ظاهرياً، تبدو الصورة التي ترتسم من النقاش العام عن واقع اللامساواة القائم في إسرائيل واضحة تماماً وتحظى باتفاق شبه إجماعيّ، عناصرها الأساسية المكوِّنة هي التالية: اليهود الغربيون (الأشكنازيون) في أعلى الهرم، يليهم اليهود الشرقيون (السفاراديم)، ثم يأتي العرب الفلسطينيون المواطنون في إسرائيل في أسفل الهرم. لكن، كيف حدث هذا وتكرّس واقعاً؟ هنا، أيضاً، تبدو الإجابة، في الظاهر وكما هي متداولة في إطار النقاش العام، واضحة تماماً وتحظى باتفاق شبه إجماعيّ: الثقافة هي السبب، بالتأكيد ـ ذلك أنّ "الشرقيين، والعرب بدرجة أكبر منهم بكثير، يجدون صعوبات جمّة وبالغة في الانخراط في الحياة العامة في إسرائيل الحديثة، لأنهم ترعرعوا في/ جاؤوا من بلاد فقيرة ذات خلفيات ثقافية غير عصرية".
هذا هو التحليل، المبني على الخلفيات والاختلافات الثقافية، الذي كان سائداً ومُعتمَداً حتى زمن غير بعيد في الأبحاث والدراسات الأكاديمية الإسرائيلية، وليس في "النقاش العام" فحسب. وقد ظهر أحد التعبيرات الأكثر حدّة وفظاظة عن هذا المنظور الفكري التحليلي، الذي تكرّس مرجعية معتمَدة وحيدة، في وقت مبكر جداً من عمر دولة إسرائيل حين كتبت عالمة الاجتماع ريفكا بار يوسف في ستينيات القرن الماضي أنه "يتعين على المهاجرين من البلدان العربية (اليهود الشرقيون) الخضوع لعملية محو تنشئتهم القديمة (Desocialization)، أي محو ثقافتهم المشرقية ـ العربية، ثم إخضاعهم من بعد ذلك إلى عملية أخرى هي إعادة التنشئة الاجتماعية من جديد (Resocialization)، لاستبدال الثقافة السابقة، المشرقية ـ العربية، بثقافة أخرى جديدة، هي الغربية ـ الأوروبية". وإذا كانت هذه التفسيرات التحليلية تنطبق على اليهود الشرقيين، فمن المؤكد أنها تنطبق على العرب عموماً والفلسطينيين منهم خصوصاً.
"متساوون في ماذا؟"؛ "متساوون مع مَن؟"
لكنّ عدداً غير قليل من الباحثين الإسرائيليين اقترح تفسيرات أخرى لتحليل واقع اللامساواة القائم في إسرائيل، ربما كان أبرزهم د. شلومو سفيرسكي، أستاذ علم الاجتماع في جامعتيّ تل أبيب وحيفا سابقاً والمدير الأكاديمي الحالي لـ "مركز أدفا" (مركز المعلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل). فقد حاول سفيرسكي دراسة هذه الادعاءات بصورة نقدية وخلص إلى تقديم تفسير بديل يشدّد على أهمية وأثر سيرورات الإفقار المحلية في إسرائيل ومؤكداً على أن "الشرقيين لم يأتوا إلى إسرائيل لكونهم شرقيين وإنما لكونهم يهوداً"، إلا أنهم "بصفتهم هذه (يهود أبناء الطوائف الشرقية)، أُخضِعوا، كلهم من دون استثناء وإن بدرجات مختلفة، إلى سيرورات الإفقار المتعمّدة، سواء من خلال توطينهم في المناطق الطرفية النائية أو بلترتهم (proletarization - تحويلهم إلى بروليتاريا / جزء من طبقة العمال) أو تضبيطهم (Tracking - مصطلح شائع في علم الاجتماع والتربية يعبر عن الآليات الاجتماعية المختلفة التي تخلق أو تحدد مسارات محددة للأفراد أو للمجموعات على نحو يتيح، أو يمنع، التناضد الاجتماعي Social stratification. ويشير هذا المصطلح إلى توجيه مجموعات سكانية مختلفة إلى مسارات مختلفة بما يضع لها "سقفاً زجاجياً" يؤدي بالتالي إلى إضعاف دافعيتها وقدراتها، ثم تقليص فرص اختراقها المسارات و"الحدود" التي رُسمت لها مسبقاً)".
أما عن الفلسطينيين، فيقول سفيرسكي إنهم "كانوا، حتى العام 1948، يشكلون أغلبية السكان في البلاد لكنهم خسروا في الحرب ففقدوا بلادهم ورأسمالهم المركزي، أي أراضيهم. وقد تم تهجير أو هروب أغلبيتهم وأصبحوا لاجئين معدمين تماماً. غير أن كثيرين منهم ظلوا في أرضهم وبيوتهم فوجدوا أنفسهم تحت الحكم العسكري الإسرائيلي حتى نهاية العام 1966. هؤلاء الذين بقوا ضمن حدود دولة إسرائيل (عرب 48) أصبحوا أقلية مضطَهَدة وفقيرة".
وفي إطار محاولته هذه لتقصي الجذور الحقيقية لواقع اللامساواة في إسرائيل والسيرورات التي أدت إلى نشوئه وتعمّقه، تفاقمه، باستمرار، يعود سفيرسكي إلى السؤالين المركزيين في مسألة المساواة، مستهجناً أن يكون الباحثون غير متفقين حتى الآن على طريقة ما للإجابة عليهما، بالرغم من حقيقة كون واقع اللامساواة يحتل مركز الحلبة السياسية ـ الاقتصادية وصدارتها، منذ وقوف المفكرين على الإسقاطات الاجتماعية الإشكالية التي نجمت عن الثورة الصناعية، على الأقل. أما هذان السؤالان المركزيان فهما: "متساوون في ماذا؟" و"متساوون مع من؟". ذلك أن في الإجابة على هذين السؤالين تحديداً لطرق قياس اللامساواة وترسيماً لصورة واقعها بما يحدد، بالتالي، إن كان القياس صحيحاً وحقيقياً والصورة حقيقية وواقعية، أم لا. فضمن طرق القياس المتبعة حتى الآن، للإجابة على السؤال الأول (متساوون في ماذا؟)، تجري مقارنة الأجور الشخصية و/ أو مداخيل الوحدات (الاقتصادات) العائلية، من الأجور بوجه أساس، وهي مقارنة تُبقي الأثرياء و/ أو ثراءهم خارج المعادلة نظراً لأن معطيات الأجور لدى هؤلاء ليست هي المعطيات الأهمّ بالضرورة. كذلك في الإجابة على السؤال الثاني (متساوون مع من؟)، يبقى الأثرياء خارج نطاق العينات التي تُبنى عليها مسوح المداخيل التي يجريه المكتب الحكومي المركزي للإحصاء في إسرائيل، بسبب إشكاليات التمثيل.
على هذا، يتضح أن المعطيات المستخدَمة في قياس اللامساواة ـ في مؤشر جيني على سبيل المثال لكن ليس فيه فقط وإنما في معظم هذه المؤشرات ـ لا تشمل الأشخاص "الذين يسوون أكثر". ذلك أن قسائم الرواتب الخاصة بهؤلاء ـ بافتراض أنهم يحصلون عليها، أصلاً! ـ هي التفصيل المعلوماتي الأقل أهمية هنا. فالحديث يدور هنا، أساساً، عن أكبر المشغِّلين، أصحاب الشركات الكبيرة، المبادرين في مجال التكنولوجيا العالية، كبار المستثمرين الماليين، أصحاب المبادرات التجارية الكبيرة، المقاولين والمستوردين. إنهم الأشخاص الذين يصممون الاقتصاد وفق مصالحهم، ثم يصممون بالتالي واقع اللامساواة وهم الذين يقررون معدلات البطالة، سياسات الأجور وأسعار المنتجات المختلفة.
ويرى سفيرسكي أن هذه الطبقة الاجتماعية، التي يمكن إطلاق اسم مؤقت عليها هو "ملوك/ حيتان الأموال"، هي "الاختراع" الأكثر أهمية في القرن الحادي والعشرين حتى الآن وهي التجديد الأكبر في الخطاب العام في مسألة المساواة/ اللامساواة.
"الانفجار العظيم"
عند هذه النقطة تنتقل الدراسة إلى الحديث عن أبرز التحولات التاريخية التي مرّت بها/ مرّت على كل واحدة من المجموعات الأساسية في المجتمع الإسرائيلي (الأشكنازيون، السفاراديون والفلسطينيون) والتي أدت، بالتالي، إلى حصول اللقاء الثلاثي بينها. فخلال فترة زمنية قصيرة جداً، بضع سنوات، وقعت أحداث دراماتيكية موضعت المجموعات الثلاث المذكورة في مراحل ودرجات مختلفة من سلم طبقي مشترك: الحرب العالمية الثانية، الهولوكوست، الحرب اليهودية ـ الفلسطينية في 1948، الاقتلاع المكثف لمجتمعات يهودية بأكملها من دول عربية ثم تهجير وهروب الفلسطينيين إلى ما وراء الحدود. "وليس أقل من هذا كله أهمية: في 1948 "تزودت" إحدى تلك المجموعات بدولة"، يضيف سفيرسكي مشيراً بوضوح إلى الأشكنازيين.
هذا بالضبط ما يطلق عليه سفيرسكي اسم "الانفجار العظيم للامساواة في إسرائيل"، مستعيراً اسم النظرية السائدة في علم فيزياء الكون اليوم لتفسير نشأة وتطور الكون ـ نظرية الانفجار العظيم (The Big Bang). وهو العنوان الذي اختاره لدراسته الأخيرة الصادرة عن مركز "أدفا" مؤخراً، منطلقاً من تأكيد فكرة مركزية مفادها أنه "بدون فهم هذه الأحداث التاريخية، من الصعب جداً فهم التشكل السريع للهرمية الطبقية التي نشأت في إسرائيل ولا تزال واضحة المعالم والملامح حتى يومنا هذا". وبدون فهم هذه الأحداث التاريخية المؤسِّسة، من الصعب فهم طريقة التشكّل السريع للهرمية الطبقية التي لا تزال قائمة، بهذا الشكل أو ذاك، حتى يومنا هذا.
ما من شك في أن جذور هذه الهرمية تمتد إلى ما قبل 1948، لكن تلك السنة تحديداً شكلت نقطة تحول دراماتيكية. ويكفي، في هذا السياق، النظر إلى المعطيات الديمغرافية: في بداية تلك السنة، كان الفلسطينيون يشكلون أغلبية السكان في فلسطين الانتدابية وبلغ عددهم 1.37 مليون نسمة، مقابل أقلية يهودية بلغ تعدادها 650 ألف نسمة فقط. لكن في نهاية العام 1951 هبط عدد الفلسطينيين إلى 932.000 بينما أصبح اليهود يشكلون الأغلبية بواقع 1.350.000 نسمة، أي مثل عدد الفلسطينيين قبل الحرب.
في استعراض ما مرّ على كل واحدة من المجموعات الثلاث المذكورة من أحداث تاريخية دراماتيكية وأثرها، تالياً، على واقعها وموقعها في سلم المساواة/ اللامساواة في إسرائيل، يقول سفيرسكي في الحديث عن الفلسطينيين إن موجة المد القومي لم تقتصر آنذاك على أوروبا فقط، بل اجتاحت الدول العربية أيضاً. غير أنها بدأت هنا كقومية عربية شاملة كانت تعتزم بناء ذاتها على أنقاض الإمبراطورية العثمانية التي بدأت تهتز أركانها. والدول العربية التي نعرفها اليوم تشكلت في وقت لاحق، بأيدي الدول العظمى الاستعمارية الأوروبية.
اعتبر الفلسطينيون سكان هذه البلاد أنفسهم جزءاً من الأمة العربية الكبرى ورأوا في مقاومتهم للمشروع الصهيوني، في البدايات، تجسيداً لموقف عربي عام وليس لموقف فلسطيني محدود. وفي المقابل، لم يحظ الفلسطينيون بأي دعم دولي، على غرار "صك الانتداب على فلسطين" الذي منحته "عصبة الأمم" لبريطانيا وتضمن، أيضاً، "وعد بلفور". وهذا، في نظر سفيرسكي، هو أحد الأسباب لعدم وضع الفلسطينيين وتطويرهم مشروعاً دولتياً، كذلك الذي وضعه وتنباه اليهود. وهكذا، ضاعت فرصة الفلسطينيين التاريخية في أن يقموا لهم دولة مستقلة. ولكن، ما هي أهمية "الأداة" المسماة "دولة" في مسألة المساواة/ اللامساواة هنا؟
يحاول سفيرسكي الإجابة (ويلجأ هنا إلى الفرية التضليلية التي تتهم الشعب الفلسطيني برفض قرار التقسيم وتحمّله المسؤولية التاريخية عن نتائج ذلك الرفض وتبعاته) فيقول إنه لو أقام الفلسطينيون دولة لأنشأوا وكرسوا مؤسساتهم الدولتية الخاصة بهم ولم يكونوا بحاجة إلى تعاطف الدول العربية وصدقاتها وصدقات المؤسسات الإنسانية الدولية المختلفة؛ ولو أقاموا دولتهم المستقلة، بجانب دولة إسرائيل، لالتزمت هذه الأخيرة الحيطة والحذر من مغبة احتلال أراضٍ خصصها قرار الأمم المتحدة للدولة الفلسطينية، مثلما أحجمت مصر والأردن عن احتلال مناطق كانت مخصصة للدولة اليهودية؛ ولو أقاموا دولتهم المستقلة، لما نشأت قضية اللاجئين الفلسطينيين، أو لكان نطاقها أضيق مما حصل فعلياً بكثير؛ ولو أقاموا دولتهم المستقلة، لما قامت إسرائيل، ربما، بمصادرة الأراضي من البلدات العربية في أعقاب الحرب واعتبرتها "أملاك غائبين"؛ ولو أقاموا دولتهم، لنشأ تتابع إقليمي فلسطيني على الأرض، كما تعهد به قرار عصبة الأمم، ولم يحدث الشرخ بين قطاع غزة والضفة الغربية؛ وربما كانت إسرائيل سترتدع عن احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967.
ويضيف سفيرسكي فيقول: لماذا يقبع الفلسطينيون في قاع السلم الاجتماعي ـ الاقتصادي؟ لأنهم تعرضوا في العام 1948 لتدمير مجتمعهم وقيادتهم بصورة مأساوية؛ لأنهم فقدوا الجزء الأكبر من رأسمالهم ومصدر رزقهم ـ الزراعة، الأراضي والمباني ـ وتحولوا بين ليلة وضحاها من مزارعين مستقلين إلى "أيدٍ عاملة" لدى مشغّلين يهود؛ لأنهم تعرضوا للإقصاء طوال كل السنوات الماضية من أية مشاريع تطويرية نفذتها الدولة الإسرائيلية؛ لأن إسرائيل تعاملت معهم طوال كل السنين الماضية وكأن أي تحسن أو تطور يحققونه يشكل تهديداً على قوتها، بل على مجرد وجودها كدولة يهودية.
ونتيجة لهذا كله، أصبح مصدر الرزق الأساس المتاح أمام الفلسطينيين، سواء سكان المناطق التي تم احتلالها في العام 1948 أو سكان المناطق التي تم احتلالها في العام 1967: سوق العمل الإسرائيلية، وخاصة فرع البناء... "ففي غياب دولة فلسطينية، يقوم الفلسطينيون ببناء دولة إسرائيل"، كما يختم سفيرسكي.