أعلن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي أن الاقتصاد الإسرائيلي سجل في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري انكماشا بنسبة 3%، بعد أن قفز النمو في الربع الثالث لوحده بنسبة 3.8%، ولكن هذه النسبة "الفلكية"، إن صح التعبير، جاءت بعد انكماش الاقتصاد بنسبة شبيهة في الربع الثاني من العام الجاري. وهذا في حين أن البطالة ما تزال تسجل نسبة عالية، 22.6%، بسبب الإغلاق، وحوالي 60% من المعطّلين عن العمل هم في إجازات ليست مدفوعة الأجر بسبب الإغلاق.
ويقول خبراء اقتصاد إنه من السابق لأوانه معرفة وضعية الاقتصاد الإسرائيلي، وإن معطيات الربع الثالث لا يمكنها أن تبعث على التفاؤل، لأنه لم يشهد إغلاقا في الاقتصاد إلا في الأسبوعين الأخيرين منه، بمعنى في النصف الثاني من شهر أيلول الماضي؛ في حين أن الربع الأخير، الذي نحن فيه، شهد في الشهر الأول منه إغلاقا واسعا، وبدأت في شهر تشرين الثاني عملية تخفيف تدريجية، ولكنه ما زال قائما، وسينعكس على المعطيات العامة للاقتصاد الإسرائيلي في نهاية العام الجاري.
وكانت التوقعات الأخيرة لبنك إسرائيل المركزي قد أشارت إلى أن الاقتصاد سيشهد هذا العام انكماشا بنسبة 5%، وهذا في أحسن أحواله، وأن الانكماش قد يصل إلى مستوى 6.5%. واستنادا لنسبة الانكماش حتى نهاية الربع الثالث، الذي سبق الإغلاق الحالي، فإن الانكماش قد يكون بين النسبتين في تقديرات بنك إسرائيل.
ويقول التقرير الدوري لمكتب الإحصاء المركزي إن حصة الفرد من الناتج العام، التي بلغت في الربع الأول من العام الجاري 37500 دولار، هبطت مع نهاية الربع الثالث من هذا العام إلى 36 ألف دولار، وهو المستوى الذي كانت عليه في بحر العام 2016. ولكن كما يبدو فإن انخفاض سعر الدولار أمام الشيكل، بنسبة 5% منذ مطلع العام الجاري، وبنسبة 13% منذ منتصف العام 2016، جعل انخفاض معدل الناتج للفرد بقدر أقل. بمعنى أن 36 ألف دولار في منتصف العام 2016 كانت تعادل 138.6 ألف شيكل، بينما 36 ألف دولار بسعر الصرف الحالي، تعادل 120.3 ألف شيكل.
ويقول المحلل الاقتصادي سامي بيرتس، في مقال له في صحيفة "ذي ماركر": "إن الكورونا وباء خطير يضع بصمته على الصحة والاقتصاد والمجتمع، ولكن أيضا في الإحصاء. فالتقلبات الحادة في البيانات تعكس الاضطرابات التي يمر بها الاقتصاد منذ وصول الفيروس إلى البلاد، وما تسبب له: الإغلاق الأول، ثم تحريره، والإغلاق الثاني الذي لم يتم تحريره بالكامل بعد. لذلك، من الأفضل فحص البيانات التي هي للمدى الأبعد بقليل. على سبيل المثال، معدل الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي منذ بداية مطلع العام الجاري 3%، هي نسبة قليلة نسبيا، على ضوء البطالة الهائلة، وانهيار الأعمال وبعض المعايير الاقتصادية الصعبة الأخرى، وسنذكركم أنه في العام العادي ينمو الاقتصاد بنحو 3.5%. أي أن الضرر ليس فقط بالانكماش الاقتصادي بنسبة 3%، بل أيضا نسبة النمو التي فقدناها هذا العام 3.5%"، ما يعني أن الاقتصاد خسر نموا بنسبة 6.5% حتى الآن.
ويقول المحلل الاقتصادي أدريان بايلوت، في مقال له في صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية، إنه من الواضح أن البيانات الواردة من المكتب المركزي للإحصاء، والتي بشرت بنمو مرتفع بشكل خاص في الربع الثالث من هذا العام، ستصبح قريبا الدعامة الأساسية للحملة الانتخابية اليومية لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو؛ "فهو استحوذ منذ فترة طويلة على كل إنجازات الاقتصاد الإسرائيلي، وغض الطرف عن كل المشاكل والأمراض التي أهملها نتنياهو في كل السنوات الأخيرة التي يتولى فيها رئاسة الحكومة".
ويرى بايلوت أن معطيات الأشهر الثلاثة، تموز وآب وأيلول، من الواضح أنها ستكون نقيضة كليا لأشهر الإغلاق الأول، نيسان وأيار وحزيران، الذي كان فيها الانكماش هو الأسوأ في تاريخ الاقتصاد الإسرائيلي، ففي الربع الثالث اندفع المواطنون إلى الحوانيت والمطاعم، وتضاعف الاستهلاك، مقارنة مع الربع الثاني من هذا العام. وعلى الرغم من هذا، فإن نتنياهو اختار التباهي بالمعطيات الأخيرة.
وكتب بايلوت: "كان نتنياهو حريصا على التباهي بالنجاح الذي كان، على حد قوله، في الإغلاق الثاني، وكرر مرارا ذكر الشخصيات التي دعاها للتشاور معه بشأن إدارة الدولة خلال أزمة كورونا. من المشكوك فيه ما إذا كانت قد أطلعت تلك الشخصيات على بيانات البطالة التي تم نشرها في هذه الأيام. فبعد الإغلاق الأول، تراجعت البطالة على نطاق واسع إلى 11% في آب، لكن الإغلاق الثاني جعلها تقفز مرّة أخرى إلى أكثر من 20%".
فكيف تتوافق بيانات النمو مع معدلات البطالة؟ يجيب بايلوت: "تعكس بيانات مكتب الاحصاء المركزي أن كل شيء انخفض، باستثناء الاستهلاك العام والصادرات. فقد بقي الاستهلاك العام مستقرا، لأن الإنفاق الحكومي فقد السيطرة بالكامل؛ إذ يصر نتنياهو على عدم المصادقة على ميزانية الدولة للعام الجاري، حتى يتمكن من الاستمرار في اقتصاد الانتخابات".
وكان مكتب الاحصاء المركزي قد أعلن بموازاة بيانه حول النمو، أن البطالة حتى نهاية تشرين الأول الماضي وصلت إلى 22.6%، وهي ضعف النسبة التي هبطت في شهر آب الماضي. وجاء هذا الارتفاع الحاد بسبب فرض الإغلاق الثاني من منتصف أيلول الماضي.
وتبين أن عدد المسجلين في دائرة التشغيل حتى نهاية تشرين الأول الماضي كان ما يزيد بقليل عن 940 ألف شخص، من بينهم 598 ألف شخص هم في حالة إجازة من دون راتب، أي ما نسبته 14.4% من إجمالي القوة العامة، فيما الذين هم في حالة بطالة كاملة، بلغ عددهم 342 ألف شخص، ويشكلون 8.2% من القوة العاملة، ما يعني أن نسبة البطالة في نهاية تشرين الأول بلغت 22.6%.
ويظهر من الإحصائيات، أن ما يلامس 21% من المعطّلين عن العمل هم دون سن 24 عاما، فيما أكثر من 29% هم مما بين 25 إلى 34 عاما، ما يعني أن 52.6% من المعطّلين عن العمل هم دون سن 34 عاما. والسبب المركزي لهذه البطالة الحادة هو إغلاق مرافق عمل تستوعب الأجيال الشابة أصلا، مثل قطاع المطاعم والفنادق، والمحلات التجارية، التي ما زال الإغلاق ساريا عليها.
وتظهر النساء بوصفها الشريحة الأكثر ظلما، إذ أنهن يشكلن 62.4% من إجمالي المعطّلين عن العمل، مقابل 37.6% من الرجال.
وتنعكس نسبة البطالة هذه على حجم الاستهلاك الفردي والعام، الذي رغم القفزة التي سجلها في الربع الثالث من العام الجاري، فإنه ما يزال أقل من معدلات السنوات الماضية، وهذا يعود إلى عدم ثقة الجمهور بالتطورات الاقتصادية، والقلق من المستقبل غير الواضح، إضافة إلى تراجع القوة الشرائية، مع تراجع مداخيل العائلات مع ارتفاع نسب البطالة.
وهذا انعكس على وتيرة التضخم المالي، الذي سجل في الأشهر العشرة الأولى تراجعا بنسبة 0.4%، وفي الأشهر الـ 12 الأخيرة تراجع بنسبة 0.8%. وكان من المفترض أن تكون نسبة التراجع أكبر، إلا أن التضخم المالي في شهر تشرين الأول، المعلن عنه في الأسبوع الماضي، سجل ارتفاعا مفاجئا بنسبة 0.3%، وهذا بسبب ارتفاع أسعار موسمية.
وكان من المتوقع أن يسجل التضخم في الشهر الماضي تراجعا ولو طفيفا، على ضوء حالة الإغلاق في قسم جدي من السوق، ووقف الأعمال كليا في قطاعات عديدة مثل قطاع المطاعم والفندقة والسياحة وغيرها.
وكانت تقديرات بنك إسرائيل تشير إلى أن التضخم سيتراجع هذا العام بنسبة 1.2%، ولكن على ضوء تراجع التضخم في الأشهر العشرة الأولى من هذا العام بنسبة 0.4%، فإن التضخم قد يواصل تراجعه، ولكن إجمالي التضخم في العام الجاري سيتراجع بأقل من 1%.
وقد تأثر التضخم في الشهر الماضي من ارتفاع أسعار الملبوسات بنسبة 4.1%، والأحذية بنسبة 2.2%، والخضراوات الطازجة بنسبة 3.9%، والفواكه الطازجة بنسبة 2.2%. وفي المقابل تراجعت أسعار وقود وزيوت السيارات بنسبة 0.8%، وخدمات المياه والمجاري البيتية بنسبة 5.8%، كما انخفضت أسعار الدجاج بنسبة 1.1%.
تشكيك بتقديرات شركات التصنيف
في خضم كل التقارير الاقتصادية، التي تعكس عمق الأزمة، فقد قررت شركتا تصنيف الاعتمادات الدولية، "ساندرس" و"أس أند بي"، الإبقاء على تصنيف إسرائيل المتقدم، AA، وهو ما خلق تساؤلات في الصحافة الاقتصادية، حول ما إذا اطلعت الشركتان كفاية على التقارير الاقتصادية، وعلى تصريحات مسؤولين كبار في وزارة المالية استقالوا من مناصبهم في الأشهر القليلة الماضية، أم أن الأمر يعود إلى حالة الأزمة الاقتصادية العالمية، الناجمة عن أزمة الكورونا.
وعمليا أبقت الشركتان العالميتان على ذات التدريج الذي منحته في شهر أيار الماضي، وهو ما كان قبل الأزمة. وقالت شركة "أس أند بي" في تقديراتها، إن الاقتصاد الإسرائيلي سيشهد هذا العام انكماشا بنسبة 5%، إلا أنه سيحقق نموا في العام المقبل 2021 بنسبة 4.5%، وهي نسبة أعلى من تقديرات البنك المركزي الإسرائيلي، التي باتت تتحدث عن احتمال انكماش في العام المقبل بنسبة أقل، أو نمو بنسبة طفيفة. فيما قال قسم الأبحاث في وزارة المالية، في تقرير سابق، إن الاقتصاد الإسرائيلي سيعود إلى مسار النمو الحقيقي ليس قبل العام 2024.
وبحسب تقديرات "أس أند بي" فإن الدين الإجمالي العام سيرتفع حجمه من 60% من إجمالي الناتج العام في نهاية 2019، إلى نسبة 74.5% في نهاية 2020، وإن الدين العام لن ينخفض في السنوات الثلاث المقبلة، وقد يصل إلى حتى 79% من حجم الناتج العام، وهذا ما كان عليه الدين في العقد الأول من سنوات الألفين.
ولكن "أس أند بي" قالت إن الدين العام الإسرائيلي ليس مقلقا للاقتصاد، كون 85% منه هو بالعملة المحلية، بالشيكل، ومن مصادر داخلية في إسرائيل، مثل البنوك وشركات استثمار، بمعنى أن الاقتصاد الإسرائيلي لن يكون متعلقا بالعملة الأجنبية وبقروض أجنبية عالية.
ويشكك المحلل الاقتصادي سامي بيرتس، في مقال آخر في صحيفة "ذي ماركر"، بتقديرات شركات التصنيف للاقتصاد الإسرائيلي، وكتب: "حينما أعلن رئيس قسم الميزانيات في وزارة المالية، شاؤول مريدور، عن استقالته في 30 آب الماضي ونشر رسالة شديدة اللهجة ضد سلوك وزير المالية يسرائيل كاتس، ثار الانطباع بأن هذا الحدث يمكن أن يؤدي إلى خفض التصنيف الائتماني لإسرائيل، ليس بسبب استقالة مريدور، بل بسبب مضمون الرسالة الشديد، التي ادعى فيها بأن كاتس يغير معايير الميزانية من أجل خلق مصادر خيالية لغايات توزيع ميزانيات أخرى".
وتابع: "من المشكوك فيه أن تكون شركات التصنيف قد قرأت رسالة مريدور أو تعمقت في ادعاءاته. وقد مر شهران ونصف الشهر على نشر الرسالة. وفي هذه الفترة، استقالت أيضا المديرة العامة لوزارة المالية كيرن تيرنر من منصبها. وكذا أيضا المحاسب العام روني حزقياهو، الذي قدم استقالته ووجه انتقادا للوزير". و"برغم كل ما أعلن، فقد أبقت شركتان التصنيف الائتماني لإسرائيل على حاله. والتقى ممثلو الشركتين مع الموظفين المهنيين الكبار وتوصلوا إلى استنتاج بأنه لا توجد حاجة إلى خفض التصنيف، وتوقعاتهما للمستقبل، رغم أنه لا توجد لإسرائيل ميزانية دولة وأن هناك سلسلة طويلة من الوظائف المهنية الكبيرة شاغرة. نحن قلقون في الواقع من كل ذلك، ولكن في شركات التصنيف يتأثرون بدرجة أقل".
ويقول بيرتس إن "هذا يثير التساؤل حول من هو المخطئ: شركات التصنيف التي ربما لم تفهم كيف تبدو السياسة الإسرائيلية في الأشهر الأخيرة، وإلى أين تأخذ الاقتصاد، أو ربما نحن، المحللون والاقتصاديون المحليون، تؤثر علينا الفوضى المحلية أكثر من غيرنا؟ في نهاية المطاف، التصنيف الائتماني يعكس بالأساس أمرا واحدا: هل توجد للدولة قدرة على الوفاء بالتزاماتها. وبشكل عام، تدهور كبير بالبيانات الكلية مثل زيادة حادة في الدين العام، وضعف الانضباط في الميزانية والركود المطول، هما سبب رئيس لخفض التصنيف الائتماني".
وختم بيرتس "لكن أزمة الكورونا هي حدث عالمي وليست حدثا خاصا بإسرائيل. لذلك فإن شركات التصنيف تبنت مقاربة تشبه مقاربة البنوك والبنوك المركزية".