في نهاية الأسبوع الأول للحرب، وعندما تبين أن إسرائيل عاجزة عن الحسم العسكري، وأنها دخلت في حرب استنزاف قد تمتد طويلا نشب الخلاف شديدا داخل القيادة العسكرية. وبدا واضحا أن المفهوم الذي سوقت هيئة الأركان الحرب على أساسه للقيادة السياسية فشل في تحقيق أغراضه. وعندما بدأ التهامس حول إخفاقات الجيش على الأرض، أصم الجمهور الإسرائيلي أذنيه عن ذلك، ودعا إلى التصعيد على أمل أن يعود الجيش ويمتلك زمام المبادرة.
ولكن فيما تراكم شعور المرارة لدى الجمهور كان يتراكم في القيادة السياسية إحساس مكتوم وضاغط بالخيبة. وبقي الجيش، كملاذ أخير، للإسرائيلي بعيدا عن الانتقاد. ورغم هول الخيبة في نظر الكثيرين لم يشأ أحد أن يزيد في الضغط على الجيش وعلى قادته. فليس للإسرائيليين، كما يقال، جيش آخر. ولكن... الجيش نفسه، لاعتبارات مختلفة لم يكبت غضبه الداخلي وتفجر أمام الجمهور في أشكال مختلفة: حنق على القيادة السياسية، حنق على مفهوم الحرب ومنطق ذوي البزات الزرقاء، صراع بين الأذرع البرية والجوية. وأخفت كل هذه التعابير حقيقة واحدة وهي أن الفشل كان أكبر من أن يحتمل.
وكانت فضيحة إبعاد قائد الجبهة الشمالية أودي آدم عن مهام القيادة وفضيحة أسهم رئيس الأركان دان حالوتس، التي تفرغ لإدارتها في الساعات التي تلت عملية أسر الجنود، كافية للتركيز على البعد الشخصي. ولكن صرخة رجال الاحتياط حول الخلل الهيكلي واحتجاجاتهم على إدارة الحرب عاد وأظهر أنه لا يمكن إخفاء حقيقة الفشل.
وهنا جاءت استقالة قائد الجبهة الشمالية والاتهامات المتبادلة التي تراشق بها العديد من القادة لتظهر أن "حرب الجنرالات" قد بدأت.
فقرار آدم الاستقالة تحمل في نظر زئيف شيف في "هآرتس" معاني فعلية وانعكاسات فورية. "فالحديث لا يدور حول الخروج في عطلة جزئية، فالجنرال آدم سيُخلي مكانه فورا، ولن يبدأ بالأحاديث الاجتماعية أو أحاديث الصداقة مع وزير الدفاع عمير بيرتس... هذه ستكون حرب جنرالات، وأكثر من نصفها سيوجه ضد الجنرال حالوتس".
وقد أشارت الصحف الإسرائيلية في الأيام الأخيرة إلى النقاشات التي دارت بين حوالي 70 جنرالا احتياطيا اجتمعوا برئيس الأركان ودعاه بعضهم للاستقالة. غير أن قائد الجبهة الشمالية الأسبق الجنرال أفيغدور بن غال كال له اتهامات شديدة وعبر عن الصراع القائم الآن بين الأذرع المختلفة. وحسب ما نشر فإن بن غال قال إن "أحدا من سلاح الطيران لن يستطيع إدارة الجيش. تحمل المسؤولية، استخلص العبر. لا يمكنك الاستمرار في المنصب. لقد ارتكبت خطيئة الغرور حين قلت إن الراعي غير ملزم بأن يكون نعجة. قائد جاء من سلاح الجو لا يمكنه أن يقف على رأس الجيش الإسرائيلي". وأضاف بن غال: "كمن كان نعجة، أتحدث إليك، من أجل أن تقود الناس يجب أن تزحف معهم في الأشواك. أنت رئيس الأركان الأزرق الأول والأخير".
وفي الاجتماع نفسه تلى أحد الجنرالات الأمر العملياتي لقائد فرقة الجليل، العميد غال هيرش، فانفجر الحضور بضحك صاخب. فقد نص أمر هيرش: "تسلل واسع النطاق بختام منخفض، انقضاض مرابطة سريعة على المناطق المسيطرة وخلق اتصال فتاك مع المناطق المبنية في ظل خلق صدمة ورعب". وعلق أحد الجنرالات: "هذا محزن أكثر مما هو مضحك. هذا يبدو كقصيدة وليس كأمر حرب". إنها حرب الجنرالات التي بدأت ولا أحد يعلم كيف ستنتهي.
غير أنه مثلما باتت الحروب الدموية تدار أمام الشاشات صارت حروب الجنرالات أيضا تدار هي الأخرى أمام الشاشات. وإذا كان الأسلوب المتبع في السابق للبرهان على الأدوار في الإخفاقات يستند إلى وثائق أو تسجيلات ما دار في الاجتماعات أو في وسائل الاتصال فإن هذه هي "حرب الجنرالات" الإسرائيلية الأولى التي تدار أمام الكاميرا.
فقبل أيام عرض التلفزيون الإسرائيلي فيلما وثائقيا عن الحرب الأخيرة قام بتصويره أحد الجنود الذين تم استدعاؤهم للخدمة الاحتياطية. وأظهر الفيلم ليس فقط طبيعة النقاشات التي دارت بين الجنود أثناء المعارك وإنما أيضا نوعية النقاشات والأوامر العملياتية بين القادة. واعتبر الكثير من النقاد والساسة في إسرائيل أن الفيلم كان بمثابة وثيقة تاريخية حول إخفاقات الحرب الإسرائيلية على لبنان. ويعرض الفيلم بشكل واضح للنقاشات على جهاز اللاسلكي بين قائد اللواء السابع العقيد أمنون إيشل وقائد فرقة الجليل غال هيرش. ويظهر الفيلم مقدار تدهور الثقة بين القادة الميدانيين والقادة في المكاتب. حيث قال قائد اللواء بالصوت والصورة عن قائده إنه "في حالة غيبوبة. إنه لا يعرف ما يجري على الأرض".
وليس صدفة أن هذا الفيلم دفع رئيس الأركان إلى اتخاذ قرار بمنع ترفيع قائد اللواء السابع، الأمر الذي يشير إلى أن حالوتس لم يكن يعلم كثيرا عن ما يجري بين قادته وكان بانتظار الفيلم ليكشف له الصورة.