هناك أسباب كثيرة تجعل الكثيرين منا يرغبون في أن يختفي العرب بصورة عجيبة وأن يغربوا عن عيوننا تماماً. كذلك الحال فإن الحلول لمعضلة هذا الجوار القريب أكثر من اللازم، مختلفة ومنوعة. فالكثير من الإسرائيليين يتبنون الترانسفير سواءً بالنسبة لعرب المناطق المحتلة أو بالنسبة لمواطني الدولة العرب؛ وهناك من يؤمنون بقوة الجدران والأسوار(مقالة جديدة بقلم باروخ كيمرلينغ)
مُقدمة
هناك أسباب كثيرة تجعل الكثيرين منا يرغبون في أن يختفي العرب بصورة عجيبة وأن يغربوا عن عيوننا تماماً. ومن هذه الأسباب: الديمغرافيا، الدين، الخوف، كراهية الآخر، العنصرية القومية.
كذلك الحال فإن الحلول لمعضلة هذا الجوار القريب أكثر من اللازم، مختلفة ومنوعة. فالكثير من الإسرائيليين يتبنون الترانسفير سواءً بالنسبة لعرب المناطق المحتلة أو بالنسبة لمواطني الدولة العرب؛ وهناك من يؤمنون بقوة الجدران والأسوار، وآخرون يقترحون خطة لتبادل السكان والأراضي.
يسعى هذا المقال إلى إعطاء خلفية عامة للانتخابات التي جرت في إسرائيل في 28 آذار 2006- ولنتائجها المحتملة- مع الإشارة إلى أن المقال كتب قبل الانتخابات بأكثر من شهر وذلك استناداً لاتجاهات الاستطلاعات التي نشرت في الإعلام المطبوع والإلكتروني. نتائج الانتخابات قد تأتي مختلفة إلى حد كبير عن نتائج هذه الاستطلاعات، ليس فقط بسبب الوقت الطويل الذي سيمر حتئذٍ، وإنما بالأساس بسبب الاختلاف الجوهري بين التعبير عن الرأي (التصريح لمنفذي الاستطلاعات) وبين الممارسة (التوجه إلى صناديق الاقتراع والتصويت). وقد بين علم الاجتماع جيداً الفوارق- الفجوات- بين الموقف والسلوك أو الممارسة.
على الرغم من ذلك ثمة قيمة أو أهمية قائمة بحد ذاتها للمواقف المعبّر عنها على مدى فترة من الوقت والتي يتم جمعها من قبل معاهد ومراكز مختلفة. تعكس الاستطلاعات المشاعر والميول السائدة في صفوف الجمهور، ويحاول هذا المقال فهم هذه المشاعر ووضعها في سياقها الاجتماعي الرحب.
كراهية الغريب والخوف منه...
مما لا شك فيه أن معظم الإسرائيليين- يمينيين ويساريين، صقوراً وحمائم- يفضلون أن يفيقوا في صباح ذات يوم صاف ليكتشفوا أن الفلسطينيين قد اختفوا، أو تبخروا بطريقة عجيبة؛ وأن كل هذا الصراع، وحقيقة وجود عرب بين ظهرانينا ومن حولنا وفي أي مكان، كان مجرد كابوس ليس إلاّ، أو كان حلماً سيئاً تبدد. وعلى الأرجح، فإن هذه الأمنية تشكل أيضاً الرغبة الدفينة، أو الدفينة جداً، لدى الطرف المقابل.
هذا لا يعني أننا جميعاً نريد أن ندمر ونبيد وأن نقتل ونطرد الطرف الآخر- وإنْ كان ثمة مثل هؤلاء في الجانبين- ولكنه ليس من المريح لنا البتة العيش في ظل هذا الجوار الحميمي الذي نكاد نحيا فيه الواحد داخل الآخر تقريباً. حتى أن البعض منا يتساءل أحياناً: ما الذي نفعله (نحن الإسرائيليون) في الشرق الأوسط؟! صحيح، هذه هي الديار المقدسة، جزء بسيط من "أرض الميعاد" التي أمل اليهود وصلوا جيلاً تلو جيل من أجل "العودة" إليها، وهاجروا في الوقت ذاته إلى بلاد الإمكانيات غير المحدودة في شمال القارة الأميركية.
في أوساط الكثير من المجموعات العرقية، القومية والدينية في أنحاء العالم، هناك درجات متفاوتة ومتغيرة من كراهية الغريب و"الآخر". ولا يعني ذلك الاستنتاج أن كراهية الغرباء يجب أن تظهر بالضرورة في أي ظرف ومكان، لا سيما وأن الغرابة ذاتها هي مقاربة اجتماعية، وبالتالي يمكن لأي مجموعة إنسانية أن تمر بعملية تغريب في أي مكان. وفي الحالة التي نحن بصددها فقد نشأت "الغرابة المتبادلة" على مدى فترة زمنية طويلة وواكبها تاريخ طويل من سفك الدماء المتبادل والطرد والاحتلال والقمع المتواصل.
إسرائيل دولة مهاجرين- مستوطنين، أقيمت خلافاً لإرادة ومصالح غالبية سكان البقعة الجغرافية-التي أنشئت (إسرائيل) عليها وقامت باحتلالها وتوسيعها- وخلافاً لإرادة ومصالح سكان المنطقة بأسرها.
لا عجب إذن أنه نشأت داخل المجتمع اليهودي منذ بداية تبلوره في هذه المنطقة فوبيا وجودية، ولا عجب أن هذا المجتمع ما زال مسكوناً حتى اليوم، بفوبيا وجودية، والتي تشكل أحد الأسباب الرئيسية لكراهية العرب. من ناحية عملية، وفي فترة ما قبل الدولة تطور "الييشوف" داخل "قوقعة يهودية"، على الأقل من ناحية أيديولوجية، وحرص كثيراً على الحد من احتكاكه وعلاقاته مع الأغلبية العربية في معظم المجالات. في التقاليد الثقافية والدينية هناك أيضاً أشكال من الخوف الممزوج بالكراهية تجاه "الأغيار" وقد ورثت الصهيونية على الأقل جزءاً من تلك التقاليد.
في خضم القتال والحرب عام 1984 أُقتُلِعَ وطُرِدَ نحو 750 ألف عربي (فلسطيني) من البقعة التي انتقلت السيطرة عليها إلى سلطة يهودية، وفي نهاية المطاف بقي في الدولة اليهودية نحو 150 ألف عربي. ولكن على الرغم من أن هؤلاء حصلوا على مواطنة (جنسية) إسرائيلية وعلى حقوق مواطنة كأفراد، إلا أنهم اشتبهوا دوماً بعدم الولاء للدولة وأنهم طابور خامس أو حصان طروادة.
لغاية العام 1966 كانت المناطق الريفية (القروية) العربية تخضع للحكم العسكري الإسرائيلي، ولم يسمح حتى العام 1965 بقبول العرب كأعضاء في نقابة العمال (الهستدروت).
كان السبب هو قناعة وإيمان الدولة والسكان اليهود أن المواطنين العرب يشكلون تهديداً أمنياً على الرغم من أنه لم تتوفر موضوعياً أية إثباتات حقيقية لهذا الإدعاء. بعد إلغاء الحكم العسكري ظل المواطنون العرب يخضعون لنظام مراقبة وملاحظة بوليسيّ صارم، ترافق مع إتباع سياسة مصادرة لمساحات واسعة من الأراضي العربية (حوالي 40% من الأراضي التي كانت بملكية عربية صودرت بمرور السنوات) نُفذَت تحت مسميات مختلفة منها "تهويد الجليل"، ومثل هذه التعابير ميزت نظرة الدولة ومؤسساتها تجاه المواطنين العرب في إسرائيل. في المظاهرة التي جرت في 30 آذار 1976 ("يوم الأرض") قتل برصاص الشرطة الإسرائيلية ستة مواطنين عرباً، وفي "أحداث" تشرين الأول- أكتوبر 2000 (هبة التضامن مع انتفاضة الأقصى والقدس) ذُبِحَ 12 مواطناً عربياً وجُرِحَ المئات (برصاص قوات الشرطة الإسرائيلية). وقد سبق ذلك مذبحة كفر قاسم في 29 أكتوبر 1956، التي قتل فيها 49 شخصاً من أهالي القرية معظمهم من النساء (إحداهن حامل) والأطفال على يد وحدة تابعة لشرطة "حرس الحدود" الإسرائيلية، وكما هو معروف اكتفت المحكمة بإصدار عقوبات رمزية فقط على المتورطين في ارتكاب المذبحة.
في عام 1967 انضم سكان المناطق الفلسطينية المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة) إلى نظام السيطرة الإسرائيلي. و منذ ذلك الحين تكرّس "الاحتلال المتنور" وبات الوضع التعريفي للدولة مركباً ومعقداً جداً. طوال الوقت الذي كان فيه الاحتفاظ بالمناطق (الفلسطينية) المحتلة وبسكانها مجدياً للفرد والمجموع في إسرائيل، كانت هذه الجدوى تخفف إلى حد ما من وطأة غرابة هؤلاء السكان العرب والخوف منهم، وتحولت "المناطق" إلى تخوم من الاستيطان على أراض بتكلفة زهيدة جداً، خاصة بعد ما انضمت قوة عمالة يومية رخيصة إلى سوق العمل الإسرائيلية، كما أضحت المناطق الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة) واحدة من أكبر وأهم أسواق التصدير للسلع و المنتجات الإسرائيلية، والتي شق قسم منها طريقه إلى الدول العربية التي استمرت رسمياً في مقاطعة البضائع الإسرائيلية.
على الرغم من كل ذلك فقد تصاعدت منذ البداية مظاهر العنصرية تجاه السكان الفلسطينيين. في العام 1980 انتخب للكنيست ضمن قائمة "كاخ" (الحاخام العنصري) مئير كاهانا الذي نادى بإلغاء حقوق وطرد جميع الفلسطينيين إلى خارج البلاد.
بعد مرور خمس سنوات حُظرت مشاركة كاهانا في الانتخابات لأن الاستطلاعات أظهرت، حسب قوله، أن حزبه سيتحول إلى ثالث أكبر الأحزاب في الكنيست...
منذ اندلاع الانتفاضة الأولى (1987) اتخذت العلاقات العنيفة بين المجموعتين العرقيتين منحى التصعيد، وأخذ ميزان التكلفة والجدوى المرتبط باستمرار الاحتلال يتبدل ويتغير، إذ راحت الجدوى تقل وتتراجع لصالح اشتداد المخاوف والكراهية والغرابة، هذه المظاهر التي أصبحت سائدة أكثر فأكثر بين المجموعتين الإثنيتين القوميتين.
يمكن الحصول على صورة جزئية لما حدث بين إسرائيل والفلسطينيين منذ بداية الانتفاضة المسلحة وحتى الانتخابات للمجلس التشريعي في السلطة (بداية العام الحالي 2006)، حيث تصاعدت خلال هذه الفترة حالة الحرب بين المجموعتين القوميتين وبما يتعدى الدمار الهائل الذي لحق بالبنى التحتية المدنية والمؤسسات العامة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذا الأضرار الاقتصادية التي تكبدها الطرفان.
وبينما إسرائيل هي دولة بكل ما تعنيه الكلمة، فإن الفلسطينيين هم بصعوبة دولة على الطريق. من هنا نجد أن الوضع الذي نشأ يختلف عن الحروب التي نشبت بين دول أخرى وذلك لعدة أسباب ومميزات مهمة:
أ- لا توجد تقريباً حدود بين "الجبهة" و"المؤخرة"، إذ أن السكان المدنيين (أي المجموعة التي لا تقاتل ولا تحمل السلاح) في الجانبين مكشوفون للإصابة والقتال. فالانتحاريون الفلسطينيون وصلوا إلى قلب المراكز العمرانية في إسرائيل وألحقوا الأذى بالسكان المحليين الإسرائيليين دون تمييز (بمن في ذلك بمواطنين فلسطينيين)، وهذا ما حدث أيضاً في عمليات إطلاق صواريخ "القسّام" (لغاية الآن) على بلدات ومستوطنات في النقب الغربي. من جانب آخر، سمح الجيش الإسرائيلي لنفسه باستخدام الطائرات العمودية والطائرات المقاتلة النفاثة والمدرعات والمدفعية ووحدات مشاة خاصة، من أجل تصفية أو اعتقال "مطلوبين" في كل أنحاء المناطق الفلسطينية، ودون إبداء الحرص اللازم على تجنب المس بحياة السكان المدنيين. إضافة إلى ذلك نظم بعض المستوطنين استفزازات بهدف تشويش حياة الفلسطينيين وإلحاق الأذى بهم.
ب- ترتدي معظم النزاعات الإثنية طابعاً دينياً أيضاً، تنحو فيه الأديان نحو التطرف وتمر بعمليات تسييس وتحول إلى المركزية الإثنية، ويشكل الدين عامل تحشيد يضفي الشرعية، حتى وإن كان أبناء المجموعة العرقية لا يتماثلون أو يشخصون بصورة عامة مع الدين الإثني.
ج- يَشعُر أُناس معينون لدى الجانبين بـ "واجب شخصي!" في المشاركة في الأعمال العدائية ويأخذ هؤلاء على عاتقهم شتى أنواع المهمات في نطاق النزاع من أجل المس سواء بـ "العدو الخارجي" أو بـ "العدو الداخلي". فقد حاول أفراد في الجانب الفلسطيني، ليس لهم انتماء لأية منظمة مسلحة، ألمس سواء بإسرائيليين أو بأشخاص فلسطينيين اشتبه بتعاونهم مع إسرائيل. من الجانب الإسرائيلي كانت هناك حالتان بارزتان على الأقل تدخل فيهما أفراد في العملية السياسية بواسطة ارتكاب أعمال قتل من أجل تغيير مجرى التاريخ (مذبحة المصلين العرب في الحرم الإبراهيمي في الخليل واغتيال رئيس الوزراء- اسحق رابين). كما اكتشفت تنظيمات يهودية كانت تدبر لنسف مساجد المسلمين (المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة المشرفين) في الحرم القدسي الشريف على أمل أن يؤدي ذلك إلى تصعيد التوتر وإشعال حرب "يأجوج ومأجوج" في كل المنطقة تُقرِّب أجل "يوم القيامة"! بالإضافة إلى ذلك يشن اليمين نوعاً من الحرب الثقافية وسط توجيه الإساءات والتهديدات ولا سيما ضد المثقفين الإسرائيليين الذين لا يقبلون منهج تفكيره.
د- كل فرد ينتمي إلى الجانب الآخر من المتراس يُنظر إليه كعدو وبشكل تعميمي ("كل العرب/كل المسلمين/ كل اليهود هم من نفس الطراز ولا توجد فوارق بينهم").
ه- يُعتم الصراع الطائفي أو العرقي على باقي المواضيع الاجتماعية والسياسية، وينظر إليه من كلا الطرفين كصراع وجودي وشامل من الجانب الإسرائيلي: في ضوء اللاتكافؤ، أو الاختلال الهائل، في موازين القوى، فإن القتال الفلسطيني لا يشكل بالتأكيد تهديداً لوجود إسرائيل على الرغم من نجاح الفلسطينيين في خلق نوع من التكافؤ ... في المقابل فقد أدت الردود العسكرية الإسرائيلية إلى وضع السلطة الفلسطينية على حافة الانهيار وإعادة الفلسطينيين إلى المربع الأول المتمثل بـ "اللاكيانية السياسية".
و- تتسم المجموعات الإثنية- القومية بصورة عامة، بوجود مهاجر شتات تقع في الكثير من الأحيان بعيداً عن البقعة الجغرافية التي يَدور القتال العنيف على ساحتها. وفي هذه الحالات تُجنَّد مهاجر الشتات، أو تتجند من تلقاء نفسها، للمساعدة في تقديم الدعم السياسي والمادي لمجموعاتها الأم. فمجموعات ("لوبيات") الضغط اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية تضطلع بدور مهم في حشد الدعم لإسرائيل بل وتبالغ أحياناً في نشاطها لدرجة إلحاق الضرر بالقضية الإسرائيلية. ويسعى الفلسطينيون من جهتهم، في السنوات الأخيرة، إلى تكوين مجموعات ضغط مشابهة، لكنهم لم يحققوا إلاّ نجاحاً محدداً.
ز- لا نجدد إذا قلنا إن العالم صار اليوم كونياً- عولمياً أكثر، وكذلك أيضاً النزاعات المحلية والإثنية. وتستقطب "الديار المقدسة" اهتماماً عالمياً شديداً، بما في ذلك مصالح متناقضة لشتى القوى العظمى والمنظمات الدولية. بصورة عامة يمكن القول إن العولمة نجحت على ما يبدو في وضع عدد من القيود على هذه الحرب، حتى في ظل عدم وجود تدخل مباشر فيها، مثلما حصل في البوسنة.
دولة يهودية وديمقراطية
لا يُشكل النزاع مع الفلسطينيين في الواقع، خطراً أو تهديداً وجودياً مادياً على دولة إسرائيل (رغم ما يلهج به عدد من رجالات اليمين والعسكريين)، غير أن وجود العرب داخل دائرتي سيطرتها (الدولة والمناطق المحتلة) ينظر إليه من جانب أقسام كبيرة من السكان اليهود كتهديد حقيقي وأكيد على "طابع" و"هوية" إسرائيل كدولة يهودية.
الفلسطينيون مواطنو الدولة، يشكلون اليوم نحو 20% من سكانها، وفيما لو كانوا موحدين في تصويتهم للكنيست لصالح حزب عربي واحد (قرابة نصفهم يصوتون اليوم لصالح أحزاب يهودية "صهيونية") لكان باستطاعتهم أن يفرضوا على الدولة أجندة مختلفة. لذلك فإن سلسلة القوانين الأساسية والدستور المقترح للدولة يتضمنان المصطلحين المتلازمين "يهودية وديمقراطية" كوحدة واحدة لعوامل متعلقة ببعضها البعض تميز الدولة على الرغم من أنها تنتمي إلى مفاهيم منفصلة ومختلفة. ويكمن سبب ذلك في التهديد المستتر لنظام إسرائيل الديمقراطي وليس لـ "يهوديتها". ويوحي ذلك أنه إذا نشأ خطر على الطابع اليهودي لإسرائيل- هذا "الطابع" الذي لا يريدون، أو لا يستطيعون تحديده لكن هناك فرضية مقبولة مؤداها أن هذا الطابع يتطلب على الأقل كوتا حاسمة من عدد اليهود في الدولة- فإنه لا بد عندئذٍ من التخلي عن الـ "ديمقراطية" بمعنى مصادرة الحقوق المدنية من الأقليات التي تهدد بالخطر الأغلبية اليهودية، أو حتى اتخاذ خطوات وإجراءات أشدُّ وابعد أثراً، كما سنلاحظ أدناه.
من اللافت أن الخطاب الديمغرافي العنصري قد انبثق عن اليسار "الحمائمي" في الخريطة السياسية الإسرائيلية وذلك من أجل إقناع الجمهور اليهودي والنظام السياسي بضرورة الانسحاب من المناطق المحتلة التي حولت إسرائيل واقعياً إلى دولة ثنائية القومية. ولكن وكما يحصل مراراً في ديناميكية الخطاب السياسي فقد جرى توسيع هذا الطرح ليتحول إلى "ضربة مرتدة" عندما تبنى اليمين- وخاصة اليمين المتطرف- ذات الطرح لكنه استخلص منه استنتاجات مغايرة تماماً.
ترانسفير أو جدار
جرى خلال حرب 1948 "تطهير" معظم المناطق التي انتقلت إلى السلطة اليهودية من السكان العرب (وهناك من يدعى أن ذلك كان "تبادلاً سكانياً" نظراً لأن مجموعات كبيرة من يهود الدول الإسلامية هاجروا طوعاً، أو اضطروا للهجرة منها، قسم منهم قَدِمَ إلى إسرائيل).
فكرة الترحيل السكاني (أُتبعت لغاية ما بعد الحرب العالمية الثانية بفترة معينة) لم تكن غريبة على التفكير الصهيوني، وقد جرت مناقشات طويلة حول هذا الموضوع. هناك أمثلة كثيرة على عمليات تبادل سكاني قسرية، ولكن خلال محاكمات نيرنبرغ، التي حوكم فيها مجرمون نازيون، وصفت عمليات ترحيل السكان كجريمة حرب وكجريمة ضد الإنسانية. ومنذ ذلك الوقت تغيرت القواعد والمعايير الإنسانية وكذلك القانون الدولي.
وقد نشأت في إسرائيل، منذ إخراج حركة "كاخ" عن القانون، عدة أحزاب (مثلاً حركة "موليدت" بزعامة رحبعام زئيفي) تبنت فكرة "الترانسفير الطوعي" التي لا يحظرها القانون الإسرائيلي أو الدولي. وتضم مقاعد الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي حالياً كتلتين ("يسرائيل بيتينو" ["إسرائيل بيتنا"] و"هيئحود هلئومي" ["الإتحاد الوطني"]) تتبنيان الفكرة ذاتها، (حصلت هاتان القائمتان في انتخابات آذار الماضي على حوالي 20 مقعداً في الكنيست الـ 17).
هناك صيغة "ألطف" وأخف- مغلفة بغطاء "علمي"- لتبادل السكان والأراضي وهي التي يقترحان (البروفيسوران) أرنون سوفير وسرجيو ديلا- فرغولا وتقضي: مقابل كتل المستوطنات اليهودية المكتظة في المناطق (الفلسطينية) المحتلة، تنقل إسرائيل لمنطقة الدولة الفلسطينية (عندما تقوم هذه الدولة) تجمعات (مدن وقرى) عربية في المثلث.
هذه الخطة، التي جرى كما يبدو تبنيها كلامياً من قبل عدد من السياسيين الإسرائيليين، توفر "حلاًّ" لمشكلتين عويصتين. فهي أ) تبقي تحت سيطرة إسرائيل كتل المستوطنات وتعفيها في الوقت ذاته من عملية إخلاء قاسية (للمستوطنين)؛ ب) تقلص بنسبة ملموسة عدد الفلسطينيين مواطني إسرائيل دون أن يتطلب الأمر تنفيذ عمليات طرد أو اقتلاع وتشريد، وذلك من خلال إقصاء السكان العرب من داخل حدود الدولة. ويجري الترويج لهذه الخطة وسط قيام أصحابها بنشر توقعات سكانية "مفزعة" تزعم أن إسرائيل ضمن حدود الخط الأخضر، ستفقد "الأغلبية اليهودية" في غضون عشرين إلى ثلاثين عاماً.
هذا على الرغم من أن الجانب الآخر (مكان التجمعات الفلسطينية المستهدفة بمشروع التبادل السكاني) لا يبدي ما يفيد باستعداده لقبول مثل هذه المقترحات "السخية" بالتنازل عن مواطنته الإسرائيلية. وكان استطلاع أجري في نيسان 2002 بين سكان مدينة "أم الفحم" أظهر أن 9% فقط من المستطلعين يوافقون على فكرة "تبادل الأراضي والسكان" وذلك لأسباب لا مجال هنا لمناقشتها أو الخوض فيها.
في البحث الذي أجراه البروفيسور آشر أريان سنة 2005 في نطاق "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب، تبين أن 46% من يهود إسرائيل يؤيدون تنفيذ ترانسفير للسكان الفلسطينيين من المناطق المحتلة (الضفة الغربية والقطاع) ولـ 31% من مواطني إسرائيل العرب.
ويشكل ذلك ارتفاعا ملموسا (في نسبة اليهود المؤيدين للفكرة) مقارنة مع معطيات بحث مشابه أجري عام 1991 وأيد فيه 38% من المستطلعين تنفيذ ترانسفير للفلسطينيين من "المناطق المحتلة" فيما أيد 24% تنفيذ ترانسفير للعرب من إسرائيل ذاتها. وأعرب 61% من اليهود عن اعتقادهم أن "عرب إسرائيل" يشكلون "خطراً أمنياً على الدولة"، وقال 80% إنه يجب عدم إشراك المواطنين العرب في قرارات مهمة ومصيرية مثل تحديد حدود وطابع الدولة الإسرائيلية.
تعيين الحدود الدائمة
في موازاة تصعيد الصراع القومي- الإثني بقي خياران رئيسيان في نظر قطاعات واسعة من الجمهور اليهودي: الترانسفير والجدار.
يبدو أن إحاطة قطاع غزة بجدار الفصل شكل نجاحاً من وجهة النظر الإسرائيلية، لكن إقامته كانت سهلة نسبياً. فحدود قطاع غزة لم تكن موضع خلاف بين الطرفين (خلافاً لعملية الانفصال وإخلاء المستوطنات في حد ذاتها). وكردِّ فعل على إقامة الجدار بدأ (المقاومون) الفلسطينيون باستخدام السلاح الصاروخي (صواريخ "القسّام") الذي ما زالت أضراره حتى الآن ضئيلة جداً وتقتصر على الناحية النفسية بالأساس. مع ذلك فقد هدد الفلسطينيون بتطوير هذه الصواريخ وبالشروع في استخدامها انطلاقاً من الضفة الغربية إذا استمرت إسرائيل في إقامة جدار العزل.
ويشكل استكمال بناء الجدار حول الضفة الغربية، في الوقت ذاته، ترسيماً نهائياً، ولئن كان ذلك من جانب واحد، لحدود الدولة. غير أن غاية تعيين "الحدود الدائمة" تتناقض مع الهدف الأصلي لإقامة الجدار (الذي تحول إلى بناء سور في أماكن حساسة مثل القدس). فـ "الحدود الدائمة" لحكومات اليمين (حالياً "الوسط") تهدف إلى ضم مناطق واسعة قدر الإمكان إلى أراضي الدولة (الإسرائيلية)، سواء من أجل خنق ومحاصرة الدولة الفلسطينية العتيدة بالعداء أو من أجل ضمان احتياطي أراضٍ لتوسيع مستوطنات قائمة وربما أيضاً مستوطنات جديدة، أحياناً بذريعة "الاحتياجات الأمنية".
الفلسطينيون ينظرون إلى ذلك باعتباره سلبا للأراضي وتمزيق الضفة الغربية إلى كانتونات معزولة وجعل الاتصال فيما بينها صعبا ومعقداً وبما يحول حياة الفلسطينيين اليومية فيها إلى جحيم غير محتمل.
وكانت محكمة العدل الدولية في لاهاي قد أكدت (في قرارها المتعلق بعدم شرعية جدار الفصل) أن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها ببناء جدار/ سور داخل حدودها فقط، أي على "الخط الأخضر". جدير بالذكر أن ذلك شكل أول اعتراف قانوني دولي بأن الخط الأخضر يشكل حدوداً لإسرائيل وليس بموجب ما نص عليه قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1947. في المقابل أوعزت المحكمة الإسرائيلية العليا بإجراء عدد من التعديلات البسيطة في مسار الجدار وذلك للتخفيف من معاناة أهالي عدد من التجمعات والقرى الفلسطينية، لكن المحكمة صادقت في الوقت ذاته على "قانونية" بناء الجدار داخل أراضي الضفة الغربية.
هذه النقطة تنطوي على تناقض: فبمقدار ما سيشمل الجدار (ضم) مناطق أوسع بمقدار ما سيشمل عدداً أكبر من الفلسطينيين داخل "الحدود الدائمة" وهذا مناقض للغاية الأصلية من إقامة الجدار. لذلك فقد ظل الترانسفير بمثابة الخيار المفضل في نظر الكثيرين من اليهود- على الرغم من عدم شرعيته وعدم أخلاقيته واستحالة تنفيذه في الظروف الدولية الراهنة- وهذا بالأساس لأنه يمكّن بكيفية ما من تجسيد فكرة "أرض إسرائيل الكبرى" بنقائها الإثني أو العرقي.
انتخابات 2006
في ضوء ما تقدّم، هناك موضوع واحد سيظل طاغياً على الأجندة العامة لمعظم الناخبين ولا سيما في أعقاب فشل محادثات "كامب ديفيد" وإعلان ألـ "لا شريك" الذي أطلقه إيهود باراك. هذا الموضوع هو: كيف يمكن التخلص من العرب، أو على الأقل التخلص من غالبيتهم.
حزب "العمل" برئاسة عمير بيرتس حاول عبثاً أن يطرح على الأجندة العامة مواضيع في غاية الأهمية، لكن هذه المواضيع اعتبرت غير ذات صلة بالنسبة لهواجس ورغبات غالبية الجمهور. الأحزاب الحريدية ليس لديها تقريباً مثل هذه المشكلة فـ "كل شيء بيد الله" من ناحيتها. "شينوي" و"المفدال" ("القومي- الديني") ليسا مؤهلين لطرح وتزعم مثل هذا الحل ولذلك فقد اختفى الحزبان من الخريطة أو دفعا ثمناً باهظاً.
الليكود أيضاً لا يستطيع اقتراح شيء- لا إعادة تقسيم للبلاد ولا ترانسفير للعرب والذي ما زال يعتبر غير لائق من ناحية سياسية- ما عدا الخيار الأسوأ وهو: استمرار وتصعيد النزاع. اليمين المتطرف يتعهد من جهته باقتلاع غالبية العرب من "أرض إسرائيل"، أما حزب "كديما" فيتعهد بتنفيذ الخيار الذي يعتبر اليوم الأكثر واقعية وهو الفصل التدريجي.
كان المؤرخ العسكري مارتين فان- كرفيلد قد عبر، في مقابلة صحفية سنة 2002، عما يجول في تفكير الكثيرين عندما قال: "علينا أن نُشيِّد سوراً شاهقاً بحيث لا تتمكن حتى العصافير من الطير فوقه... لقد برهن السور الروماني على جدواه طوال مئات السنين؛ سور الصين لم يكن أبدياً لكنه أثبت جدواه هو الآخر طوال قرون وقرون؛ وسور كوريا أثبت ذلك طوال خمسين عاماً؛ أما السور بين الأتراك واليونانيين في قبرص فما زال يعمل جيداً، وهو ما ينسحب على سور برلين كذلك ...". غير أن فان كرفيلد أراد كما يبدو أن يُبنى معظم السور على الخط الأخضر واقترح على المستوطنين العودة إلى حدودهم، وهو أمر يبدو أنه ما زال غير مقبول لدى أقسام واسعة من الجمهور الإسرائيلي.
[ترجمة "مدار"]
____________________________________
(*) البروفيسور باروخ كيمرلينغ- أستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية- القدس
المصطلحات المستخدمة:
حرس الحدود, الصهيونية, المثلث, تهويد الجليل, الخط الأخضر, باراك, الهستدروت, كاخ, موليدت, كديما