المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
الانتخابات الإسرائيلية.. نقائض تزداد تكشفاً. (وكالات)
الانتخابات الإسرائيلية.. نقائض تزداد تكشفاً. (وكالات)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1325
  • سليم سلامة

شهدت السنوات الأخيرة تواتراً ملحوظاً جداً في التحذير من "خطر حقيقي يحيق بنظام الحكم في إسرائيل وبمؤسساته الديمقراطية" المختلفة، سواء كانت الكنيست (السلطة التشريعية) أم المحاكم (السلطة القضائية) أم الإعلام (السلطة الرابعة)، مصدره الأساس هو "السلطة التنفيذية" والمسيطرون على مقاليدها، خلال العقدين الأخيرين بوجه خاص. لكنّ دولة إسرائيل لم تكن في يوم من الأيام، منذ تأسيسها حتى اليوم، نموذجاً ديمقراطياً ليبرالياً يمكن اعتماده والاقتداء به، بل كان نظامها ـ منذ أيامها الأولى ـ نموذجاً هجيناً هو عبارة عن خليط من مركبات ديمقراطية وأخرى تسلطية/ استبدادية كثيراً ما كانت الكفة ترجح، في فترات زمنية مختلفة، لصالح أحد هذين الطرفين النقيضين ـ الديمقراطي أو الاستبدادي.

هذه هي الخلاصة المركزية الأبرز التي يسجلها تقرير جديد أعدّه المحامي والباحث القانوني إيتاي ماك وصدر مؤخراً عن "معهد زولات، للمساواة وحقوق الإنسان"، تحت عنوان " ديمقراطية في الظاهر: وضع نظام الحكم في إسرائيل"، بالاستناد إلى رأي استشاري وضعه د. تمير ماغال، وبمساعدة طاقم توجيهي ضمّ كلاً من: البروفسور دانيئيل برطال، البروفسور إيال غروس، البروفسور نعومي حزان، د. مها كركبي ـ صباح والبروفسور أوريت كيدار. وهؤلاء، في غالبيتهم، أعضاء في "اللجنة التوجيهية" في "معهد زولات، للمساواة وحقوق الإنسان" الذي تأسس في أيار 2020 بمبادرة شخصية من عضو الكنيست السابقة زهافا غالئون، الرئيسة السابقة لحزب ميرتس، وربما اللاحقة أيضاً بعد أن أعلنت أنها ستتنافس في الانتخابات التي ستجرى لمنصب رئيس الحزب (ولقائمة مرشحيه للانتخابات البرلمانية القادمة) في الثالث والعشرين من آب المقبل. و"زولات" (أي: الغير، الإنسان الآخر، بالعربية) هو معهد للفكر والأبحاث أقيم لدفع وتعزيز السياسات في موضوعي المساواة وحقوق الإنسان، مموضعاً نفسه كجسر يربط ما بين السياسة والمجتمع المدني لضمان تحقيق إنجازات بعيدة الأثر في هذين المجالين من خلال السعي إلى وضع "ميثاق حقوق" و"دستور" مكتوبين عبر تشريع سلسلة من قوانين الأساس الخاصة بحقوق الإنسان والحقوق الاجتماعية. وينطلق "زولات" في عمله هذا ونحو أهدافه هذه من القناعة بأن ما يسميها "القوى التقدمية في إسرائيل" ملزمةٌ بالتوقف الفوري عن وضعية الدفاع والانتقال المباشر إلى وضعية الهجوم، بدلاً من الاستمرار في حالة الاستكانة والانجرار الدائمين وراء ما يمليه اليمين الإسرائيلي من جدول أعمال ولغة سياسية خلال العقد الأخير على الأقل، ثم إعادة صياغة جدول الأعمال العام وفقاً لمنطلقات هذه "القوى التقدمية" وبما يخدم قيمها وأهدافها. ويرى "زولات" أن تحقيق هذه الأهداف يتطلب، أولاً، "إعادة ترميم شرعية الديمقراطية، المساواة وحقوق الإنسان في إسرائيل، من خلال الاستعانة بالأبحاث الرامية إلى وضع سياسات استراتيجية ملائمة".

ديمقراطية مأزومة، منذ يومها الأول

ينوه واضعو التقرير، بداية، بأنّ "تقريرنا الجديد هذا يكتسب أهمية موضوعية وراهنية ملحّة، وخاصة في ضوء تزامنه مع حل الكنيست والذهاب إلى انتخابات برلمانية جديدة، هي الخامسة في غضون أقل من ثلاث سنوات، ستكون "دراماتيكية بشكل خاص واستثنائي"، كما يقول هؤلاء، لأن "نتائجها قد تؤدي إلى ترجيح إحدى كفّتي المبنى الهجين لنظام الحكم في إسرائيل: إما الكفة الديمقراطية وإما الكفة الاستبدادية". ثم يربط معدو التقرير، ربطاً يبدو طبيعياً ومنطقياً تماماً، بين هذا والأجندة التي يطرحها ويعمل على تنفيذها التكتل السياسي المحيط ببنيامين نتنياهو، والتي تتلخص ـ في أساسها وبصورة علنية واضحة، كما يشخصها التقرير ـ في كونها "أجندة إضعاف النظام الديمقراطي ومنظوماته الكابحة، العنصرية الفظة تجاه المواطنين العرب، كراهية الغرباء، المثليين جنسياً والنساء و... أجندة تهشيم عظام اليسار بطريقة ديمقراطية". لكنّ واضعي التقرير سرعان ما يستدركون موضّحين أن تقريرهم يبيّن على نحو جليّ تماماً أن "أزمة الديمقراطية الإسرائيلية لم تنشأ في عصر رئيس الحكومة الفلاني أو العلاني ولا بسببه هو، بل هي أزمة نشأت وتطورت على خلفية الظروف التاريخية، السياسية، الاجتماعية والاقتصادية، المحلية والدولية، منذ اليوم الأول لإنشاء الدولة". غير أن تمحور التقرير في فترة حكم دافيد بن غوريون (رئيس الحكومات الإسرائيلية من الأولى حتى الرابعة، ثم من السابعة حتى العاشرة) وحزب "مباي" (الذي سيطر على مقاليد الحكم في إسرائيل منذ قيامها حتى العام 1977 بصورة متواصلة ودون أي انقطاع) ثم في فترة حكم بنيامين نتنياهو (بين 1996 و1999 ثم من 2009 حتى 2021) وحزب الليكود (الذي تربع على سدة الحكم للمرة الأولى في العام 1977 ثم أصبح الحزب الأكبر في البلاد منذ الانتخابات للكنيست الـ 20 في العام 2015 حتى اليوم) ـ هذا التمحور في هذه الفترات "ينبع من أوجه الشبه العديدة بين الوجهات الاستبدادية التي تميزت بها ومن حقيقة كونها الفترات التي بلورت وشكلت طابع وطبيعة نظام الحكم في إسرائيل"، كما يوضح معدو التقرير.

فقد تعززت المركّبات الاستبدادية في نظام الحكم الإسرائيلي، وفق التقرير، خلال سنيّ حكم إيهود باراك (حزب العمل، وريث "مباي")، أريئيل شارون وإيهود أولمرت (حزب الليكود، ثم "كديما" الذي انشق عن الليكود) بشكل خاص، ثم أخذت في الترسّخ والتعاظم والاستفحال فور اغتيال رئيس الحكومة إسحق رابين في تشرين الثاني 1995 مباشرةً، وهو ما تمثل في البداية ـ أكثر شيء ـ في توسيع المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وتكريس السيطرة الاحتلالية على الشعب الفلسطيني. في المقابل، وبالتزامن مع ذلك، انتشر وتعزز في داخل حدود "إسرائيل السيادية"، كما يصفها التقرير، خطاب نزع الشرعية عن الجهاز القضائي وأذرعه المختلفة، عن "معسكر اليسار"، عن بعض العناصر النقدية في الأكاديميا الإسرائيلية وفي الحقل الثقافي عموماً وعن الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، بصورة خاصة وحادة جداً.

خلال فترة حكمه، كرئيس للحكومة للمرة الثانية، استغل بنيامين نتنياهو المركّبات الاستبدادية التي كانت قد تبلورت وترسخت في نظام الحكم الإسرائيلي وتقدم بها خطوات إضافية، على الدرب الذي شقه وعبّده حزب "مباي" وآخرون ممن سبقوه شخصياً في رئاسة الحكومات الإسرائيلية، ناهيك عن إطلاقه بضع مبادرات تشريعية وجماهيرية موغلة في التطرف أدت، في النتيجة، إلى ما يصفه التقرير بأنه "كسر قواعد اللعبة الديمقراطية في إسرائيل". هكذا جرى، على سبيل المثال، إضعاف مكانة قوانين الأساس، اتخاذ خطوات فعلية مختلفة لتقليص صلاحيات الكنيست وقدرته على ممارسة الرقابة البرلمانية على السلطة التنفيذية (الحكومة) وأذرعها المختلفة، عبر تشريعات قانونية مختلفة وإجراءات عملية لإشاعة الشك والتشكيك في الأذرع القضائية المختلفة، في مهنيتها وموضوعيتها، وتقويض مكانتها واستقلاليتها المهنية، في الوقت الذي يُفترض وينبغي فيه أن تشكل هي الكابح الأقوى والأهمّ في وجه السلطة التنفيذية. كما تقلصت حدود المنافسة السياسية ومساحتها المتاحة جراء نزع الشرعية عن المواطنين العرب ومشاركتهم السياسية، كما عن "اليسار" أيضاً، وعن ممثليهم السياسيين حدّ إقصائهم التام عن الملعب السياسي الشرعي.

الانتفاضة الفلسطينية الثانية فاقمت مركّبات الاستبداد

يشمل التقرير، الذي يمتد على ثمانين صفحة، ستة فصول مقسمة إلى العديد من الأبواب التي تعالج مختلف مركّبات نظام الحكم في إسرائيل وتستعرض مختلف جوانب الأزمة التي تمسك بتلابيبه. أما الفصول الستة فمعنونة بما يلي: 1. ملخّص؛ 2. مقدمة؛ 3. خلفية نظرية، وفيه الأبواب التالية: مبادئ الأساس في النظام الديمقراطي، سلطة/ حكم الشعب، سلطة/ حكم القانون، حماية حقوق الإنسان والمواطن، مبادئ الأساس في النظام الاستبدادي، نظام الأقلية الحاكمة (الديمقراطية العِرقية)، الأداء التعسفي، السيطرة المحكمة على الحيزين الخاص والعام، الاستخدام الواسع للمركّبات الاستبدادية من أجل فرض القانون وتطبيقه، النموذج الهجين؛ 4. مركّبات استبدادية في إسرائيل خلال القرن الـ 20 وتعاظمها في بدايات القرن الـ 21، وفيه الأبواب التالية: بدايات الدولة ـ الخمسينيات والستينيات، الثمانينيات والتسعينيات، التشريعات والرقابة القضائية، السيطرة على الحيز العام والإعلام، المنافسة السياسية، التمييز ضد المواطنين العرب في إسرائيل، تعاظم المركّبات الاستبدادية في إسرائيل خلال السنوات التسع الأولى من القرن ألـ 21؛ 5. تعاظم المركّبات الاستبدادية خلال فترة حكم بنيامين نتنياهو كتاسع رئيس للحكومة في إسرائيل، وهو الفصل الأكبر وفيه الأبواب التالية: إضعاف مكانة قوانين الأساس، تقليص صلاحيات الكنيست وقدرته على ممارسة الرقابة البرلمانية على السلطة التنفيذية، تقليص اعتماد الحكومة على إقرار الميزانية العامة للدولة، قانون التسويات، تكديس القيود على إمكانية عزل الحكومة بواسطة التصويت لحجب الثقة عنها، زعزعة مكانة "حراس النظام الديمقراطي"، حملة "حُكم الموظفين"، الحملة لضرب ثقة الجمهور بالمستشار القانوني للحكومة وبالسلطة القضائية، الحملة لضرب استقلالية وأداء الإعلام في إسرائيل، الإجراءات الرامية إلى إقصاء مواطني إسرائيل العرب وممثليهم إلى خارج الملعب السياسي، تشريعات تمييزية، قانون المواطَنة، قانون لجان القبول وتعميق اللامساواة الحيزية، قانون كامينيتس، قانون النكبة، قانون القومية، محاولة ضرب المشاركة السياسية، كاميرات التصوير في صناديق الاقتراع في المجتمع العربي، حملات تحريضية في فترات انتخابية، إقصاء ممثلي الجمهور العربي عن البرلمان، رفع نسبة الحسم، شطب قوائم مرشحين ومرشحين، قانون العزل، إقصاء اليسار إلى خارج الملعب السياسي، ملاحقة وإسكات منظمات يسارية وحقوقية، قانون الجمعيات، التحريض ضد المنظمات، التعليم والمدارس، منع ممثلي المنظمات من الدخول إلى المدارس، ملاحقة رجال تربية بذريعة التعاون مع تنظيمات يسارية، ملاحقة رجال تربية محسوبين على اليسار، الترويج الحكومي للفكر القومي المتعصب في المدارس، الفنون والثقافة، قانون الولاء في الثقافة، قانون النكبة، حملة مكثفة وشاملة ضد فكرة المقاطعة من الداخل ومن الخارج، قانون المقاطعة، قانون الدخول إلى إسرائيل، الأكاديميا، مساهمة المنظمات اليمينية في محاولات الإسكات ضد اليسار؛ 6. تلخيص.

يؤكد التقرير، كما أشرنا أعلاه، أن أزمة الديمقراطية في نظام الحكم الإسرائيلي هي أزمة قديمة ترافق الدولة منذ اليوم الأول لتأسيسها؛ وكذلك هي أيضاً التوترات العميقة جداً التي تمور في هذا النظام وتتجسد في أدائه. وللتدليل على هذا، يبحث التقرير أيضاً في الوجهات الاستبدادية التي ظهرت خلال العقود الأولى من عمر الدولة حين كان حزب "مباي" يتربع على عرش السلطة. ويبين التقرير أن أزمة الديمقراطية في إسرائيل نشأت وتطورت على خلفية الظروف التاريخية، السياسية، الاجتماعية والاقتصادية، المحلية والعالمية، منذ تأسيس الدولة. كذلك، منذ بداية القرن الـ 21، خلال فترات حكم بنيامين نتنياهو، إيهود باراك، أريئيل شارون وإيهود أولمرت، كرؤساء للحكومات الإسرائيلية، تعززت واتسعت المركبات الاستبدادية في نظام الحكم ومفاصله. هذه المركّبات، التي "تفاقمت على خلفية الانتفاضة الفلسطينية الثانية"، كما يؤكد التقرير، تأثرت إلى حد كبير جداً بالتغيرات التي حصلت في موازين القوى السياسية في داخل المجتمع الإسرائيلي في أعقاب اغتيال رئيس الحكومة إسحق رابين في أواخر العام 1995. وبالتوازي مع تعميق المشروع الاستيطاني وتوسيعه في مناطق الضفة الغربية الفلسطينية وإحكام السيطرة الاحتلالية على الشعب الفلسطيني، تعزز في داخل إسرائيل وتعمق خطاب نزع الشرعية عن الجهاز القضائي وأذرعه، عن "معسكر اليسار" وعن مواطني إسرائيل العرب.

في الجزء الأخير من التقرير، في فصل "التلخيص"، يضع معدّوه توصيات عملية لمحاربة ومعالجة "التشوه الاستبدادي في نظام الحكم في إسرائيل" تشمل، من ضمن ما تشمل، تعديل وتمتين الأحكام القانونية القائمة التي يمكنها تعزيز الأسس والمركبات الديمقراطية في نظام الحكم والاستعداد لمواجهة الأخطار التي احتدمت خلال السنوات الأخيرة. وتقوم هذه التوصيات على تحليل الواقع الذي تعيشه إسرائيل وتمارسه قياداتها السياسية منذ إقامتها حتى اليوم. في صلب هذا التحليل وما يسجله من خلاصات: أولاً، أن احتلال إسرائيل للمناطق الفلسطينية واستمرار السيطرة الاحتلالية على الشعب الفلسطيني منذ العام 1967، بما ينطوي عليه ذلك من انتهاك منهجي لحقوق الإنسان الفلسطيني الأساسية، ناهيك عن السلب والنهب والتدمير وبناء الجدار العازل وتوسيع الاستيطان، "يخلق فصلاً بنيوياً بين دولة إسرائيل والسكان الإسرائيليين الذين استوطنوا بتشجيع منها في المنطقة الخاضعة للاحتلال، بما يعزز المركّبات الاستبدادية في بنية النظام الحكم الإسرائيلي". وبهذا، "يلعب الاحتلال دوراً تدميرياً من خلال خلق نظاميّ حكم مختلفين تماماً ضمن إطار سياسي واحد. ذلك أن السيطرة العسكرية الإسرائيلية المتواصلة على المناطق الفلسطينية المحتلة، اعتماداً على نظام عسكري قمعيّ وعلى منظومة قوانين وقواعد تختلف كلياً وتماماً عن تلك السائدة والمعمول بها في النظام الديمقراطي في داخل إسرائيل، قد جبت وما زالت تجبي وسوف تجبي ثمناً باهظاً من المجتمع الإسرائيلي وثقافته السياسية التي اعتادت على "كسر القواعد""، كما يؤكد التقرير الذي يشير في هذا السياق أيضاً إلى مدى الضرر الناجم عن "العلاقة بمجموعات الأقلية في داخل المجتمع الإسرائيلي".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات