لا يحتاج المتابع للشأن الإسرائيلي إلى درس خاص في «فهم سلوكيات الأمن الإسرائيلي» كي يستطيع أن يستوعب أبعاد المقابلة التي أجرتها «يديعوت أحرونوت» في ملحق أسبوعها قبل الأخير، عشية عيد الفصح العبري، مع العميد احتياط الحنان تننباوم الذي أسره "حزب الله" في تشرين الأول العام 2000 وعاد إلى إسرائيل بموجب «صفقة تبادل» مع مجموعة من الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية .
"لم أخن"- هكذا عنونت يديعوت أحرونوت المقابلة المطوّلة مع الحنان تننباوم التي أجاب فيها على عشرات الأسئلة عن القمار والخيانة والأسر وحزب الله، وعما قاله في فضائية "المنار" عن كيفية وصوله إلى بيروت وعن التحقيق في إسرائيل بعد استبداله ومحاولة عودته إلى الحياة الجديدة .
لماذا المقابلة مع تننباوم في عيد الفصح بالذات وعشية يوم "الاستقلال"؟ ولماذا يجهش بالبكاء عدة مرات خلال المقابلة كلما ذكّرته الصحفية ياعيل غفيرتس بالأسر؟ هل يطلب المغفرة والشفقة؟ ولماذا يبكي رجل المهام الصعبة والمناطق المجهولة والذي خدم في الجيش أربعين عاما في أعلى المراتب الحساسة، كما ورد في المقابلة، دون أن يتقاضي معاشا من التقاعد لأن خدمته احتياطية على حد قوله؟ من يصدّق هذا الكلام في "دولة الرفاهية"! أم أن ذلك يستدعي الرحمة على من تعرض لحملة تشويه سمعة وصلت إلى حد اتهامه بتجارة المخدرات؟ .
وما علاقة القمار والندم ومراجعة الذات أو "حساب النفس" كما تسميها الصحافة الإسرائيلية بفتح ملفه مرّة أخرى للجمهور، هل هي رسالة إلى حزب الله أم مطالبة صحفية و"مخابراتية" كي يشفع له الجمهور الإسرائيلي أم أن المقابلة هي تكذيب للرواية الإسرائيلية التي تتكرر مرة أخرى في المقابلة .
يقول تننباوم عن مقامراته : "كنت مفلسا، ديون متراكمة، كان معي بعض المال، كأنك تذهب إلى الشارع وتبحث عن المال من تحت الاسفلت، وعندما تخسر، تقـول لنفسك لا يهم، في المرة القادمة سيحالفني الحظ، عندئذ تنتقل من المقامرة بألف دولار إلى مئة ألف دولار، باختصار المقامرة مجال يتوقف عنده الإنسان ويفكر بشكل عقلاني، ويبدو جليا لك أنه من الناحية الإحصائية لا توجد لك احتمالات الفوز والعبرة المنطقية التي تتوصل إليها وأنت في وضع مهين أن تتوقف حتى لو كنت بخسارة، كان عليّ أن أتوقف وأن أقول لنفسي: إنني أبعثر الأموال على مال مشكوك به، وعندما تخسر تسبب لنفسك ولعائلتك ضررا غير قابل للإصلاح".
ثمة علاقة بين القمار ومقامرات رجال المخابرات، فاحتمالات الفشل واردة دائما وعندما يفشل المقامر يتحمل المسئولية بسبب أخطائه أثناء اللعبة.
ولعل ملاحظة الصحفية الإسرائيلية ياعيل غفيرتس التي وضعتها في إطار داخل المقابلة تشكل صرخة نداء للمجتمع الإسرائيلي تقول: انتهت الحكاية... تننباوم كان رجل المهمات الصعبة رغم كل ما قيل عنه .
إنها طلب للمغفرة وربما اعتراف بالحقيقة التي نعرفها.
وفيما يلي ما كتبته غفيرتس تحت عنوان "أسير محاكمة الرأي العام": كتب الكثير عن الحنان تننباوم، قتلني حب الاستطلاع لمعرفة صمته المتواصل، بقيت روحه مجهولة. واقع حياته الصعب منذ إطلاق سراحه لم يفتحه على الدنيا لكن الواقع ليّنه مثل مطرقة "ستيك" تدق اللحمة، وفي حالته يدور الحديث عن مطرقة من وزن خمسة كيلوغرامات . فكّرت مليا عدة مرات إذا كان سيواصل الحياة أم أنه سيضع حدا لها، التقيته عدة مرات منذ إطلاق سراحه، تحدثنا ساعات طويلة من أجل هذا اللقاء، في البداية وبعد فترة وجيزة من إطلاق سراحه بدا أن به شيئًا ما آخذ في التقلص، يتحرك بين "الماتشويزم" وهجمات البكاء. "افتقدته" عدة مرات خلال الأحاديث، يتخوف من كل همسة ويحجز نفسه من كل سؤال يتطرق إلى حساب النفس.
عندما هيأ المستشار القضائي للحكومة إتفاق التحقيق الذي وقع معه وتقرر أن تننباوم لم يخن الدولة خيّل له أن باب الحياة الجديدة فتح أمامه ولكن من يومها ما زال منطويا على نفسه. يكتشف أن في دولة اسرائيل لا مغفرة ولا رحمة، لا حياة جديدة، لا يوجد تناسب، توجد فقط فضائح ترفض أن تموت.
الرجل العاصف والمزدحم بالأسرار الذي تنقل في مناطق مجهولة ومشكوك فيها عرفت نوعيتها بعد وقوعه في الأسر مغلق في هذه الايام بعزلة ونبذ، العناوين تشتعل خلفه، تطارده نساؤه المهملات والمجتمع الإسرائيلي وهي نفسها العباءة الزرقاء ترفض ان تفتح له شباك الفرص للإصلاح والتصحيح .
هناك لقاءات صحفية نادرة تسبب لك ان تلائم نفسك مهنيا وشخصيا خلال صيرورة اللقاء، اللقاءات تقلب قبعتك ولكن تقلب أيضا نقطة الانطلاق التي جئت منها، أنت تطلب حسابا للنفس لكنك تكتشف أن حساب النفس المطلوب ليس فقط من تننباوم انما هو اوسع ولاذع .
إنجرّ تننباوم ووقع في الأسر في ظروف غبية ووقع في جرح اسرائيلي مقيّح يرفض الالتئام. تحول من ملح الارض الى ملح جروح صفقة الأسرى الثمينة التي بفضلها أطلق سراحه. لا يهم ماذا مرّ عليه خلال فترة الأسر، ماذا فعل أو لم يفعل وماذا سيفعل في المستقبل.
أشير عليه أنه "عدو الشعب"، أعادوه وأسر من جديد، هو "أسير الشكر" للدولة التي أعادته من الأسر ومن جهة ثانية هو أسير محاكمة الرأي العام.
حالة تننباوم الذي هو ضحية أعماله وضحية الاندفاعات المبالغة وتشويه السمعة بقيت حسب اعتقادي مثلما كانت عندما كان في الأسر. منزوع المنطقة في أجواء معادية وبدون إمكانية أن يواصل حياته بشكل مستقل ما عدا أن يتنفس بقواه الذاتية. وعندما يعود اسرائيلي من جهنم ويقول إنه لا يعرف أن يقول إذا كان وضعه أسوأ من الأسر الحالي فإن هذا الأمر يتطلب مراجعة.
من السهل أن نتحاسب معه ولكن من المستحسن أن نتحاسب مع السياسيين الذين استعجلوا والمحققين الذين سرّبوا وبعض المنتفعين الذين سارعوا لوضع الملح على جروح الفضيحة.
الإنسان مثل البصل عندما تقشره تتنازل له الدموع فقط، هناك ثلاثة أشياء سبّبت له البكاء أثناء المقابلة: الأسر، العائلة، نشيد "هتكفا". يدّعي تننباوم أنه يواصل مراجعة الذات يوميا منذ أن وقع في الأسر،1651 يوما، بشاعة ما بعدها بشاعة، كيف لا يحسبون أنه أسر معقد لا مثيل له ومستمر منذ قرابة خمس سنوات .
مواقعة جنسـية
يغئال عمير، الذي قتل يتسحاق رابين رئيس الحكومة السابق ظنا منه أنه خرج عن الإجماع الصهيوني، هدّد بواسـطة "يديعوت احرونـوت" يوم الاربعاء 20-4-2003 أنه سيبدأ بالإضراب عن الطعام لمنعه الزواج من عشيقته لاريسا تريمبولر. وكان عمير قد أعلن أنه مستعد أن "يتوحد" مع عشيقته أمام كاميرات السجن التي تراقب تحركاته داخل الزنزانة ليل نهار. المحكمة الحاخامية الإسرائيلية التي تعنى بالأحوال الشخصية تعهدت لعمير بالانتهاء من طلب زواجه عشية عيد الفصح العبري الذي بدأ قبل أكثر من أسبوع وانتهى أول من أمس. إلا أن سلطات السجون الإسرائيلية تماطل بتأخير حدوث "المواقعة" بين عمير ولاريسا خوفا من المس بمشاعر عائلة رابين وبعض قطاعات القبيلة التي تعتبره "الابن العاق" .
نحن لا نتحدث هنا عن حقوق سجناء، بل نطرق باب الوقاحة الإسرائيلية العلنية، لأن يغئال عمير يتمتع بحقوق تكاد تكون أفضل من حقوق إنسان عربي يعيش خارج السجن في العالم العربي، كما أن سلطة السجون الإسرائيلية قد هددته أنه سيعامل معاملة السجناء الفلسطينيين إذا نفذ إضرابا عن الطعام وستصادر من زنزانته- غرفته المواد الغذائية المتوفرة في غرفته وسيمنع من المكالمات التلفونية... ثمة اعتراف إسرائيلي رسمي بأن هناك تمييزًا بين السجناء الفلسطينيين وبين من قتل "شيخ القبيلة".
من أين هذه الوقاحة! وما علاقتها بحقوق الإنسان! وما علاقة يغئال عمير ابن الحركة الصهيونية الدينية بالإنسانوية! من أين هذه الثقـة المتجددة بالنفس والشعور بأحقية التقدم بمطالب ستنفذ كما يبدو بعد حين.. إنه ممثل تيار واسع في المجتمع الإسرائيلي يتمرد على الجيل المؤسس للدولة العبرية.
الشعور بالتوحد و"اللقاء مع الله" قائم في اليهودية كدين، وهذا يمنح قوة هائلة لمواجهة مصاعب الحياة ، لكن التوحد والمواقعة مع لاريسا عمير على الملأ وأمام الكاميرات يمنح قطاعًا كبيرًا من أبناء القبيلة الإسرائيلية إمكانية الدفاع عنه بذريعة فرائض الدين للتغلب على العزلة .
السجناء في الوطن العربي لا يطمحون بالمواقعات الجنسية.. يكفيهم ما يقع عليهم . إنهم يطمحون لأبسط الحقوق..