أثار الأديب الإسرائيلي أ. ب. يهوشع غضب الكثيرين من اليهود في إسرائيل والعالم بتركيزه الواضح في خطاب ألقاه الأسبوع الفائت أمام "اللجنة اليهودية الأميركية" على الفارق بين اليهودية الإسرائيلية ويهودية الشتات. ويبدو أن يهوشع لامس الوتر الأشد حساسية في العلاقة بين الصهيونية ويهود الشتات حيث أن هذه الحركة اعتبرت نفسها من الأساس حركة تحرير وطني للشعب اليهودي ورأت في استمرار يهود الشتات نوعا من الرفض لها. كما أن بقاء يهود الشتات أكبر عددا من يهود إسرائيل واستمرار هجرة الإسرائيليين إلى الشتات بحثا عن العيش الأفضل يخلق مشكلة دائمة لأسس الفكر الصهيوني.
وقد حاول العديد من قادة إسرائيل تجاهل هذه المسألة لاعتبارات عملية بعد أن شكل الشتات اليهودي وخصوصا في الولايات المتحدة عنصر دعم بالغ الأثر للدولة اليهودية. وقاد هذا التجاهل عددا من قادة العمل اليهودي في أميركا إلى اعتبار الدعم المالي والسياسي والمعنوي لإسرائيل تجسيدا حقيقيا للفكر الصهيوني. بل إن بعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك ببلورة إيمان بأنه لولا دعم الشتات لما بقيت دولة إسرائيل وربما لما قامت من الأساس.
غير أن ذلك دفع أديبا إسرائيليا مشهورا مثل أ. ب. يهوشع إلى "فضح المستور" في الذكرى السنوية المئة لإقامة "اللجنة اليهودية الأميركية". وفي مؤتمرها الاحتفالي الذي عقد في مكتبة الكونغرس الأميركي ومن على منبرها أعلن أن "هويتي إسرائيلية. والدين اليهودي لا يلعب أي دور. فالأرض واللغة هما ما يبنيان هويتي كإسرائيلي". وشدد يهوشع على أن القرن الماضي كان قرن الفشل في تطور الشعب اليهودي. وفي نظره فإن "الهوية تتحدد وفق الأرض التي يعيش بها اليهودي. فاليهودي الإسرائيلي ليس كاليهودي الفرنسي وهو يختلف عن اليهودي الأميركي. فلكل يهودي هوية تتبع الأرض التي يعيش بها. ومن يقيم في دولة إسرائيل وينشغل بشكل يومي بعشرات القرارات المصيرية ذات الصلة باستمرار وجوده كشعب، هو من يهتم بالاستمرارية".
وأثارت هذه الأقوال عددا من الحاضرين من يهود أميركا الذين ردوا فورا على يهوشع. فقد رد المحرر الأدبي لمجلة "نيو ريببلك"، ليئون فيزلتير على يهوشع قائلا: "إنك تأخذ مفهوم اليهودي وتختزله بالإسرائيلي. فمفهوم اليهودي قائم قبل زمن طويل من قيام دولة إسرائيل. هناك دين يهودي، هناك ثقافة يهودية، هناك أدب يهودي، هناك نصوص يهودية تأخذنا إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام. لماذا تصر على اختزالها بالإسرائيلية؟".
كما أن المذيع الأميركي المشهور تيد كوبل تجادل مع يهوشع قائلا: "لا يمكن لك أن تتجاهل إسهام يهود العالم في استمرارية الشعب اليهودي كأمة. ثمة أمر خاص جدا جدا، عالمي ويمكن ملاحظته بسهولة في صفوف اليهود. إنه شيء يتجاوز الأرض، وهو شيء مشترك بيننا جميعا".
ورأى رئيس "اللجنة اليهودية الأميركية" دافيد هاريس أن "يهوشع كان متحمساً وأعرب عن موقف صهيوني تقليدي يعتبر أن الشتات أمر هامشي وغير ذي صلة بمستقبل الشعب اليهودي. ولم يحظ يهوشع بالكثير من التأييد لموقفه. بل على العكس، تألم كثير من الحاضرين لموقفه، الذي يلغي دورهم في المساعدة على بلورة مستقبل الشعب اليهودي".
وبدا أن اليهود الأميركيين صدموا لأنهم لا يفهمون المنطلق الذي خرج منه يهوشع. غير أن عميرام بركات في مقالة نشرها في "هآرتس" تحت عنوان "يهود أغراب" أشار إلى أنه كان بوسع اليهود الأميركيين توفير الصدمة على أنفسهم لو كانوا يعلمون أن أفكار يهوشع هذه منتشرة بشكل واسع في أوساط المثقفين الإسرائيليين. وكتب أنهم لو فتشوا لعلموا "أن مفكرين بارزين في إسرائيل يرون في العلاقة بهم مفارقة تاريخية مُضرة تضر بجهود المجتمع الإسرائيلي لمنح سكانه غير اليهود الإحساس بالانتماء. كانوا سيكتشفون أن الفيلسوف مناحيم برينكر، على سبيل المثال، يعتقد أن عرب أم الفحم واللد هم جزء من أمته أكثر من يهود مانهاتن أو شيكاغو والصلة بهم في نظره من ميراث الماضي".
والواقع أن السجال الذي دار في مكتبة الكونغرس لم يكن سوى استكمال نقاش قديم وبداية نقاش جديد. فقد كانت الرؤية الصهيونية للشتات اليهودي مقبولة على الدوام في إسرائيل ومختلفاً بشأنها في مواطن الشتات في العالم. وكان النقاش في الغالب يدور بين اليهود المهاجرين إلى فلسطين ويهود الشتات منذ بدء التجسيد الفعلي للحركة الصهيونية: أولئك الذين يعتبرون أن الصهيونية هي احتلال الأرض والعمل وأولئك الذين يرون أن الصهيونية تكتفي بدعم احتلال الأرض واحتلال العمل.
ولكن الجديد في الأمر أنه بعد مرور سنين على المشروع الصهيوني واستفادة هذا المشروع من وجود الشتات عموما ووجود اليهود في الولايات المتحدة على وجه الخصوص تراجع النقاش حول هذه القضية. ولكن هذا التراجع لم يكن كلياً بل احتد في فترة التنافس بين يهود إسرائيل ويهود أميركا على اجتذاب يهود الاتحاد السوفياتي سابقا. وربما أن إصرار إسرائيل على منع المهاجرين الروس من مغادرة فيينا إلى غير إسرائيل شكل ذروة الصراع بين النظرتين.
ثم عاد الخلاف ليطل برأسه بعد تزايد أعداد المهاجرين الإسرائيليين إلى أميركا. وها هو اليوم يتجدد في إسرائيل ذاتها التي باتت بعض شرائحها تؤمن بالتعددية الثقافية بل وبتشكيل الغيتوات اللغوية. ومن هنا يأتي نقاش عدد من الإسرائيليين لأفكار يهوشع في استكمال لنقاش لا ينتهي. وقد كان النقاش في الماضي حول من هو يهودي خاصة في ظل هيمنة اليهودية الأرثوذكسية على الحياة العامة في إسرائيل رغم كونها أقلية بالنسبة ليهود الولايات المتحدة المنتمين بأغلبيتهم للتيارين الإصلاحي والمحافظ في اليهودية.
ويمكن القول إن النقاش حول أفكار يهوشع يأخذ الجدل من السؤال عمن هو اليهودي نحو السؤال عمن هو الصهيوني. ولا ريب أن المدافعين اليوم عن صهيونية الشتات هم أنفسهم المدافعون عن يهودية الشتات في حين أن يهوشع وأنصاره حاولوا التأكيد على أن اليهودية في أرض فلسطين هي الأمر الطبيعي وأن يهودية الشتات هي الاستثناء الذي تجاوزه الواقع زمنيا بإقامة الدولة اليهودية.