المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 866
  • هشام نفاع

بعيداً عن العناوين السياسية الإسرائيلية الصاخبة، يدور جدلٌ ضيّق النطاق من ناحية ممارسيه والمهتمّين به على حد سواء، مع أنه يتعلّق بأكثر حجارة الزاوية أساسيةً في بنية الحقوق والحريّات المتعلّقة بالتعبير والتفكير. إذ ألغى مسرحٌ مستقل في بئر السبع، قبل أسابيع قليلة، عرض مسرحية لأنها تضم شهادات لجنديّات إسرائيليّات خدمن سابقاً في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967؛ شهادات كنّ أدلين بها إلى منظمة "لنكسر الصمت" التي تجمع وتنشر شهادات لجنود يصفون تجربتهم العسكرية في جيش الاحتلال بكل ما فيها من اعتداءات على الفلسطينيين وحقوقهم وحرياتهم وممتلكاتهم.

المفارقة أن هذا المسرح المستقل يطلق عليه اسم (وتصنيف) "فرينج"، أي مسرح الهامش. وهو المسرح الذي، بحكم تعريفه، ينتج خارج مؤسسات المسرح الرئيسية وبأنماط غير تقليدية في الأسلوب أو الموضوع عادةً. المصطلح مأخوذ من مهرجان إيدنبرغ لمسرح فرينج (الهامش) في لندن، وهو يعادل مسارح أوف- أوف- برودواي في نيويورك ومجموعات "المسرح الحر" في أوروبا.

وفقاً لوسائل إعلام عبريّة، جاء قرار المسرح بعد أن بعث مدير منظمة يمينية إسرائيلية تطلق على نفسها اسم "بتسيلمو - حقوق الإنسان بالروح اليهودية"، يدعى شاي غليك، برسالة إلى رئيس بلدية بئر السبع يطالب فيها بمنع عرض مسرحية "غريزة أساسية" التي ألّفتها وأخرجتها الفنانة ياعيل طال. وقد وصفت ما حدث على أنه جاء مفاجئاً إذ أُبلِغت عن إلغاء عرض مسرحيتها في نفس يوم العرض المُزمع مساءً. ووفقاً لما نشرته على صفحتها في موقع "فيسبوك" فإن مسرح "فرينج" قدّم مجموعة من المبرّرات غير المتماسكة بل المتعارضة.
وبكلماتها:

"اليوم أغلِق الباب في وجوهنا بشكل صادم. ومن قبل أولئك الذين من المفترض أن يكونوا عائلتنا، عائلة الفنانين. وبشكل أكثر تحديداً مسرح فرينج. فهذا الصباح تلقينا مكالمة هاتفية من إدارة المسرح قدموا لنا فيها مجموعة متنوعة من الأسباب المبهمة لإلغاء المسرحية".

ومما تبيّن لاحقاً فقد زعمت إدارة المسرح في البداية أن هناك مسيرة في شوارع بئر السبع في المساء نفسه، مما يصعّب إقامة العرض. ولاحقاً قالت إنه لم يتم بيع عدد كافٍ من التذاكر. إلا أن المخرجة صرّحت أنه في محادثة هاتفية مع المدير الفني للمسرح يوآف ميخائيلي "قال لي بصراحة شديدة إنهم ألغوا العرض لأن الضجّة حول المسرحية هي ضجّة غير إيجابيّة، ولست على استعداد لدفع ثمن هذا العرض". وعلّقت المخرجة: "الحقيقة هي أنني أرتجف الآن".

منظمة محترفة في الملاحقة وحملات التحريض

تعرّف منظمة "بتسيلمو" نفسها في موقعها على الإنترنت كـ "منظمة تعمل على حماية حقوق الإنسان، ووقف المظالم التي تُرتكب ضد الإنسان بشكل عام واليهود بشكل خاص". وتضيف: "لقد اكتشفنا فراغاً بين مئات المنظمات التي تهتم بالإرهابيين والمتسللين بينما لا أحد يهتم باليهود!". (علامة التعجّب في الأصل). ومن بين المجالات التي تعمل فيها ما تصفه بـ "منع التحريض في الثقافة"، وتكتب:

"في إسرائيل، كدولة ديمقراطية، هناك حرية تعبير. حرية في الثقافة وحرية في الأوساط الأكاديمية. ولسوء الحظ، هناك من يستخدم هذا للتحريض على قتل اليهود ومحاولة مقاطعة دولة إسرائيل. على الرغم من وجود قوانين واضحة ضد التحريض على القتل والتحريض على العنصرية والترويج لمقاطعة إسرائيل، فإن دولة إسرائيل تموّل وترعى هيئات و"مبدعين" متخصصين في التحريض على القتل بسبب العنصرية والمقاطعة. خلال السنوات الخمس الماضية، تعاطينا مع عشرات الحوادث الخطيرة التي يحظرها القانون والتي دعمتها دولة إسرائيل".

وتفصّل أسلوب عملها: "توجهنا إلى المستشار القانوني للحكومة والوزراء المعنيين، وإلى رؤساء سلطات محلية ورؤساء بلديات وأعضاء في المجالس البلدية، وإلى الصحافة المحلية والقطرية. ومن خلال الضغط السياسي والقانوني والإعلامي تمكنّا من إغلاق ثلاثة أماكن كانت بؤر تحريض بالإضافة إلى ذلك تسببنا في توقف الهيئات الأخرى عن استضافة وتقديم مشاريع "ثقافية" تشجع على العنصرية ومقاطعة إسرائيل". وهي تقصد دورها في الحملات ضد مسرح "الميدان"، المسرح العربي في حيفا، وغاليري الفنون "بربور" في القدس، ومنتدى التعايش العربي-اليهودي في بئر السبع. هذه الهيئات الثلاث تم إقصاؤها من مقرّات بملكية أو بدعم السلطات المحلية.

في قضية مسرحية "غريزة أساسية" بعثت المنظمة برسالة إلى رئيس بلدية بئر السبع، روبيك دانيلوفيتش، دعته فيها إلى إلغاء عرض المسرحية، ومما كتبته فيها: "تشير التقارير الإعلامية إلى أنه ستُعرض مسرحية لمنظمة "لنكسر الصمت" ضد الاحتلال (تم وضع الكلمة بين مزدوجين في نص الرسالة). المسرحية التي تستند على شهادات منظمة "لنكسر الصمت" تشهّر وتمس بجنود الجيش الإسرائيلي والمواطنين الإسرائيليين ودولة إسرائيل". وهاجمت الرسالة منظمة "لنكسر الصمت" معتبرة إياها "واهية" و "تمارس الكذب" واعتبرت أن المسرحية "تنضح كراهيةً وتحريضاً" وطالبت بإلغاء العرض.

ليس واضحاً ما حصل بعد إرسال الرسالة من منظمة اليمين إلى رئيس بلدية بئر السبع. لكن ما بدا واضحاً في النتيجة وفي العلن أن مسرح فرينج استسلم للضغوط. المخرجة قالت لصحيفة "هآرتس": "قبل أيام رأيت رداً من شاي غليك على إحدى منشورات تسويق المسرحية جاء فيه: "قيد العلاج. سيتم إلغاء العرض". أنا لم أتعمق في الأمر.. إنه التهديد المعتاد. ظننا أنه قد يصل إلى تظاهرات، وهنا تم إبلاغنا بإلغاء العرض". وتضيف أن المدير الفني ميخائيلي عرَض "أن يعوضني مالياً، ولكن هذا آخر ما يهمني. أخبرته أنني لا أفهم كيف يمكنه التعايش مع هذا القرار. وكيف تخلوا عنا لشاي غليك وتركونا وحدنا في المعركة ضده".

أصوات تضامُن

على نحو غير معتاد في السنوات الأخيرة، حيث صمتت قطاعات ثقافية مرة تلو الأخرى في إثر حملات تحريض منظمات اليمين الاحتلالي- الاستيطاني، شهدت هذه القضية تحرّكاً علنياً. فقد دانت منظمة الممثلين الإسرائيليين، ونقابة المخرجين في إسرائيل، وجمعية مصممي الرقصات المسرحية، وجمعية المبدعين المستقلين في المسرح، قرار مسرح فرينج بئر السبع إلغاء العرض. وقال المتحدث باسم منظمة الممثلين: "هذه خطوة لا يمكن تصورها وغير مقبولة على الإطلاق. تم إلغاء عرض مسرحي لأسباب سياسية وديماغوغية ودون أن يشاهده أحد على الإطلاق. نشعر بالاستهجان والصدمة أن مسرحاً- خصوصاً الذي يُعرّف نفسه على أنه مسرح هامش، أي يفترض أن يوفر المنصة والصوت للتيارات غير السائدة - يلغي عرضاً بإشعار مدته أقلّ من يوم واحد. منظمة الممثلين لن تمرّ على هذه الخطوة بصمت. لن نعطي أبداً مصداقية لسلوك التنمر والتطرف والعنف الذي يتعارض مع كل قيمنا كفنانين تعتبر حريتهم في التعبير منارة لدربهم، من اليمين واليسار".

ومن جهتها أعلنت منظمة المخرجين في منشور على فيسبوك: "إذا لم تتم إعادة المسرحية إلى المسرح، نرى أنفسنا ملزمين بمقاطعة مسرح فرينج والتوقف عن العرض فيه، لأن المكان الذي يتم فيه إسكات المبدعين هو مكان لا يليق بالمسرحيات والجماهير. شاي غليك يختار منذ سنوات مهاجمة المسرح الإسرائيلي في محاولاته لفرض الرقابة والتخويف وإخراج أعمال فنية من سياقها. هناك مكان لجميع الآراء السياسية وهناك مكان للتعبير عنها بطرق قانونية، بدون استخدام العنف اللفظي أو الجسدي. هذا هو جوهر حرية التعبير".

الخطوة التالية كانت رسالة وقعها 67 فناناً وفنانة وكاتباً وكاتبة وجهوها إلى وزير الثقافة حيلي تروبر تحت عنوان: "صمتكم في هذه القضية مدوٍ". بين الموقعين أسماء معروفة في المشهد الثقافي الإسرائيلي: الكتّاب دافيد غروسمان، دوريت رابينيان، إتغار كارت، والفنانون: موني موشونوف، ريفكا ميخائيلي، أفيف جيفن، أفينوعام نيني، ونوعا كولير. وكتبوا: "نوجّه هذه الرسالة إليكم بناء على فرضيّة أساسية – نحن نعتقد أنك مثلنا تماماً، تؤمن أيضاً أنه يجب الحفاظ على حرية التعبير وحرية الفن والإبداع وحمايتها. كما تعلم، تم إلغاء عرض مسرحية "غريزة أساسية" بعد أن طالبت عناصر اليمين المتطرف رئيس بلدية بئر السبع بـ "إلغاء الحدث على الفور"، وبعد الضغط على المسرح نفسه. إن صمتكم بشأن هذه القضية صارخ". وأضافت الرسالة مخاطبةً الوزير: "لم يكن هذا المطلب ليُلبى من دون قطف الرأس والتواطؤ من جانب سلطات الدولة المختلفة، وخاصة وزارتك... نحن ندعوكم لأداء دوركم وتوضيح موقفكم بشكل لا لبس فيه. أحياناً يجدر بنا أن نعرف كيفية الوقوف في وجه التنمر ومحاولات الإسكات. هذا ما نتوقع منك".

الفنانة المعروفة ريفكا ميخائيلي قالت لصحيفة "هآرتس" إن "مدير المسرح جبان. من المفترض بمسرح الهامش أن يضرب، إنه خارج الإطار، دائماً على الهامش. لذا فلا يوجد أي مبرر فني ولا شرعي لإلغاء العرض. أعتقد أنه يجب أن يستقيل". وحذرت من تصعيد نشطاء اليمين ضد الفن قائلة إنه أمر خطير للغاية.

الوزير الليبرالي يتباهى بأنه لم يكم أفواهاً كسابقته!

الوزير تروبر اختار البقاء بعيداً عما يطالَب به. فقد ردّ بأنه في عهده لم يتم إلغاء أي مؤسسة ثقافية ولم تُفرض قيود على المضامين. وأضاف أن "أفضل طريقة للحفاظ على حرية التعبير هي الحد الأدنى من تدخّل السياسيين في قرارات المؤسسات الثقافية. ولا يبدو لي أنكم تريدون العيش في مجتمع يتدخل فيه وزير الثقافة والرياضة في عروض معينة".
ويبدو أن الوزير في تهرّبه هذا يقارن نهجه بنهج الوزيرة اليمينية السابقة ميري ريغف (الليكود) التي قادت حملات تحريض وحجب ميزانيات عن كل نشاط ثقافي لا يروق لأجندتها السياسية. ويجب القول إن مجرد هذه المقارنة تضع الوزير الحالي – الذي يُحسب على ليبراليي تل أبيب - في نفس الحضيض مع سابقته، فما معنى التفاخر بأنه لم يقمع أفكاراً ولم يكمّ أفواهاً ولم يلاحق مختلفين؟

تجدر الإشارة إلى أن أصواتاً في اليمين أيضاً لم تكن راضية عن توجه منظمة "بتسيلمو"، لأسباب نفعيّة، من منطلق أن هذا يخدم بالضبط أهداف مناهضي الاحتلال. واتهمتها بأنها تقوم عملياً بتقديم خدمة إعلامية وإعلانية لهذه المسرحية ولمنظمة "لنكسر الصمت"، مثلما كتب دافيد بيرتس في مقال نشرته الصحيفة اليمينية "يسرائيل هيوم". وقال: "من يفرض رقابة على عمل فني بهذا الحماس، يقوم عملياً بتحويله إلى فائق الشهرة. والدليل هو أننا نتحدث عن مسرحية لم تسمع الأغلبية عنها ولم يكن ليسمع عنها لو لم يُمنع عرضها".

أخيراً، في مقال للمحامي الناشط ميخائيل سفراد، عرّف نفسه فيه كـ "محامٍ يمثّل فلسطينيين تحت الاحتلال وإسرائيليين رافضين للاحتلال"، كتب: "هل تشمّون روائح القرف التي تهبّ على إسرائيل في الأيام الأخيرة؟ هذا ليس قرف الصيف المعتاد، ليس جبلا من القمامة لم يجر إخلاؤه من زاوية الشارع. إنه قرف أكثر عمقاً. قرف الخراتيت. قطيع خراتيت (إضافي) يتدافع في أرجاء إسرائيل مؤخراً. يدوس مسطحات التضامن ويقتلع شجيرات الجنائن. إنهم خراتيت الأكاديمية والثقافة". وهو يتطرّق إلى عدد من الأحداث: اعتراف لجنة رؤساء الجامعات بمؤسسة تعليم في مستوطنة أريئيل على أنها جامعة؛ استيعاب منتدى السينمائيين الوثائقيين لمنظمة استيطانية اسمها "صندوق سينما السامرة"، تشكل جزءا من منظومة الأبارتهايد؛ وأخيراً، قرار مسرح فرينج منع عرض مسرحية "غريزة أساسية". وهو يصفهم بكلمات لاذعة: "كل واحد من هؤلاء يظنّ أنه ظبي آية في الجمال، يشعّ حلاوة رقيقة ويدرّ على العالم إلهاماً، لكن أعمالهم شاهدٌ عليهم، خراتيت أدمنت المياه العادمة الآسنة"!

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات