سياسة الأراضي والتخطيط في إسرائيل- لا مكان للعرب
بقلم: رجا خوري (*)
توطئة
يحدد التخطيط حيز حياة الإنسان في الحاضر والمستقبل، ويمكن للتخطيط الحضري أن يشكل رافعة لتطور اجتماعي واقتصادي وبيئي، غير أنه يمكن أن يشكل أيضا أداة سياسية لتطبيق سياسة تقوم على السيطرة وفرض القيود والحد من التطور.
وتترتب على سياسة التخطيط التفاضلية (القائمة على التمييز) المتبعة تجاه السكان اليهود والسكان العرب في إسرائيل، انعكاسات سلبية على قدرة الأقلية العربية على التطور والتقدم من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، وعلى الاندماج في النسيج المجتمعي.
إن التمييز في مجالات التخطيط وتخصيص الأراضي، وضائقة السكن التي يعاني منها الجمهور العربي في إسرائيل، هي حقائق قائمة لا جدال فيها، بل وجرى الإقرار بها في تقرير "لجنة أور" (لجنة التحقيق الرسمية في أحداث - صدامات - تشرين الأول/ أكتوبر 2000 التي قتل فيها 13 مواطناً عربياً برصاص الشرطة الإسرائيلية) الذي صدر في العام 2003، وكذلك من قبل المحكمة الإسرائيلية العليا (مثلاً في التماس "كتسير" 1995). وفي هذا السياق، فإن تحليل خريطة السلطات المحلية في إسرائيل يشير بوضوح إلى اتجاهات وغايات التخطيط المطبقة تجاه التجمعات السكانية العربية، وإلى ما ينتج عنها من انعدام في المساواة والعدالة في توزيع الأراضي.
انعدام المساواة في
تخصيص الأراضي
تشكل مساحة مناطق نفوذ السلطات المحلية العربية حوالي 4ر3% من مساحة الدولة على الرغم من أن نسبة السكان العرب في إسرائيل تصل حالياً إلى قرابة 20% من مجموع السكان. وعلى الرغم من أن عدد السكان العرب تضاعف منذ قيام دولة إسرائيل 7 مرات، إلا أن مساحة مناطق البناء للسكن بقيت من دون أي تغيير تقريباً، ومن هنا تعتبر الكثافة السكانية في البلدات والقرى العربية داخل إسرائيل من الأكثر ارتفاعاً على مستوى العالم. بالإضافة إلى ذلك، لم يجر منذ العام 1948 إقامة أية مدينة أو بلدة عربية جديدة، بينما أقيمت في نفس الفترة أكثر من (700) مدينة وبلدة يهودية جديدة.
وفي الفترة الممتدة من العام 2001 وحتى العام 2011 لم يخصص للسكان العرب سوى ما نسبته 5ر8% من مجموع نسبة الأراضي التي سوقتها "دائرة أراضي إسرائيل" للأغراض السكنية.
مصادرة الأراضي
تخضع حاليا قرابة 6ر96% من أراضي الدولة لملكية يهودية مقابل أقل من 4% عشية قيام دولة إسرائيل، هذا فيما يملك المواطنون العرب حاليا (بملكية خاصة) 3ر4% فقط (حوالي 700 ألف دونم) من المساحة الكلية للدولة، مقابل 17% كانت بملكية السكان العرب عشية قيام إسرائيل.
وقد صادرت السلطات الإسرائيلية، منذ قيام الدولة وحتى "يوم الأرض" في العام 1976، مساحات واسعة من أراضي المواطنين العرب داخل "الخط الأخضر" (في الجليل والمثلث والنقب) وقامت بنقل ملكيتها لمؤسسات يهودية مثل "الكيرن كييمت" (الصندوق القومي) و"دائرة أراضي إسرائيل"، والتي تعمل قولا وعملا في خدمة أغراض الاستيطان اليهودية، حيث أقيمت على هذه الأراضي العربية المصادرة مئات المستوطنات اليهودية، ومن ضمنها مدن جديدة مثل نتسيرت عيليت (الناصرة العليا) وكرميئيل في الجليل. وفي أعقاب أحداث "يوم الأرض"، طرأ تغيير على طابع مصادرة السلطات الإسرائيلية للأراضي العربية، إذ أصبحت عمليات المصادرة تتم بشكل رئيس بواسطة أدوات التخطيط والتنظيم، مثل تقليص مناطق نفوذ السلطات المحلية العربية لتغدو أقل بكثير من مساحة الأراضي التي تقع بملكية سكان هذه السلطات، وتنفيذ خطط تقلص استخدام الأراضي، من قبيل الإعلان عن إقامة مناطق حرجية ومناطق عسكرية على أراض بملكية السكان العرب، بالإضافة إلى خطط ومشاريع قطرية لإقامة بنى تحتية وحدائق وطنية ومحميات طبيعية وطرق سريعة، على مقربة من أراضي البلدات والقرى العربية والتي تجد نفسها محاصرة بشتى أنواع ومسميات هذه المناطق، مما يحد ويقيد إمكانات توسيعها وتطورها بما يتلاءم مع الزيادة السكانية والاحتياجات المتغيرة في هذه التجمعات السكانية العربية. ولذلك أيضا لم يعد يتوفر في الكثير من البلدات العربية احتياطي أراض لإقامة مناطق صناعية وتجارية ومبان للأغراض والخدمات العامة.
وفي إسرائيل 2013، ما زال قسم كبير من السكان العرب يعيش في قرى وبلدات تنعدم فيها البنى التحتية الحيوية، كما أن هناك عشرات الآلاف من بدو النقب يقيمون في أكثر من 35 قرية ما زالت سلطات الدولة ترفض الاعتراف بها. وتسعى الحكومة الإسرائيلية في الفترة الأخيرة إلى إقرار وتمرير خطة (خطة "برافر- بيغن") لما وصف بـ "تنظيم استيطان البدو في النقب"، غير أن هذه الخطة، التي تواجه معارضة شديدة من جانب الهيئات التمثيلية للمواطنين العرب، لا تعترف بالحقوق التاريخية للمواطنين البدو في أراضيهم، وتؤدي عمليا إلى إزالة هذه القرى غير المعترف بها واقتلاع وتهجير حوالي 40 ألف إنسان من بيوتهم وأراضيهم بصورة قسرية.
غياب التمثيل في
مؤسسات التخطيط
يتجلى أحد أوجه سياسة التمييز والغبن التي يعاني منها السكان العرب في إسرائيل على مر العقود في مجال التخطيط، في غياب التمثيل الملائم لهم في سائر مؤسسات ودوائر التخطيط الرسمية. وعلى سبيل المثال فإن "المجلس القطري للتخطيط والبناء" (وهو أعلى هيئة مختصة في هذا المجال في إسرائيل) لا يضم في عضويته سوى ممثلين عربيين من أصل 32 عضوا، وفي اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء في لواء الشمال يوجد ممثلان عربيان من أصل 17 (على الرغم من أن نسبة السكان العرب تشكل أكثر من 50% من مجموع السكان في هذا اللواء)، وفي اللجنة اللوائية للتخطيط في منطقة المركز يوجد ممثل عربي واحد، هذا فيما لا يوجد نهائيا أي تمثيل للعرب في لجان التخطيط اللوائية في لوائي القدس وتل أبيب.
وتتمتع 6% فقط (5 من أصل 77) من السلطات المحلية العربية بوجود لجان تخطيط محلية مستقلة، وذلك مقابل 53 % (79 من أصل 148) من السلطات المحلية اليهودية التي تتمتع بوجود مثل هذه اللجان.
كذلك فإن قرارات التخطيط المتعلقة بالبلدات والقرى والأحياء العربية، تتخذ في الكثير من الأحيان من دون إتاحة إمكانية للسكان بممارسة حقهم في الاعتراض على عمليات التخطيط أو المشاركة فيها مما يؤدي، نتيجة لهذه القرارات، إلى إلحاق الضرر بنسيج حياة السكان العرب.
انعدام الخرائط الهيكلية
في الكثير من القرى والبلدات العربية لا توجد خرائط هيكلية، وإذا ما وجدت مثل هذه الخرائط فإنها تكون غالبا غير ملائمة للاحتياجات المتغيرة للسكان، وفي بعض الأحيان لا يمكن تطبيقها بسبب القيود والإجراءات البيروقراطية. وعلى سبيل المثال فقد أعلنت وزارة الداخلية في العامين 2000 و2005 عن خطة ترمي إلى دفع وتسريع مخططات وخرائط هيكلية في الوسط العربي، وقد تمت المصادقة بالفعل، منذ العام 2000، على 36 خريطة هيكلية، غير أن هذه الخرائط لا تخدم سوى سكان 41 بلدة وقرية عربية من أصل 119، فضلا عن أن 14 خريطة هيكلية من الـ36، ما زالت على الورق فقط، ولم تشق طريقها إلى التنفيذ جراء سلسلة من العوائق البيروقراطية.
إلى ذلك، ما زال من غير الممكن في 22 بلدة عربية تقديم خطط لتوسيع مناطق البناء وتغيير تخصيص أراض، وذلك بدعوى أن هذه الخطط لا تستجيب للشروط والمتطلبات الأساسية، ومنها مثلا وجود شبكة صرف صحي مركزية، علما أن المشكلة تكمن هنا أساسا في عدم اهتمام وزارة الداخلية بتوفير وإقامة البنى التحتية الملائمة في البلدات العربية، مثل شبكات الصرف المركزية.
ويمكن الإشارة في هذا السياق أيضا إلى العديد من الجوانب والمشاكل الأخرى التي تبرز التمييز في مجال التخطيط في إسرائيل، مثل النقص في تخصيص الأراضي للحدائق العامة ولمرافق خدمات الجمهور أو خدمات الطوارئ في القرى والبلدات العربية، فضلا عن إهمال البنى التحتية. ويعبر كل ذلك عن سياسة حكومية تتمثل في انعدام المساواة في توزيع الموارد، وانتهاج سياسة تخطيط منفصلة، تقوم على الغبن والتمييز تجاه التجمعات السكانية العربية في إسرائيل.
سياسة التخطيط وانعكاساتها
على السكان العرب
تركز سياسة التخطيط الرسمية المتعلقة بالتجمعات السكانية العربية على تشجيع البناء المشبع (البناء العمودي- طوابق) سواء من خلال اشتراط وربط عطاءات بمثل هذا النوع من البناء، أو عن طريق تقديم الحوافز المشجعة له. غير أن هذه السياسة غير قابلة للتنفيذ نظرا لأنها لا تنسجم مع النسيج القروي- الريفي لمعظم التجمعات السكانية العربية، والتي تفتقر إلى البنى التحتية الملائمة للبناء المشبع، مثل شبكات الصرف الصحي والمناطق الصناعية وأماكن التشغيل والمناطق الخضراء، وغيرها. إن هذه السياسة التي تطالب المواطنين القاطنين في بلدات وقرى ريفية ذات مساحة محدودة، بالسكن في مباني طوابق بصورة مكتظة، من دون توفر البنى التحتية والخدمات العامة الحيوية، ومن دون توفر مناطق صناعية وأماكن تشغيل، سوف تترتب عليها بالضرورة انعكاسات مدمرة، ذلك لأن هذه القرى والبلدات ستتحول، في ظل غياب الاستثمار في البنى التحتية المادية والاقتصادية والاجتماعية التي تهيئها للانتقال إلى طابع حياة حضري، إلى بؤر للبطالة والفقر والاكتظاظ الخانق والعنف والنشاط غير القانوني. وفي الحقيقة فإن معطيات "مكتب الإحصاء المركزي" الإسرائيلي تظهر بأن القرى والبلدات العربية تقبع في أسفل سلم المستوى الاقتصادي والاجتماعي في إسرائيل. عموما، يمكن القول إن سياسة التخطيط الرسمية التي تشجع البناء المشبع في البلدات العربية، من دون تخصيص الموارد اللازمة لإيجاد بنى تحتية ملائمة، تشكل دليلا واضحا على عدم استعداد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للعمل على توسيع وتطوير هذه البلدات، وعلى تقديم أو إيجاد حلول للمشاكل والضوائق السكنية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها.
من جهة أخرى يعاني السكان العرب في إسرائيل من مشكلة انعدام إمكانية الانتقال الجغرافي، إذ يجد المواطنون العرب أنفسهم بصورة عامة، مجبرين على مواصلة السكن في مسقط رأسهم، نظرا لأن الإمكانات والبدائل الأخرى موصدة في وجههم. وخلافا للسكان اليهود، فإن الخيارات المتاحة أمام السكان العرب لاختيار أماكن سكنهم، تعتبر مقلصة ومحدودة للغاية. وفيما عدا أزمة العقارات والسكن العامة القائمة في إسرائيل، والتي تعبر عن نفسها في الأسعار والتكاليف المرتفعة جدا لشراء الشقق السكنية في المدن الكبيرة، نجد أن الجمهور العربي يعاني من قيود إضافية نابعة من سياسة إقصاء رسمية ممأسسة، غايتها منع المواطنين العرب من السكن في المدن والبلدات اليهودية.. ويشكل قانون "لجان القبول" مثالا على هذا النوع من التمييز الممأسس، والذي يضفي، بذريعة المحافظة على النسيج الاجتماعي، شرعية قانونية على رفض طلبات المواطنين العرب الذين يرغبون في السكن في بلدات يهودية في الجليل والنقب. بالإضافة إلى ذلك فإن المظاهر والدعوات العنصرية إلى عدم بيع (أو تأجير) شقق وبيوت للعرب، تقلص بدورها أيضا إمكانات السكن المتاحة أمامهم.
السياسة القائمة وآفاق
التطور والمستقبل
تؤدي سياسة التخطيط الحكومية، والتي لا تتلاءم مع احتياجات السكان العرب، إلى خلق قيود ومصاعب أمام كل مواطن خامس في إسرائيل، في تجسيد حقه الأساس في السكن. ويمكن القول إن هذه السياسة، التي لا تتضمن خططا طويلة الأمد لتحقيق النمو والازدهار الاقتصادي والاجتماعي للسكان العرب، تجسد رؤية مقنعة فحواها أنه "لا مكان" للمواطنين العرب في دولة إسرائيل.
كذلك فإن عدم وجود سياسة تخطيط ملائمة يؤثر أيضا بشكل سلبي على صورة الجمهور العربي في إسرائيل، إذ ينظر له على نحو مغلوط كما لو أنه جمهور يعمل ويتصرف بصورة مخالفة للقانون ويستولي على أراضي الدولة ويبني من دون الحصول على تراخيص البناء اللازمة من السلطات المعنية. ومن الواضح أن الحكومات الإسرائيلية، وعوضا عن الاستثمار في إيجاد حلول للمشاكل القائمة في الوسط العربي، تنتهج سياسات تؤدي إلى تكريس الوضع، بل وإلى تفاقمه أكثر فأكثر، كما أنها تساهم بذلك في تعميق الشرخ والفجوات بين السكان اليهود والسكان العرب في إسرائيل. ولعل السياسة التي أتبعت في عهد حكومة إسحق رابين الثانية (1992- 1995)، تشكل دليلا على أنه يمكن تغيير وضع السكان العرب عن طريق تخصيص الموارد والتخطيط الملائمين. فقد خصصت واستثمرت الحكومة إبان تلك الفترة موارد مالية كبيرة في تطوير البنى التحتية والمرافق الخدماتية والتشغيلية وتخصيص الأراضي لإقامة مناطق صناعية وتجارية في العديد من التجمعات السكانية العربية.
وفي العقد الأخير طرأ تحسن معين في سياسة الدولة تجاه السكان العرب في مجال التخطيط، على الأقل على المستوى النظري، إذ أقرت الدولة بحقيقة وجود ضائقة ومشاكل في المدن والبلدات العربية تستدعي المعالجة، وقد تمت المصادقة على دفع خرائط هيكلية وخطط مفصلة في العديد من السلطات المحلية العربية. غير أن البنى التحتية المتردية في البلدات العربية وعدم إشراك الجمهور العربي بصورة حقيقية في التخطيط، ما زالا من الأسباب الرئيسة التي تحول دون إحراز تقدم ملموس في تنفيذ هذه الخطط، وهذا فضلا بالطبع عن استمرار تلكؤ ومماطلة الحكومة في تخصيص الميزانيات اللازمة لإخراج مثل هذه الخطط إلى حيز التنفيذ العملي.
إن أي توجه جاد نحو إحداث تغيير حقيقي في الوضع القائم في الوسط العربي، يقتضي الشروع عمليا في تطوير البنى التحتية من دون وضع شروط أو عوائق بيروقراطية لا مبرر لها، وبعد ذلك فقط يمكن المبادرة إلى إقرار تخطيط هيكلي يشخص احتياجات الجمهور العربي ويحرص على إشراكه في هذه العملية.
إن التخطيط الحضري هو مصطلح أوسع بكثير من القرار المتعلق بتخصيص الأراضي في الدولة. فالتخطيط الحضري يحدد ما إذا كانت إسرائيل ستبدو بعد عشرين أو ثلاثين عاما دولة ديمقراطية متنورة، تنتهج المساواة وتعمل في خدمة ولمصلحة جميع مواطنيها، وهذا يتطلب إعطاء تمثيل ملائم للسكان العرب في جهاز التخطيط، سواء على المستوى التمثيلي أو على مستوى اتخاذ القرار، وإتباع سياسة عادلة أكثر في توزيع أراضي الدولة وتخصيص واستثمار الموارد المالية في إقامة وتطوير البنى التحتية في القرى والبلدات العربية.
في المقابل، فإن استمرار السياسة القائمة تجاه الوسط العربي من شأنه فقط أن يفاقم الوضع والفصل والفجوات بين السكان العرب والسكان اليهود في دولة إسرائيل.
_________________________
(*) مهندس. هذا المقال ظهر في العدد الأخير من دورية "برلمانت" (برلمان) الإلكترونية والتي يصدرها وينشرها "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية". ترجمة سعيد عيّـاش.