المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لم أعتد أن أروي مثل هذه القصص، لأن من شأنها أن تثير الشك حول كوني أعاني من جنون الاضطهاد.

على سبيل المثال: دعيت قبل 27 عاما لإلقاء سلسلة من المحاضرات في 30 جامعة أميركية، ومن بينها الأكثر فخامة- هارفارد، ييل، برينستون، إم- أي- تي، بيركلي وغيرها. كانت الداعية منظمة أميركية مشهورة غير يهودية، لكن المحاضرات كان ينبغي أن تجري برعاية حاخامي بيت هيلل.

عند وصولي إلى المطار في نيويورك، استقبلني أحد المنظمين. قال لي إن "هناك مشكلة صغيرة"، وأضاف "قام 29 حاخاما بإلغاء محاضراتك".

في نهاية الأمر ألقيت كل المحاضرات برعاية رجال دين مسيحيين. عند وصولنا إلى الحاخام الوحيد الذي لم يلغ محاضرتي، كشف لي عن السر: تم منع المحاضرات بكتاب سري من قبل "رابطة مكافحة التشهير"، وهي شرطة الفكر لدى المؤسسات اليهودية. ما زال النص راسخا في ذهني: "صحيح أنه من غير المقبول أن نقول بأن عضو الكنيست أفنيري خائن، ولكن...".

قصة أخرى من الحياة: بعد مرور سنة، كنت في واشنطن، "لأبيع" هناك حل الدولتين، إذ كانت هذه الفكرة تعتبر في حينه رأيا شاذا، يكاد يصل إلى حد الجنون. في نهاية الرحلة، نُظم لي مؤتمر صحفي.

حين وصلت إلى المكان، فوجئت. كانت القاعة تعج بالحاضرين، جميع وسائل الإعلام الأميركية الهامة كانت ممثلة. العديد منها وصلت من المؤتمر الصحافي الذي عقد لغولدا مئير مباشرة، التي كانت هي أيضا في المدينة في الوقت ذاته. استغرق المؤتمر ساعة، كالمعتاد، ولكن عند انتهائه لم يسمحوا لي بالمغادرة. تهافتوا حولي لحوالي ساعتين أخريين، وأمطروني بوابل من الأسئلة. كان من الواضح لديهم أن رسالتي كانت جديدة وأثارت لديهم الفضول.

أثار فضولي أن أرى كيف ستنعكس الأمور في وسائل الإعلام. وبالفعل كان رد الفعل مثيرا جدا: لم تُنشر حتى ولو كلمة واحدة في عشرات الصحف، محطات الراديو والتلفزيون التي كانت ممثلة.

على فكرة، قبل ثلاث سنوات عُقد لي مؤتمر صحافي آخر، كان هذه المرة في الكونغرس في واشنطن. تكرر المشهد بحذافيره: الاكتظاظ، الفضول والصحافيون، واستغرق المؤتمر وقتا أطول من المعتاد ولم تذكر أي كلمة عنه في وسائل الإعلام.

بإمكاني أن أروي مجموعة أخرى من هذه القصص، ولكنني أكتفي بهذه. أنا أذكرها بسبب الفضيحة التي أثارها بروفيسوران أميركيان وقوران فقط، ستيفن فولت من جامعة هارفارد وجون مرسهايمر من جامعة شيكاغو. لقد نشرا بحثا يتناول تأثير اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة.

أثبت الاثنان، في أطروحة من 80 صفحة، منها 40 صفحة من الحواشي، أن اللوبي المساند لإسرائيل يسيطر على واشنطن بواسطة آلية لا كوابح لها، وأنه يدب الذعر في قلوب كل أعضاء مجلسي الشيوخ والكونغرس، وأن البيت الأبيض يرقص على أنغام ناي ذلك اللوبي (لو تمكّن البيت من الرقص)، وأن كل وسائل الإعلام المهمة تذعن له، والجامعات تنصاع له أيضا.

أحدث هذا البحث عاصفة هوجاء. وأنا لا أقصد هجوم "أصدقاء إسرائيل" الأشعث، أي ما معناه كل السياسيين تقريبا، الصحافيين ورجالات الإعلام. لقد اتهموا هؤلاء الباحثين بمعاداة السامية، بإعادة إحياء "بروتوكولات حكماء صهيون"، وغيرها. كانت هذه الهجمات أمرا ونقيضه، إذ أثبتت مدى صدق الباحثين.

ولكن الجدل الذي يثيرني مغاير تماما. لقد نشب هذا الجدل بين أبرز المفكرين، ابتداء بنوعام تشومسكي الأسطوري، المعلم الروحي لليسار العالمي (والإسرائيلي أيضا)، وانتهاء بمواقع الإنترنت في مختلف أنحاء العالم. نقطة الخلاف هي: ادعاء البحث بأن اللوبي اليهودي الإسرائيلي يتحكم بالسياسة الأميركية الخارجية ويفرض عليها المصلحة الإسرائيلية وهذا يتعارض تعارضا كليا مع المصلحة الوطنية الأميركية، إثباتا على ذلك: الاجتياح الأميركي للعراق.

لقد هب تشومسكي وآخرون ضد هذه المقولة. إنهم لا ينفون مقولة البروفيسورين الثبوتية، بل ينفون الاستنتاج. لا يبلور اللوبي اليهودي السياسة الأميركية، حسب رأيهم، بل يجسد مصلحة أصحاب رأس المال والنفوذ في أميركا، الذين يدفعون بالإمبريالية الأميركية ويستغلون إسرائيل لأهدافهم العكرة.

بكلمات بسيطة: هل الذيل يلوّح بالكلب، أم الكلب يلوّح بالذيل؟.

من أنا لأقحم نفسي في هذا الشجار بين كبار الأكاديمية، لكني، رغم ذلك، أود التعبير عن رأيي.

سأبدأ بذلك اليهودي الذي حضر إلى الحاخام ليشتكي جاره. "أنت على حق"، أصدر الحاخام فتواه جازما. جاء الجار وصب غضبه على المشتكي. "أنت على حق"، أصدر الحاخام فتوى أخرى بعد تفكير. فسألته زوجته "كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ فإما أن يكون الأول على حق، وإما أن يكون الآخر على حق!" فأجابها الحاخام "أنت أيضا على حق".

أجد نفسي في موقف مشابه. أظن أن كلا الطرفين على حق (وأتمنى أن أكون أنا أيضا على حق).

استنتاجات البروفيسورين صحيحة حتى أدق تفاصيلها. كل عضو في مجلس الشيوخ أو في الكونغرس يعرف بأن انتقاد حكومة إسرائيل هو بمثابة انتحار سياسي. تم إعدام اثنين ممن حاولوا توجيه الانتقاد السياسي. تجند اللوبي اليهودي ضدهما وأدى إلى طردهما. تم ذلك علنيا وأمام أعين الجميع، ليروا ويتّعظوا. إذا رغبت إسرائيل بسن قانون لإلغاء الوصايا العشر، سيوقع 95 عضوا من أعضاء مجلس الشيوخ على اقتراح القانون في اليوم ذاته.

لقد تراجع الرئيس بوش، على سبيل المثال، عن كافة المواقف الأميركية، أحدها تلو الآخر، والتي كان متفقا عليها فيما يتعلق بالنزاع في منطقتنا. إنه يتبنى مواقف حكومتنا بشكل أوتوماتيكي، بغض النظر عن ماهيتها. جميع وسائل الإعلام الأميركية تقريبا، توصد أبوابها أمام الفلسطينيين ونشطاء السلام الإسرائيليين. وفيما يتعلق بالبروفيسورين، فالجميع يعرف حق المعرفة على أي جهة من الشطيرة تم دهن زبدة الفستق. وإذا تجرأ أحدهم، رغم كل ذلك، على التفوه ضد السياسة الإسرائيلية - وهذا نادرا ما يحدث- فسينهمر عليه وابل من الإساءة: إنه معاد للسامية، ينكر الكارثة، يمشي في طريق النازية.

على فكرة، يفاجأ الضيوف الأميركيون، الذين يعرفون بأنهم ممنوعون، في موطنهم، من ذكر أي كلمة حول تأثير اللوبي اليهودي- الإسرائيلي، عند قدومهم إلى إسرائيل. يكتشفون هنا أن اللوبي لا يخفي نفوذه وأساليبه أبدا، بل يتفاخر بها على الملأ. ويفاجأون أيضا من الحقيقة بأن هناك جدلا يقظا وهائجا يدور في إسرائيل حول مواضيع يُمنع التفوه بها في موطنهم.

لا يكمن السؤال فيما إذا كانت النتيجة التي توصل إليها البروفيسوران ذات مصداقية. بل ما هو الاستنتاج الذي يتمخض عنها.

لننظر إلى حالة العراق. من هو الذيل ومن هو الكلب هنا؟

لقد تضرّعت حكومات إسرائيل ليتم هذا الاجتياح، الذي يلغي التهديد الإستراتيجي من جانب العراق. تم دفع أميركا إلى العملية من قبل المحافظين الجدد، جميعهم تقريبا يهود وصهاينة، ممن يتمتعون بتأثير هائل على البيت الأبيض. بعضهم كان، فيما مضى، مستشارين لبنيامين نتنياهو.

عمليا، إنها حالة واضحة: دفع اللوبي الإسرائيلي إلى الحرب، وإسرائيل هي المستفيدة الرئيسية من هذه الحرب. إذا انتهت الحرب بكارثة تحل بأميركا، فسيتم توجيه اللائمة إلى إسرائيل.

صحيح؟ وماذا عن النية الأميركية في السيطرة على موارد النفط الهامة في العالم، وعقب ذلك، السيطرة على الاقتصاد العالمي؟ ماذا عن الرغبة في إقامة فيلق أميركي خاص في قلب العالم العربي، يرابط على فوهات آبار النفط العراقي، بين أبار النفط السعودي، آبار النفط الإيراني ونفط بحر قزوين؟ ماذا عن تأثير شركات النفط الهائل على عائلة بوش؟ ماذا بشأن الشركات العالمية الضخمة، وأبرز عملائها، ألا وهو نائب الرئيس ديك تشيني، تلك الشركات التي راودتها أحلام جني مئات المليارات من "إعادة تأهيل العراق"؟

العبرة من قضية العراق هي أن العلاقة الأميركية- الإسرائيلية تصل إلى ذروتها عندما تمتزج المصلحة الأميركية والمصلحة الإسرائيلية فيما بينهما كوحدة واحدة (وليس مهما إذا كان الأمر كذلك على الأمد البعيد). تستخدم أميركا إسرائيل لتسيطر على الشرق الأوسط، وتستخدم إسرائيل أميركا لتسيطر على البلاد.

ولكن عندما يحدث شيء شاذ، مثل فضيحة بولارد أو بيع طائرة الاستخبارات الإسرائيلية للصين، تنشأ فجوة بين مصالح كل من الطرفين، يمكن لأميركا، بالتأكيد، أن توجه لإسرائيل صفعة مؤلمة ورنانة.

العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل فريدة من نوعها. يبدو أنه لم يسبق لها مثيل في التاريخ. وكأن الملك هيرودوس قد أمر القيصر أغسطس بتعيين أعضاء مجلس الشيوخ في روما.

لا أعتقد بأنه من الممكن تفسير هذه الظاهرة بالمصلحة الاقتصادية فقط. يجب على الماركسي الأكثر تزهدا أيضا أن يعترف بوجود بعد روحاني أيضا. ليس محض صدفة أن يخترع المتطرفون المسيحيون في الولايات المتحدة فكرة الصهيونية حتى قبل أن تراود هرتسل في أحلامه. اللوبي الإنجيلي مهم اليوم في واشنطن بنفس قدر أهمية اللوبي اليهودي. حسب رأي هذا اللوبي، يتوجب على اليهود السيطرة على أرض إسرائيل بهدف تمكين المجيء الثاني للمسيح يسوع (وعندها، وهذا ما هو غير معروف كثيرا، سيعتنق جزء كبير من اليهود الديانة المسيحية والبقية تتم إبادتهم في مجيدو).

ترتكز الظاهرة على خيال رائع بين أسطورتين قوميتين دينيتين، الأميركية والإسرائيلية. ففي كل منهما وصل الطلائعيون، الذين تمت ملاحقتهم على خلفية ديانتهم، إلى شواطئ أرض الميعاد. كان عليهم الاحتماء من وجه الأولاد "المتوحشين" الذين خططوا لإبادتهم، أنقذوا الأرض، أنعشوا الصحراء، أنشأوا، بعون الله، مجتمعا مزدهرا، ديمقراطيا وأخلاقيا. يعاني المجتمعان من إنكار وإحساس بالذنب غير معترف بهما- هناك بسبب قتل الهنود الحمر وعار العبودية السوداء، وهنا بسبب طرد نصف الشعب الفلسطيني واستعباد البقية. يتكهنون، هنا وهناك، بحرب أبدية بين أبناء النور وأبناء الظلمات.

على أية حال، التكافل الأميركي الإسرائيلي هو ظاهرة مميزة ومعقدة جدا بحيث لا يمكننا وصفها كمؤامرة مجردة. أنا متأكد من أن البروفيسورين لم يقصدا ذلك.

الكلب يلوّح بالذيل والذيل يلوّح بالكلب. أحدهما يلوّح بالآخر.

إيهود أولمرت: هل يبقى سياسيًا أم يتحوّل إلى رجل دولة؟

تحوّل إيهود أولمرت أخيرًا إلى رئيس لحكومة إسرائيل. لم يعد مجرّد قائم بالأعمال، بل أصبح رئيسا فعليا للحكومة. بعد مرور 100 يوم على غوص أريئيل شارون في سبات عميق، انتزع من شارون كل من المنصب واللقب، وإيهود أولمرت أصبح الآن رئيسا للحكومة الانتقالية وبعد عدة أيام، عند إقامة الائتلاف الجديد، سيكون رئيسا للحكومة الدائمة أيضا.

يحدث كل ذلك دون أي حوار حقيقي حول أولمرت. هذا الرجل، الذي كان طيلة حياته شخصية جماهيرية، لا يعرفه المواطنون أبدا. بالنسبة لمعظم الجمهور فإن كونه "مكمّل طريق شارون" هو أمر كاف.

بيد أنه من الصعب أن نجد فرقا جوهريا بين شخصين كالفرق القائم بين شارون وأولمرت. مثله مثل الفرق بين الأسد والثعلب، بين ملك الغابة وبين أذكى حيوانات الغابة (حسب الأساطير على الأقل). كان شارون شخصا غير اعتيادي، مغامر، قائد جيوش، رجل حرب، واضع خطط مميزة (وفي معظم الأحيان عارية عن الصحة أيضا)، شخص مبدع، قوي، خطر، له حضوره. أولمرت هو سياسي، هو سياسي، هو سياسي.

الوصف الثاقب للسياسي تمت كتابته قبل أكثر من ألفي عام عن شخص عاش (وفق ما ترويه الأسطورة) قبل حوالي ألف عام من ذلك الحين: أفيميليخ ملك شكيم.

وكما يروي سفر القضاة (الإصحاح التاسع)، كان أفيميليخ ابن قائد وافته المنية. لقد قتل أخوته السبعين "على حجر واحد" وتحوّل إلى الحاكم الوحيد.

فقط يوتام، وهو الأخ الأصغر، نجا من المذبحة. فجاء ووقف على رأس جبل جرزيم وضرب "لأهل شكيم" مثلا خالدا، بلغة عبرية رائعة، يبدأ بالكلمات التالية: "مرة ذهبت الأشجار لتمسح عليها ملكا...".

توجه أحدهم تلو الآخر إلى كافة الأشجار واقترحوا عليها السلطة. عندما توجهوا إلى الزيتونة قالت الزيتونة بسخرية: "أأترك دهني الذي يكرمون به الله والناس، وأذهب لكي أملك على الأشجار؟". كذلك رفضت التينة الفخورة قائلة: "أأترك حلاوتي وثمري الطيب وأذهب لكي أملك على الأشجار؟".

هكذا، كل بدورها، فضلت الأشجار أن تنجز أشياء مفيدة بدل أن تعمل في السياسة. وفقط العوسج، الذي لا ثمر له، لا رائحة ولا ظل، وافق على أن يكون حاكما ولكن بشرط: "إن كنتم بالحق تمسحونني عليكم ملكا فتعالوا واحتموا تحت ظلي. وإلا فتخرج نار من العوسج وتأكل أرز لبنان".

هذه الرسالة التوراتية تأتي لتقول للسياسي العادي إنه شخص لا فائدة فيه، وكل صاحب قدرة إبداعية سيبتعد عن هذه المهنة. هذه فكرة رائجة اليوم في إسرائيل، وفي العالم بأسره. ولكنها لا تجيب على أبسط الأسئلة: إذا كان الأمر كذلك فمن سينجز ذلك العمل؟ لأن السياسة هي مهنة ضرورية - بلورة أغلبية، خلق ائتلاف، توصل إلى إجماع واسع لتنفيذ المهام، إدارة المجتمع. وإذا لم تتجند الزيتونة والتينة لهذه المهمة، فسيتم إسنادها إلى العوسج. أي بما معناه إلى الشخص الذي أكثر ما يميزه هو تطلعه إلى السلطة.

كما هو معروف من سيرته الذاتية، عانى أولمرت في طفولته من فقر شديد. أقامت مجموعة من الإصلاحيين القدامى من أفراد حركة حيروت، حيًا على أطراف مستوطنة بنيامينا. نظر إليهم القرويون باستهتار. يمكن أن يكون ذلك قد زرع في إيهود الولد التطلع إلى إبراز نفسه، إلى أن يحظى بتقدير جماهيري وأن يصبح ثريا أيضا.

تعرفت عليه في الستينيات، حين كنت نائبا في الكنيست. كان أولمرت الشاب تلميذ نائب آخر وخادمه، بكل ما في الكلمة من معنى: شموئيل تامير.

كان هناك ما يمكن تعلمه من تامير. لقد كان نرجسيا كفؤا وقد آمن أن القدر قد أعدّه منذ ولادته ليكون رئيسا للحكومة. كانت لديه قدرة على استقطاب الناس إليه، وأن يحوّلهم إلى عبيده الأمناء، أن يستخدمهم إلى أقصى الحدود، وعندها يلقي بهم في القمامة كحبات ليمون معصورة. كان له سحر شخصي وكان فذا في العلاقات العامة. كانت تحيط به دائما زمرة من أبرز الصحافيين، وقد تحوّل معظمهم فيما بعد إلى ألدّ أعدائه. كانت حياته السياسية مسارا متعرجا ومجنونا بين أحزاب مختلفة، تنح وانضمام، مواقف معتدلة ومتطرفة، إلى أن وصل إلى منصب وزير العدل. لقد نجح في طريقه أيضا في أن يصبح ثريا.

هذه كانت القدوة التي وقفت نصب عينيّ أولمرت عندما خطا خطواته الأولى في السياسة. الطريق التي سلكها تشبه مسلك واد يتعرج يمينا ويسارا وإلى الخلف أحيانا، ولكنه لم يسكن للحظة ولم يتنازل عن طموحه بالوصول إلى البحر. البحر هو السلطة. لقد استغرق ذلك عشرات السنوات وها هو الآن يصل إليه.

كان تامير، عضو الإيتسل سابقا، عضوا في حركة حيروت، وقد تركها وعاد إليها وحاول إسقاط مناحيم بيغن ولكنه فشل واضطر إلى الانسحاب وإقامة حزب صغير أسماه "المركز الحر". أولمرت، وهو رجل قابل للتعديل منذ الولادة، اعتقد أن تامير الشاب واعد أكثر من بيغن العجوز، وانضم إلى التمرد. لقد وجد نفسه عاملا بسيطا في حزب صغير.

لقد دفع تامير ذلك الشاب قدما ولم يدرك أن أولمرت تلميذ كفؤ أكثر مما كان يعتقد: لقد فعل مع تامير ما فعله تامير مع بيغن. أدى إلى انشقاق بين تامير وشريكه، إليعيزر شوستاك، انسحب وأقام مع شوستاك حزبا جديدا صغيرا. بعد ذلك أبعد شوستاك وتحوّل إلى زعيم الحركة. أعلت هذه الفضيحة ابتسامات كثيرة، عندما اختطف أولمرت أختام الحزب لكي يسيطر عليه.

في عام 1973 "كتّل" أريئيل شارون الأحزاب اليمينية في إطار "التكتل" (الليكود). وفيما عدا حركة حيروت والحزب الليبرالي، اللذين كانا موحدين في كتلة واحدة من قبل، ضم إلى هذه الكتلة الجديدة حزبين مؤقتين هما المركز الحر الذي يرأسه تامير والقائمة الرسمية لأتباع بن غوريون. حين سألت شارون آنذاك عن الحاجة إلى ضم هذين الحزبين الذين لم يأتيا بالأصوات، قال: "يهمني أن أخلق انطباعا بأن اليمين موحد كله. لذلك لم أرغب في إبقاء أحد في الخارج!".

في الانتخابات التي أجريت في اليوم الأخير من عام 1973 انطلقت قائمة الليكود، بزعامة بيغن، كحزب موحد. كان شارون السادس في القائمة أما أولمرت فكان رقم 36. منذ ذلك الحين بدأ يعمل بصبر، ويناور بمناورات لا نهاية لها، ليتقدم في القائمة. ارتقى إلى المكان الـ 26 (1981)، الـ 24 (1984)، الـ 22 (1988)، الـ 13 (1991) والـ 10 (1995). عندها قرر أن يختصر الطريق: رشح نفسه عن الليكود في انتخابات بلدية القدس وانتصر على تيدي كوليك العجوز. وقد قام بتحديث المنصب، فبدل أن يسمي نفسه "رئيس البلدية"، أطلق على نفسه اسم "رئيس المدينة" - كما لو كان سيغير الآن لقبه من "رئيس الحكومة" إلى "رئيس الدولة".

حين كان رئيسا للبلدية عمل على صعيدين: قمع السكان العرب والنهوض بالسكان الحريديم. لقد أهمل الأحياء العربية ودفع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى حفر نفق بجانب قبة الصخرة، الأمر الذي أدى إلى عشرات القتلى. لقد شجع المليونيرات الأميركيين اليمينيين على إقامة أحياء يهودية في قلب المناطق العربية وخاض معركة صاخبة لتحويل جبل أبو غنيم الجميل إلى حيّ يهودي محصن يدعى "هار حوماه". في نهاية الأمر دفع إلى إقامة الجدار الذي يبتر الأحياء العربية.

بالمقابل، بالنسبة للحريديم، فقد أبرم عهدا معهم، وهم الذين حافظوا عليه في السلطة، وفي نهاية الأمر سلمهم مفاتيح المدينة. السكان اليهود العلمانيون فضلوا الهرب من المدينة جموعا جموعا.

كل ذلك لم يساعده. حين قرر العودة إلى الكنيست، أبعده مركز الليكود ليعود إلى المكان الذي بدأ منه: رقم 32 في القائمة. غير أن أريئيل شارون، رئيس القائمة، أدرك أنه من المفضل له أن يحظى بوفاء ذلك الرجل الطموح والمجحف بحقه. حين أقام حكومته، أراد أن يسند إليه وزارة المالية. لم يكن ذلك الأمر ممكنا لأنه لم يكن بالإمكان التخلص من بنيامين نتنياهو الذي كان رقم 2 في القائمة.

كان الحل إسناد وزارة تعتبر متدنية لأولمرت، هي وزارة الصناعة والتجارة، وفي الوقت ذاته إرضاؤه بلقب فخم: "القائم بأعمال رئيس الحكومة". لقد كان هذا اللقب لقبا فارغا من المضمون لم يخوّل حامله سوى إدارة جلسات الحكومة عند تواجد رئيس الحكومة خارج البلاد. ولم يكثر شارون من السفر.

وعندها حدث أمران: مزّق شارون الليكود، وقد كان ذلك إلى حد ليس بقليل، بتأثير من أولمرت، ثم غاص في سباته. تحوّل "القائم بالأعمال" بطبيعة الحال إلى وريثه المؤقت وتحوّل الوريث المؤقت إلى وريث دائم. بعد أربعين سنة من التعرج، وصل النهر أخيرا إلى البحر.

كيف سيتقدم أولمرت كرئيس للحكومة؟ هل سيتحوّل الثعلب إلى أسد، السياسي الذي ما هو إلا سياسي إلى رجل دولة؟

الخطوات الأولى لم تعد بالخير. أولمرت لم يرتكب الأخطاء، غير أنه حظي بـ 29 مقعدا فقط، بدل الـ 45 مقعدا التي ضمنتها استطلاعات الرأي لشارون. منذ ذلك الحين ارتسم كزعيم متغطرس، وخاصة في علاقاته مع حزب العمل، الذي لا يمكن له أن يقيم حكومة بدونه. إنه يحاول إدخال حزب ليبرمان العنصري إلى الحكومة وينظر نظرة ازدراء إلى أبي مازن، ويقاطع الحكومة الفلسطينية المنتخبة ("حكومة حماس") ويسمح لشاؤول موفاز أن يقصف الفلسطينيين ويجوّعهم.

لكي يظهر استقلاليته، أطلق اسما جديدا على خطة شارون القديمة: خطة "الانطواء". إنه يتحدث عنها بمصطلحات عامة، بلا خرائط وبلا جدول زمني. يمكن لهذه أن تكون خطة لضم واسع لمناطق ("خالية من العرب") ويمكن لها أن تكون خطة مهلوسة، لا يتم تنفيذها أبدا. من الواضح أن تطلعه إلى إقامة ائتلاف واسع ومريح مهم لديه أكثر من تنفيذ الخطة التي تحتاج إلى إقامة ائتلاف ضيق، مثابر وموحد.

لم يحن الوقت بعد لتحديد المكان الذي سيصل إليه. لقد كان هناك زعماء صغار حلوا محل زعماء كبار وفاجأوا العالم. هكذا كان هاري ترومان، الذي ورث مكانة فرنكلين روزفلت وتحوّل إلى أهم رئيس للولايات المتحدة. هكذا كان أنور السادات، وريث جمال عبد الناصر ذي الحضور. ولكن توجد أمثلة عكسية كثيرة.

لقد قيل فيما مضى: ما هو الفرق بين السياسي ورجل الدولة؟ أن السياسي يفكر في الانتخابات القادمة بينما يفكر رجل الدولة بالأجيال القادمة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات