تشير معطيات العملية الإسرائيلية في قطاع غزة إلى أن الأهداف المحددة لها لا تزيد عن الانتقام. وقد يندفع البعض للقول بأن الانتقام يحمل في أحد جوانبه أملاً باسترداد قدرة الردع التي فقدها الجيش الإسرائيلي أساساً في تصاعد المقاومة الفلسطينية ضده. ومع ذلك فإن قادة إسرائيل العسكريين والسياسيين، على حد سواء، لا يخفون حقيقة أن العملية لم تحقق أياً من أهدافها.
ويقول بعض هؤلاء إن الأهداف سوف تتحقق لاحقاً لأن الوضع يتطلب المزيد من الصبر. في حين يذهب آخرون إلى التشكيك في قدرة هذه العملية على تحقيق أية أهداف إما لأنها "أبطأ" من اللازم وإما لأنها عاجزة في كل الأحوال عن إجبار الفلسطينيين على التراجع.
والواقع أن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي نفسه تحدث أمام وزراء المجلس الأمني المصغر مشدداً على أن ليست لدى الجيش الإسرائيلي وصفة سحرية. وقال إن الحل العسكري هو في كل الأحوال حل مؤقت. كما أن قادة الجيش، الذين كانوا الأشد تحمساً لخوض المعركة مع الفلسطينيين لتلقينهم درساً قاسياً، عادوا للحديث عن شراسة المعركة وأنها قد تستغرق وقتاً طويلاً. ويوم السبت أعلن قائد الجبهة الجنوبية، الجنرال يوآف غالانت، أن الحملة الجارية في غزة قد تستغرق شهوراً.
ومن الطبيعي أنه ما كان بوسع أي من هؤلاء قول ذلك لو أن المنطق الذي حكم قادة إسرائيل لقي تجاوباً من الفلسطينيين. فقد أراد كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية ايهود أولمرت ووزير دفاعه عمير بيرتس أن يعيد الفلسطينيون الجندي الأسير جلعاد شليط إلى وحدته العسكرية حليق الذقن ومعطر الجسد بعد حمام منعش. وأن يحمل هذا الجندي بين يديه اعتذاراً رسمياً صريحاً، ليس فقط من الحكومة الفلسطينية وإنما من كل واحد من رعاياها، وخصوصاً ان كانوا من مؤيدي المقاومة. ولا يكتفي أولمرت وبيرتس بذلك بل أرادا تعهداً شخصياً من كل فلسطيني بأن لا يتكرر خطأ التجرؤ على التفكير في عمليات كهذه بعد الآن.
وإذا لم يكن هذا كافياً فإن إسرائيل تريد، فضلاً عن ذلك، من الفلسطينيين الكف عن إطلاق الصواريخ باتجاه مستوطناتها داخل الخط الأخضر. ومن البديهي أن حكومة أولمرت تريد تحقيق كل ذلك من دون مقابل سوى الاستعداد لعدم مهاجمة الفلسطينيين برياً وبالتالي إلحاق الدمار بمزارعهم وبيوتهم.
والحقيقة أن أولمرت، ورغم دخول أزمة الجندي الأسير أسبوعها الثالث، لم يغير بعد من المنطق الذي حكم سلوكه الأولي الرافض إجراء أية مفاوضات لتبادل الأسرى والمطالب بوقف الصواريخ من دون مقابل. وقد أعلن في اجتماع الحكومة الأسبوعي إصراره على ممارسة السياسة ذاتها مما يشير إلى أنه في معركة عض الأصابع لن يكون أول من يصرخ.
غير أن الكثيرين في إسرائيل، بمن في ذلك داخل المؤسسة الرسمية، باتوا يشكون في جدوى الأسلوب الذي انتهجته الحكومة وقيادة الجيش. فإذا كان المقصود من الهجوم البري استرداد قدرة الردع فإن المعطيات تظهر تزايد استعداد الشباب الفلسطيني لمواجهة القوات الإسرائيلية. وتشهد على ذلك شراسة محاولات التصدي رغم فوارق القوة بين الطرفين. أما إذا كان المقصود وقف إطلاق الصواريخ فإن فصائل المقاومة واصلت إطلاق هذه الصواريخ ووسعت من نطاق أهدافها. وباتت الصواريخ، على قلتها، تثير الخوف ليس فقط في سديروت وإنما كذلك في عسقلان شمالا ونتيفوت شرقا وكل ما يقع في الدائرة بينهما.
ولا ريب أن كل حديث عن استرداد الجندي بطريقة الضغط ومن دون مقابل لا يمكن وصفه سوى بـ"الهراء". وربما أن هذا ما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى معاودة الطلب من قوى إقليمية ودولية السعي لإيجاد مخارج تفاوضية. وقد نقل المعلق العسكري في "هآرتس"، زئيف شيف، عن مصادر مطلعة أن إسرائيل الرسمية باتت تفكر في الثمن الذي ستدفعه مقابل الجندي.
غير أن معلقاً عسكرياً آخر في "يديعوت" هو أليكس فيشمان، كتب أن غاية العملية الإسرائيلية هي "إحداث تآكل في قدرة الخصم على أمل أن يحصل شيء ما على محور الزمن: قد ينكسر، قد يعيد المخطوف، قد يطلب وقفاً للنار. قد... وفي هذه الأثناء تخلق جباية الثمن من الجانب الفلسطيني الانتحاريين القادمين". وأشار إلى درس بالغ الأهمية من الناحية الميدانية وهو أن "الجيش الإسرائيلي يستثمر لواء كاملا من قوة مختارة في مواجهة حي واحد في قطاع غزة، رغم أنه لم يدخل إليه، الأمر الذي يدل على قدرة قطاع غزة ابتلاع القوات. ويمكن فقط لنا أن نتصور كم من القوات يتعين على الجيش الإسرائيلي أن يستثمر إذا ما طلب إليه تجسيد قرار المجلس الوزاري بتقطيع أوصال القطاع إلى قسمين، أو إذا تقرر السيطرة على كل شمالي القطاع منعاً لنار القسام. غزة هي بئر بلا قاع يبتلع القوات البرية. ومن يخطط اليوم في هيئة الأركان العامة تقليص الجيش البري بشكل دراماتيكي، فليفكر مرة أخرى".
ليس صدفة أن الحملة الإسرائيلية بدأت بأعلى درجة من التهديد ليس فقط للفلسطينيين وإنما كذلك لسوريا ولبنان. وصحيح أن الحكومة الإسرائيلية رفضت اقتراح رئيس الحكومة الفلسطينية إسماعيل هنية ولكن المعلقين الإسرائيليين يعتقدون بأنه لا يمكن أن تصمد إسرائيل طويلا في رفضها مبادرات وقف النار. فالعالم لن يسمح لها بذلك!
بين الإحساس بالمأزق والرغبة في الانتقام
عندما بدأت الحملة لم يكن رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت يظن أن "أمطار الصيف" سوف تطول. فقد اعتقد، هو ووزير دفاعه عمير بيرتس، أن مجرد الإعلان عن الحملة والتهديد بتوسيع نطاقها وصولا إلى احتلال مناطق في القطاع، كفيل بجعل الفلسطينيين يهرعون لتلبية مطالبه. كما أن رئيس أركان الجيش، الجنرال دان حلوتس، الذي شعر بالمهانة جراء نجاح المقاومة الفلسطينية في اقتحام موقع "كيرم شالوم" وأسر أحد جنوده، آمن أن تفعيل سلاح الجو وتدمير البنى التحتية قادر على إعادة الفلسطينيين إلى بيت الطاعة صاغرين.
وشعر القادة العسكريون أن بين أيديهم "قيادة سياسية" كالعجينة القابلة للتشكل كما يريدون.
فأولمرت وبيرتس القادمان من الدهاليز الحزبية والسياسية لا يعرفان كثيراً عن تفاصيل العمل العسكري وقدرته على التأثير. ومعلوم أن للجيش احتكارين أساسيين في إسرائيل: الأول احتكار حق تقديم المعلومات والثاني حق تقديم التقدير القومي.
ويتيح الحق الأول للجيش توجيه المستوى السياسي نحو الوجهة المطلوبة لأن احتكار المعلومات يعني فعلياً الحق في وضع المقدمات التي ينبغي أن تستند إليها النتائج. كما أن الحق الثاني يعني بلورة الإطار الأمني الذي تفعل في داخله إسرائيل سواء لجهة المخاطر أم وسائل مواجهتها.
ومما زاد الطين بلة أن الجيش يعتقد أنه أفلح في إدخال رئيس الحكومة ووزير دفاعه "المدنيين" إلى "غرفة العمليات" من دون إعداد مسبق. وهو أي الجيش يسعى لاستغلال ذلك لتحقيق أهدافه بأسرع وقت ممكن. ومن البديهي أن صاحب "نظرية الحرب الخاطفة" يتطلع إلى إنهاء العملية سريعاً قبل أن تتآكل قدرة الجيش على الإقناع.
والواقع أن إسرائيل، أياً كانت أخطاء قيادة الجيش، لا يمكنها التفريط بمكانة الجيش وسمعته. فهو في نظرها، أكثر من أي دولة أخرى، عنوان بقائها في فوهة بركان الشرق العربي. ومن دونه لا مكان لها في هذه المنطقة. وحال الجيش يختلف كثيراً عن حال الحكومة والأحزاب والقادة السياسيين الذين يمكن التخلي عنهم أو الانقلاب عليهم بسهولة. والجيش يرى نفسه هنا صاحب المشكلة أكثر من أي جهة أخرى. إنه المعني مباشرة بالصدام مع حماس ومع الإرادة الفلسطينية.
ولكن الجيش يحمل على كتفه عبء الصراع منذ إقامة الدولة اليهودية وحتى الآن. ورغم أنه حقق لإسرائيل مكاسب جمة إلا أنه لم يفلح في توفير الأمن والسلام لها. وقد تفاقمت هذه المشكلة على وجه الخصوص بعد أن انتقلت إدارة الصراع في الجانب العربي من الأنظمة إلى الفصائل، وفي الانتفاضات من الفصائل إلى الجمهور الفلسطيني.
وقد توصل عدد من القادة العسكريين في السابق إلى قناعة بأنه إذا كان الردع ذا قيمة عليا في الصراع مع الأنظمة العربية، فإنه يكاد يكون عديم القيمة مع الفصائل أحياناً ومع الجمهور طوال الوقت. وربما أن هذا ما قاد عسكريين سابقين مثل اسحق رابين وأريئيل شارون للتفكير بوسائل أخرى، اتفاق أوسلو وخطة الفصل. ولكن هؤلاء العسكريين كانوا قد جربوا أنفسهم في ميادين القتال. والآن هناك عسكريون جدد مشبعون بثقة زائدة بالنفس جراء "الفارق النوعي" في موازين القوى بينهم وبين العرب عموما والفلسطينيين خصوصا.
وهكذا نشأ واقع صراعي جديد يتمثل في تعدد أهداف الحملة العسكرية الجارية. فالهدف المعلن للجميع هو استعادة الجندي الأسير من دون قيد أو شرط. وفي ذلك يريد أولمرت تأكيد زعامته وقدرته على إدارة الأزمات ببرودة أعصاب، الأمر الذي ينقله من مستوى من وقع فجأة ومن دون سابق إعداد في موقع القيادة إلى موقع الزعيم الحقيقي. أما عمير بيرتس الذي تجرأ عليه عدد من الجنرالات السابقين داخل حزبه فإنه من خلال إلقاء بزة العمل الزرقاء في سلة القمامة وارتداء لباس الميدان المرقط يسعى إلى الرد عليهم ومواصلة الاستهزاء بهم.
والحديث عن أهداف الجيش والعسكريين يمكن أن يفيض عن كل حديث آخر. فهذه بالنسبة لهم معركة حياة أو موت في نظر الشارع الإسرائيلي وفي مواجهة السياسيين الذين قفزوا في الأعوام الأخيرة عن "نبوءات الغضب" التي أطلقوها سواء عند الانسحاب من الجنوب اللبناني أو عند تنفيذ خطة الفصل.
ولا يهاب الجيش وقادة الحكم في إسرائيل من تحقيق أهدافهم الصغيرة بوسائل بينها قتل وإذلال الشعب الفلسطيني. وما استهداف مقر رئاسة الحكومة في غزة سوى معلم من معالم الرغبة في إظهار هذا الإذلال. غير أن ما يبدو واضحاً هو أن السلوك الإسرائيلي يحقق عكس المطلوب.
فهم يريدون إضعاف حماس ولكن هذه الهجمات تزيد التفاف الجمهور حولهم. وهم يريدون شرذمة الصف الفلسطيني ولكن هذه الحملة وغاراتها تعمق وحدة هذا الصف. وحينها ثمة من يسأل السؤال أو الأسئلة المتكررة: صحيح أن الفلسطينيين في مأزق ولكن من قال إن إسرائيل ليست أيضا في مأزق؟.