وجهة النظر المركزية، بشأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة للكنيست الـ 21، هي أن الحملة الانتخابية لن تدور حول الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وإنما حول الأمن؛ يمين- يسار سياسي، وهوية رئيس الحكومة: هل سيكون نتنياهو أم لا؟. بناء على هذا، فإن مستشاري الأحزاب أرسلوا زبائنهم للتحدث أمام الميكروفونات حول هذه القضايا أساسا، وفقط قلة من المرشحين من قطبي الحلبة السياسية اختارت إبراز الأوضاع الاقتصادية.
بعد صدور نتائج الانتخابات، يبدو أن وجهة النظر تلك كانت لها مصداقية. فالأحزاب التي انشغلت بالاقتصاد، ميرتس والعمل من اليسار، وقوائم "زهوت" و"كولانو" و"غيشر" من اليمين، حصلت على نتائج مخيبة لآمالها، ومنها من لم يعبر نسبة الحسم. في المقابل، فقد ذهبت غالبية الأصوات للحزبين المركزيين، الليكود وقائمة "أزرق أبيض"، اللذين فرضا ضبابية على رسائلهما الاقتصادية. كذلك فإن القوائم التي تمثل قطاعات، مثل قائمتي الحريديم وقائمتي العرب، حصلتا على الأصوات بعيدا عن هذين المحورين. لكن هذا ليس صحيحا، أو على الأقل ليس دقيقا.
وكي نفهم لماذا حصل هذا، علينا العودة إلى استطلاعات الرأي التي جرت قبل أشهر من الانتخابات. فاستطلاع "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، الذي جرى قبل شهرين من الانتخابات، حدد أن غالبية الجمهور ستحسم موقفها في الانتخابات بناء على الأوضاع الاقتصادية، وقد أيد هذا الاتجاه 45% من المستطلعين، مقابل 28% قالوا إن ما سيحسم لديهم هو السياسة الخارجية والأمن، و11% قضايا الدين والدولة، و9% المسألة الديمقراطية.
لكن حينما صدرت نتائج الاستطلاع، كان في تقديرات المستشارين أنه في نهاية المطاف الجمهور لن يفعل ما يقول. والسبب هو أنه لا فرق كثيرا في السياسة الاقتصادية بين الحزبين المركزيين، ولهذا فلا سبب يجعل الملف الاقتصادي موضوعا مركزيا في الانتخابات، ولدى حسم الموقف بأي بطاقة سيصوتون.
وبعد فحص تصريحات الأحزاب والمرشحين عشية الانتخابات، تبين أن هذا التقدير صحيح، فتصريحات ومواقف الليكود و"أزرق أبيض" في الشؤون الاقتصادية كانت شبيهة، وكذلك مواقف الأحزاب الأصغر كانت قريبة هي أيضا لتلك المواقف. وطالما أن الاقتصاد أمر هام للجمهور، في حين لا فرق بين الأحزاب في القضايا الاقتصادية، فإن الجمهور اضطر للاختيار بناء على سلم أولويات هام بالنسبة له، مثل الأمن وهوية رئيس الحكومة.
لكن يوجد سبب آخر، ولربما هام أكثر: لماذا كانت الانتخابات تدور بالتأكيد حول الاقتصاد؟ غالبية الجمهور اعتقدت قبل الانتخابات أن الوضع الاقتصادي جيد، ولذا فقد اختارت الأحزاب التي حكمت حتى الآن، وهي أحزاب الائتلاف السابق، سوية مع أحزاب أخرى، قائمة "أزرق أبيض"، التي عرضت ذات المسار الاقتصادي القائم بالضبط، مع إضافة: تغيير رئيس الحكومة.
وهذا أمر ظهر في استطلاعات "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" وغيرها من الاستطلاعات. ففي مقياس الديمقراطية الإسرائيلية عن العام 2018، الذي أجرته البروفسور تمار هيرمان، تبين أن غالبية الإسرائيليين (53%)، اعتقدوا أن الوضع الاقتصادي في إسرائيل "جيد" و"جيد جدا"، و30% اعتقدوا أن الوضع الاقتصادي وسطي، وفقط 16% قالوا إن الوضع الاقتصادي "سيء" أو "سيء جدا".
وهناك نهج طويل الأمد، منذ العام 2003، يظهر فيه أن غالبية الجمهور تعتقد أن الوضع الاقتصادي "جيد" أو "جيد جدا"، وبتصاعد مستمر. وفي العامين الأخيرين حصلت قفزة في عدد المواطنين المتفائلين.
استطلاع آخر لمكتب الإحصاء المركزي، جرى في شهر شباط الماضي، بيّن أن مقياس ثقة المستهلكين في ارتفاع مستمر. وهو المقياس الذي يدل على توقعات الجمهور للتغيرات الاقتصادية. وقد كانت نتائج الأجوبة حول التغيرات المتوقعة بشأن أوضاع العائلة والوضع بشكل عام ترتفع باستمرار.
لكن كيف من الممكن أن يكون هذا؟ كيف من الممكن أنه من جهة انشغلت وسائل الإعلام في نصف السنة الأخيرة، ليلا نهار، بالعجز في الموازنة العامة، وبأسعار البيوت، وبأوضاع المستشفيات التي تنهار اقتصاديا، وباختناقات المرور التي لا تنتهي، بينما الجمهور يعتقد أن الوضع الاقتصادي ممتاز؟ من الممكن أن الإجابة على هذا نجدها في استطلاع إضافي، وهذه المرة يعرض فيه الجمهور أجوبة مباشرة على الوضع الاقتصادي، وكانت الأجوبة بحسب التوجهات السياسية. ففي استطلاع أجراه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" في شهر حزيران من العام الماضي، سُئل الجمهور عن توقعاته للأوضاع الاقتصادية بعد عشر سنوات، وكانت النتائج مفاجئة بدرجة لا أقل. 56% من مصوتي حزب الليكود اعتقدوا أن الوضع الاقتصادي سيكون أفضل بكثير، بينما هذه النظرة كانت بنسبة 8% لدى مصوتي حركة ميرتس. وبين هذين القطبين تأتي نتائج باقي الأحزاب: 50% من مصوتي التحالف السابق "البيت اليهودي"، و25% بين مصوتي التحالف السابق "المعسكر الصهيوني".
فهل هذا غريب؟ الاقتصاد هو ذاته لليمين واليساريين، لكن قلة فقط تبلور توقعاتها الاقتصادية استنادا للواقع الكمي والمهني، وفي المقابل فإن كثيرين يبنون توقعاتهم استنادا لمشاعرهم وأحاسيسهم.
بكلمات أخرى، فإن اليمينيين مصوتي الليكود مسرورون من أن حزبهم هو الذي يقود السلطة، ولهذا فإنهم يتبنون المسار الاقتصادي الجيد، وحتى أنه سيكون أفضل بكثير. وفي المقابل، فإن مصوتي اليسار، وعلى الرغم من أن كثيرين منهم يتقاضون رواتب جيدة، ويتمتعون بمستوى معيشي أفضل من مصوتي اليمين، إلا أنهم خائبو الأمل لكون ممثليهم ليسوا في السلطة، ولهذا فهم يتبنون فكرة أن الوضع الاقتصادي سيء، وسيكون أسوأ بكثير. نعم، حتى الشعور بالسعادة والرضى من الوضع الاقتصادي هو شأن سياسي.
وهناك أمر آخر، لن يرضى عنه كثيرون من جمهور الوسط واليسار، فالمعطيات تثبت أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو صدق حينما قرر أن الوضع الاقتصادي ممتاز، لأنه هكذا يشعر اليمينيون، الذين هم غالبية في الدولة. وهو أيضا يصدق حينما يصف اليساريين بأنهم "متكدرو الوجوه". فالاستطلاعات أثبتت حقا أنهم كذلك، دون علاقة بالوضع الاقتصادي بشكل موضوعي. فهم "متكدرو الوجوه" لسبب واحد: لأن نتنياهو، وليسوا هم، موجود في السلطة.
إن كل هذه الاستطلاعات تثبت أمرين اثنين. الأول، هو أنه بالنسبة لغالبية الجمهور، فإن الاقتصاد هو شأن سياسي، ومشاعر، حتى عندما يتم عرضه بالأرقام والجداول والبيانات. وغالبية الجمهور تعتقد أن الوضع الاقتصادي جيد، إن كان هذا صحيحاً أم لا.
والأمر الثاني: بالتأكيد أن الانتخابات الأخيرة، وعلى الرغم من كل هذا، كانت انتخابات حول الشأن الاقتصادي، وغالبية الجمهور انتخبت نتنياهو وائتلافه اليميني السابق، لأنها اعتقدت أنهما قاما بعمل جيد في السنوات الأربع الأخيرة، وهي تريد أن يستمرا في ذات الطريق.
(عن صحيفة "ذي ماركر"- بتصرف)