإسرائيلية تجاه الأراضي التي احتلتها عام 1967 بحيث بلغ عدد المستوطنات 132 مستوطنة إلى جانبها 146 بؤرة استيطانية ومزرعة (الاستيطان الرعوي) تضم (حتى نهاية العام 2022) قرابة 465000 مستوطن (455000 منهم يهود) يشكلون 5% من مجمل سكان إسرائيل و14% من عدد سكان الضفة وذلك ثمرة لسياسة تحفيزية وموارد وإعفاءات ضريبية فردية وتجارية لقطاعات الصناعة والزراعة داخل المستوطنات وتسهيلات تملّك وسكن ووفرة أراض وبنية تحتية ومنظومة تعليم ومواصلات قدمتها حكومات الاحتلال المتعاقبة.
ورغم أن المحكمة العليا ردت تشريعا إسرائيليا قدم في العام 2017 لتبييض البؤر الاستيطانية والذي يهدف إلى شرعنة البؤر التي أقيمت بشكل عشوائي في مختلف أنحاء الضفة، إلا أن الحكومة شرعنت 23 بؤرة ولا زالت 13 أخرى قيد التبييض إلى جانب تسع بؤر اتخذ المجلس الوزاري المصغر (الكابينيت) قرارا بتبييضها في بداية العام الحالي 2023.
استثمرت حكومات إسرائيل مبالغ طائلة من أجل تطوير مشروعها الاستيطاني وتأمين وصول الكهرباء والماء وشبكات صرف صحي وطرق خصصت لخدمة اليهود والربط بين المستوطنات، وربطها جميعا بالمناطق الواقعة داخل الخط الأخضر مضافا إلى هذه المبالغ ما ينفق على الأمن والحراسة وبناء الأسيجة والجدران وتخصيص قوات لتأمين الطرق ومحيط المستوطنات والبؤر الاستيطانية وخلق مناطق فاصلة بينها وبين التجمعات الفلسطينية.
والقدس المحتلة التي تم ضمها لإسرائيل بعد فترة قصيرة من احتلالها، عانت هي الأخرى من نفس السياسة وبوتيرة أسرع وأكثر تركيزا، حيث بات يسكنها 230 ألف مستوطن في 12 حيا جميعها أقيمت على أراض مصادرة.
التضييق على الفلسطينيين
أبرز الوسائل التي تنتهجها سلطات الاحتلال لمصادرة الأرض هي الإعلان عنها على أنها أراضي دولة، وذلك من أجل حرمان الفلسطينيين من الاستفادة منها وتخصيصها للاستيطان اليهودي.
هذا الإجراء يستند إلى أن معظم أراضي الضفة غير مسجلة بشكل رسمي، وما بدأ به الانتداب البريطاني واستكملته الأردن لم يتجاوز 30% من الأرض، وهو ما تستغله سلطات الاحتلال بوسائل مدنية وعسكرية لصالح مشروع الاستيطان الذي استفاد من 99.76% من هذه الأراضي أي ما يعادل 674.459 دونماً مقابل 1624 دونماً لصالح الفلسطينيين.
إلى جانب الإعلان عن أراض على أنها أرض دولة، قامت سلطات الاحتلال بمصادرة ما يقارب من خمس مساحة الضفة- 17.5% من أراضي الدولة أو الأراضي الخاصة لأغراض عسكرية أو باعتبارها أماكن تدريب خاصة على طول الحدود مع الأردن، أو لغرض شق طرق أو خلق مناطق عازلة، كما تم منذ العام 1999 منع الفلسطينيين من دخول المستوطنات دون إذن مسبق (10% من مساحة الضفة).
تخصيص الأرض والموارد لصالح الاستيطان بشكل ممنهج، أو سرقتها والسيطرة عليها من قبل مجموعات استيطانية صغيرة وإقامة مزارع وبؤر عليها، وتحويلها إلى نقاط هجوم للاعتداء على الممتلكات والحقول والقرى الفلسطينية، حرم الفلسطينيين من إمكانية التطور الطبيعي والعمراني بما يتناسب مع النمو السكاني حيث تم تخصيص 0.6% فقط من مساحة المنطقة المصنفة (سي) لصالح الفلسطينيين.
وتستحوذ إسرائيل على كافة الموارد الطبيعية الحيوية في الضفة وتحرم الفلسطينيين من الاستفادة منها وخاصة المياه الجوفية التي يضطر الفلسطيني إلى شرائها بينما يستفيد منها المستوطنون، بسبب منع إسرائيل الفلسطينيين من حفر آبار وإخضاعها لمصالحها هي.
الفصل السكاني والقانوني
تعيش في الأراضي المحتلة مجموعتان سكانيتان تحت منظومتين قانونيتين مختلفتين.
فبينما تتبع المجموعة الأصلية لمنظومة قوانين من العهد الأردني والانتداب البريطاني والقوانين العسكرية التي تحرمها من معظم حقوقها الأساسية، أدخلت المنظومة العسكرية الإسرائيلية والكنيست والإدارة المدنية جملة تعديلات وقوانين وأوامر عسكرية استثنت المستوطنات والمستوطنين من هذه القوانين ومنحتهم صلاحيات واسعة في إدارة ذاتية ضمن المجالس الاستيطانية وأخضعتهم لمنظومة الأحكام والقوانين الجنائية الإسرائيلية في كافة مجالات الحياة.
خلق هذا الفصل ظروفا أصبح فيها سكان الضفة الفلسطينيون يعيشون فيما يشبه السجن بعد بناء الجدار الفاصل وتكريس الفصل السكاني بينهم وبين المستوطنين وحرمانهم من مواردهم وأراضيهم، بينما يتبع المستوطنون لدولة إسرائيل ويتمتعون بحرية الحركة بين شقي الخط الأخضر.
فرض السيادة الإسرائيلية
تمتنع إسرائيل بشكل علني ورسمي عن فرض سيادتها على الأراضي التي احتلتها عام 1967 باستثناء القدس، وبقيت تعرف هذه المناطق على أنها "مناطق مدارة" إلا أنها في السنوات الأخيرة اتخذت عدة قرارات وسنت تشريعات تصب في هذا المنحى وأهمها:
(*) إقرار أعضاء مركز الليكود بالأغلبية في العام 2017 بضرورة ضم الضفة.
(*) تعبير بنيامين نتنياهو عشية الانتخابات في 2019 عن رغبته في ضم الضفة إلى إسرائيل.
(*) إعلان الحكومة الـ 37 برئاسة نتنياهو في خطوطها العريضة أن "للشعب اليهودي الحق الحصري في تقرير المصير على أرض إسرائيل كاملة"، وهو ما ترجمه في الاتفاق الائتلافي مع حزب الصهيونية الدينية على شكل تعهد "ببسط السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية".
(*) نقل صلاحيات الإدارة المدنية في العام 2023 من الحكم العسكري ووزير الدفاع إلى وزير مدني في وزارة الأمن (بتسلئيل سموتريتش) كما اتفق على توسيع القوانين الإسرائيلية في الاراضي المحتلة.
وهو ما يوضح أن السياسة المتبعة قائمة على أساس ترسيخ الضم القانوني للمستوطنين في الأراضي المحتلة إلى إسرائيل وتكريس حالة الفصل بينهم وبين الفلسطينيين قانونيا وسكانيا.
المكانة القانونية للاحتلال
يستمد الاحتلال الإسرائيلي (بصفته احتلالا عسكريا) قانونيته ومرجعيته من القانون الدولي الإنساني وتحديدا اتفاقية جنيف الرابعة واتفاقية لاهاي الخاصة باحترام قوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني، التي أجمعت جميعها على ثلاثة مبادئ أساس وهي: عدم نقل السيادة من دولة محتلة على سكان دولة يخضعون تحت احتلالها العسكري وترك حق تقرير المصير بيدهم، والحفاظ على مقدراتهم وأملاكهم ومواردهم وإدارتها بما يخدم مصالحهم، وأخيرا الحفاظ على الطابع المؤقت للاحتلال وعدم تحوله إلى وجود دائم.
تخلص التوصية بعد استعراض التشريعات والممارسات والسياسات الإسرائيلية على مدى 56 عاما حتى اليوم، إلى أن إسرائيل ومن خلال القمع والسيطرة المباشرة، استغلت احتلالها بشكل سلبي وفي غير مصلحة السكان، وأنها سعت منذ أول لحظة لتحويله إلى احتلال دائم وهو ما خلق نظاما عسكريا قائما على الفصل العنصري القانوني والسكاني على أساس قومي (أبارتهايد).
إن تهمة الأبارتهايد اذ تنطبق على توصيف الوجود الإسرائيلي في الأراضي المحتلة والنظام الذي أرسته لصالح المستوطنين وعلى حساب وجود وحقوق وموارد وحياة الفلسطينيين، ليست أيديولوجيا أو توصيفا أيديولوجيا بل هي تعبير قانوني غير مرتبط بوجود أيديولوجيا قائمة على العرق لدى مرتكبه، وهي جريمة حرب ضد الإنسانية.
ويعتبر التقرير الذي يخلص إلى الفتوى أن الوجود الإسرائيلي يحمل في طياته كل العناصر الكفيلة بأن تحوله إلى وجود كولونيالي دائم قائم على الفصل على أساس قومي لصالح مجموعة سكانية على حساب أخرى، وهو بالتالي أصبح وجودا غير قانوني ويتنافى بشكل قاطع مع القانون الدولي والأسس التي استند اليها لتبرير وجوده.
يختم التقرير فتواه بأن هذا الوجود وبالشكل المدروس والمعد مسبقا وغير الارتجالي الذي يتصرف به تجاه المجموعتين السكانيتين، إنما يحول كل الضفة الغربية، وليس القدس لوحدها، إلى أراض "تجري عملية ضمها إلى إسرائيل" بشكل متسارع وبما يتنافى مع القانون الدولي، ويعد أيضاً جريمة حرب ضد الإنسانية.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, الخط الأخضر, بتسلئيل, الإدارة المدنية, تهويد, الليكود, بنيامين نتنياهو