المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أفرزت الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية شرذمة إضافية للخارطة السياسية، وما بدا في انتخابات العام 2003 وكأنه بداية لاستعادة قوة الحزبين الأكبرين التقليدين بعد انهيارها، تم نسفه في هذه الانتخابات، ليظهر حزب "كديما"، وهو خليط من الحزبين، وبقوة هزيلة، من ناحية، وتثبيت محدودية قوة "العمل"، وانهيار منافسه التاريخي حزب الليكود، من ناحية أخرى.

فقد تم توزيع مقاعد الكنيست الإسرائيلي الـ 120 على 12 كتلة برلمانية، ولكنها في المجمل تضم 19 حزبا مسجلا، وأكبر هذه الأحزاب "كديما" لم ينجح حتى في السيطرة على ربع المقاعد، وحصل على 29 مقعدا، وهذا ما سيلزمه بتشكيل ائتلاف معقد فيه على الأقل أربعة شركاء، والقاعدة التي تستند للتجربة السياسية في إسرائيل تقول انه كلما كثر الشركاء في الحكومة كثرت قلاقلها الداخلية وتبقى في حالة عدم استقرار. وفي مجتمع كالمجتمع الإسرائيلي، غير المتجانس في غالبيته، تزداد حدة الصراعات الداخلية في عدة اتجاهات، وهذا ما سيظهر لنا بعد تشكيل الحكومة التي على ما يبدو ستكون برئاسة ايهود اولمرت.

ما نلمسه حتى الآن، أن هذه الانتخابات تشكل نقطة تحول في مسار الخارطة السياسية الإسرائيلية، التي بقيت طوال سنين رهن الحزبين التقليديين، "العمل" و"الليكود" اللذين كانا حتى انتخابات العام 1992 يسيطران بالمعدل على ما بين 75 الى 85 مقعدا وأكثر، من أصل 120 مقعدا. ولعدة أسباب سياسية ومنها تلك التي تتعلق بطريقة الانتخاب، فقد هبطت قوة الأحزاب الكبيرة، فمثلا في هذه الانتخابات عدد مقاعد الأحزاب الثلاثة الكبيرة، "كديما" و"العمل" و"الليكود"، تساوي نصف عدد مقاعد الكنيست، 60 مقعدا.

لقد شهدنا في هذه الانتخابات انهيارات غير مسبوقة بحجمها وكثرتها، وهذا استمرار لما شهده الكنيست المنتهية ولايته، الذي فرض رقما قياسيا بعدد الانشقاقات والتشققات في الأحزاب والكتل البرلمانية المختلفة، وفي المقابل شهدنا ظهور كتل بشكل مفاجئ. والنتيجة الأبرز هو انهيار حزب الليكود، الذي عاد الى حجمه الذي كان عليه في مطلع سنوات الخمسين من القرن الماضي، مع بدايات إسرائيل، وحين كان اسمه حزب "حيروت"، وهذا بعد الانشقاق الذي واجهه قبل اقل من ستة أشهر ونجم عنه تشكيل حزب "كديما"، وكان الليكود حصل في الانتخابات الماضية على 38 مقعدا.

وبالتالي فقد أصبح حزب "الليكود" اليوم الكتلة الرابعة، وهذا أيضا نتيجة ان "الليكود" بزعامة بنيامين نتنياهو نافس في هذه الانتخابات على أصوات اليمين المتطرف، حيث واجه "يسرائيل بيتينو"، بقيادة المتطرف افيغدور ليبرمان، الذي قفز دفعة واحدة من 4 مقاعد الى 11 مقعدا، وحزب "هئيحود هليئومي- المفدال"، وابعد الليكود بذلك عن دائرته مئات آلاف المصوتين من مركز الخارطة السياسية.

ولكن الشرذمة الأكثر حدة نجدها في اتساع رقعة التقاطب السياسي بين التيارات المختلفة. فعلى وقع انهيار الليكود ارتفعت قوة أحزاب اليمين المتطرف، من 13 مقعدا في الكنيست السابق، الى 20 مقعدا، والحديث يجري عن يسرائيل بيتينو وهئيحود هليئومي والمفدال بشقيه، وهذا عدا عن وجود نواب يمين متطرف في أحزاب الليكود وشاس وحتى كديما، وهذا ما سيتضح أكثر في الصراعات البرلمانية المقبلة، خاصة عندما يحين طرح القضايا السياسية الحارقة.

نسبة التصويت

بالإمكان القول ان اللاعب الأكبر، أو حتى القوة الأكبر في هذه الانتخابات كانت نسبة التصويت، التي هبطت لأول مرّة في تاريخ إسرائيل الى مستوى 63%، في حين كانت في الانتخابات السابقة 69%، وأيضا تلك كانت هبوطا غير مسبوق في السياسة الإسرائيلية، مما يدل على عهد جديد في المشاركة الإسرائيلية في العملية الانتخابية. فمثل هذه النسب في دول العالم تعتبر نسبا عالية، ولكنها في الحالة الإسرائيلية تعتبر شاذة، خاصة حين نرى انه حتى انتخابات العام 1999، كانت نسبة التصويت في الانتخابات البرلمانية تتراوح بالمعدل ما بين 77% الى 82%، ولهذا فإننا نلمس ان هذا الحجم من الهبوط لم يأت من فراغ، بل كانعكاس لحالة الإحباط السياسي التي تعم الشارع الإسرائيلي، الذي على ما يبدو بدأ يلمس انهيار كل الخيارات التي تطرحها أمامه المؤسسة السياسية للخروج من دائرة الصراع، والأزمة المزمنة.

فحتى في هذه الانتخابات لم يطرح أي من الأحزاب الكبيرة برنامجا سياسيا مقنعا، وبالإمكان القول ان الناخب الإسرائيلي كان في النهاية مرغما على اختيار برنامج اللابرنامج، لأنه حتى حزب "كديما" طرح خطة سياسية من حيث المبدأ، "الانسحاب الأحادي الجانب"، ولكن من دون تفاصيل، لأن أي تفصيل كان سيطرحه كان سيجد معارضة من أطراف كثيرة، ويغوص في مأزق انتخابي، قرر الابتعاد عنه.

كذلك فإننا لم نسمع خطابا سياسيا واضحا من حزب "العمل" الذي تماوج بين عدة خيارات. أما الليكود فقد تقلب في برنامجه عدة مرات في أوج الحملة الانتخابية، فمثلا في إحدى الفترات عاد الى سياسة اللاءات الإسرائيلية المعروفة حتى سنوات الثمانين، وسرعان ما سحب هذا الخطاب، ليطرح من جديد برنامجا ضبابيا كان من الصعب معرفة حدوده.

ما من شك أنه الى جانب العامل السياسي، وهو الأقوى وراء تراجع نسبة التصويت، هناك عوامل أخرى، مثل الانطباع السائد الذي فرضته وسائل الإعلام الإسرائيلية حول فساد الجهاز السياسي، في كل أجنحته. كذلك هناك معادلة واقعية تقول إنه كلما كثر عدد ذوي حق الاقتراع اتسعت في المقابل حلقة الممتنعين عن المشاركة.

لقد ركز المحللون في هذه الانتخابات على حالة اللامبالاة، وإن هذه الحالة نجدها أكثر بين الجيل الشاب، واعتبروها المسبب الأكبر لنسبة التصويت المنخفضة، ولكن هذه مزاعم لا يمكن تقبلها في الحالة الإسرائيلية، لأن هذه ظاهرة معروفة في الدول التي تشهد سكينة ومستوى معيشيا مقبولا الى جيد، وهذا ما لا تنعم إسرائيل به.

ولكن نسبة التصويت لم تكن متساوية في جميع القطاعات، ففي حين ان النسبة العامة كانت 63%، فإنها بين المستوطنين في الضفة الغربية وبين الأصوليين اليهود (الحريديم) بقيت على نسبها المرتفعة جدا، حيث بلغت 90% وأكثر، وفي المقابل فإن النسبة انخفضت بين العرب الى 57% او أكثر بقليل، وهكذا تم الإبقاء على الفجوة القائمة منذ سنوات بين المجتمعين العربي واليهودي، لا بل في هذه الانتخابات تقلصت بحوالي 2%.

لكن قوة العرب، 12% من بين ذوي حق الاقتراع، بقيت على حالها بين المقترعين فعليا، لأن 6% من الأصوات بين اليهود احترقت بفعل عدم اجتياز القوائم التي حصلت عليها نسبة الحسم، وهذا ما لم يكن في الشارع العربي، حيث وصلت القوائم الثلاث الى الكنيست ممثلة بعشرة مقاعد (اقرأ النتائج في مكان آخر من هذا العدد).

والمتضرر الأكبر من هذه النتيجة كانت الأحزاب الكبيرة، وخاصة "كديما"، الذي كما كان متوقعا، لم يكن لديه الجهاز التنظيمي الكافي، والكوادر الناشطة الكافية لإحضار الناخبين الى صناديق الاقتراع. وفي المقابل فإن المستفيد الأكبر من نسبة التصويت المنخفضة هو الأحزاب الصغيرة التي تمثل قطاعات مختلفة، مثل الأصوليين اليهود (الحريديم)، وقوائم اليمين التي مثلت قطاع المستوطنين، وحتى المتقاعدين، الذين ما كان بإمكانهم الحصول على هذا التمثيل الفجائي (7 مقاعد) لولا نسبة التصويت المنخفضة.

أما عند العرب فإن جميع الاستطلاعات العلمية السابقة دلّت على أن العرب سيحظون بهذا التمثيل في كل حالة من حالات نسب التصويت.

بين الاقتصاد والسياسة

بطبيعة الحال فإن الجانبين الاقتصادي والسياسي مرتبطان بالتأكيد، لكن الناخب الإسرائيلي في نهاية المطاف، وحسب النتائج الظاهرة، فضّل اللجوء الى رموز السياسة والقوة، على رموز الاقتصاد الاجتماعي، التي وعدته بإخراجه من أزمته الاقتصادية. وهذا ليس جديدا، لا بل هذا هو الخيار التقليدي لدى الناخب الإسرائيلي، وهذا أيضا ما أثبتته استطلاعات الرأي التي تأكدت في النتائج النهائية.

لكن في المقابل فإن ظهور قائمة المتقاعدين، بهذه القوة، تعبر عن يأس الناخب الإسرائيلي من طروحات حزب "العمل" في القضايا الاقتصادية الاجتماعية. ولأول مرة في إسرائيل تظهر قائمة بهذا الحجم كل برنامجها اقتصادي اجتماعي، فهي تدعم شريحة المتقاعدين حصرا، ولكن بالتأكيد ستكون الى جانب تعديلات جدية في السياسة الاقتصادية الإسرائيلية لتحسن أوضاع الشرائح الفقيرة والضعيفة، التي زادت معاناتها أكثر في ظل السياسة الاقتصادية التي انتهجتها حكومتا اريئيل شارون في الولاية ونصف الولاية السابقتين، بقيادة بنيامين نتنياهو.

ورغم ذلك فإن هذا الملف، الاقتصادي، سيكون أكثر من أي وقت مضى، حلبة صراع جدية في العمل البرلماني، وأيضا في داخل أي حكومة سيتم تشكيلها. ونظريا نحن أمام 59 عضو كنيست سيؤيدون انتهاج سياسة اقتصادية تحسن من وضعية الشرائح الفقيرة، وهؤلاء هم من حزب العمل- 19 نائبا، وكتلتي "الحريديم"، شاس ويهدوت هتوراة- 18 نائبا، وحركة ميرتس- 5 نواب، و10 نواب من الكتل الثلاث الناشطة بين العرب في إسرائيل، خاصة وأن العرب هم الأكثر تضررا من السياسة الاقتصادية.

ونؤكد أن هذه "جبهة" نظرية على الورق، وليس هناك ما يضمن وحدتها لرفض استمرار السياسة الاقتصادية المنتهجة، وبالإمكان إحداث شرخ كبير فيها، من خلال تعميق سياسة التمييز، مثل إسكات "الحريديم" بميزانيات خاصة، كما جرت العادة على مدى 58 عاما، أو أن يتم استغلال أي أزمة سياسية قادمة للضغط من أجل تحييد الملف الاقتصادي ريثما يتم الخروج من الأزمة السياسية أو الأمنية، أيضا كما جرت العادة.

أسابيع من الفراغ السياسي

الأسابيع المقبلة على إسرائيل ستكون أسابيع الفراغ السياسي، إذ ستنشغل إسرائيل في تشكيلة الحكومة القادمة. وقليلة هي الحكومات التي تم تشكيلها في الفترة القانونية الأولى، 28 يوما، وغالبيتها احتاجت لفترة إضافية من 14 يوما، وهذا سيناريو شبه مؤكد على ضوء حالة التشرذم. ولكن سير المفاوضات، ومن ثم شكل توزيع الحقائب في الأحزاب المختلفة سيترك أثره على شكل عمل الكنيست في ولايته الجديدة، وسيبرز طبيعة الصراعات الشخصية، التي لها وزنها في الصراعات البرلمانية السياسية.

على ما يبدو فإنه لن يكون أمام الرئيس الإسرائيلي موشيه كتساف حتى مطلع الأسبوع القادم، إلا تكليف رئيس حزب "كديما"، ورئيس الحكومة بالوكالة، ايهود اولمرت، بتشكيل الحكومة القادمة، ورغم ما نشهده من مناورات حزبية وسياسية، إلا ان حكومة اولمرت ستظهر الى الملأ حتى منتصف الشهر القادم أيار/ مايو، وإن نجح قبل ذلك فإن هذا سيعتبر انتصارا له.

هناك الكثير من المهمات والأهداف، التي ستقف أمام اولمرت حين يبدأ بتشكيل الحكومة القادمة، ولكن باعتقادي فإن هدف اولمرت الأول سينصب في مكانته الشخصية، وهو الآن سيبدأ مرحلة رئيس حكومة فعلي وليس بالوكالة، وهو لم يُعرف في الحلبة السياسية، حتى قبل أشهر قليلة جدا، كشخصية رقم واحد، فهو اقرب ليكون شخصية ظل، ولهذا عليه السعي لتشكيل ائتلاف حكومي يساعده على فرض "هيبته" على الحكومة والائتلاف والشارع الإسرائيلي، ويكون قادرا على مسك زمام الأمور.

من المستبعد جدا ان يسمح انخراط كتل اليمين المتطرف في الحكومة لاولمرت بتسيير عمل حكومي متجانس، فأقطاب هذا اليمين هم الذين قادوا حملة المعارضة ضد رئيس الحكومة اريئيل شارون، وعملوا على تفكيك حكومته، وبدء مسار انهيارها والتوجه الى انتخابات مبكرة، وهذا جرى حين كانت قوة هذه الأحزاب 13 نائبا من أصل 120 (مدعومين من تكتل المتمردين في الليكود)، مقابل كتلة ليكود من 40 نائبا، أما اليوم فإن قوة اليمين البرلمانية ازدادت بأكثر من النصف، مقابل ضعف الحزب الأول "كديما" الذي لديه 29 نائبا.

وما يظهر حتى الآن هو أن الملف السياسي، أو بالأحرى البرنامج السياسي لحزب "كديما"، لن يكون عائقا أمام تشكيلة الحكومة، خاصة على ضوء التقارير التي تنشر في إسرائيل وتعلن ان برنامج "كديما" يحظى بدعم الإدارة الأميركية، كما أن السياسة الاقتصادية سيتم إيجاد صيغة ضبابية لها، تسمح بالتعايش المصطنع بين جميع الكتل المؤتلفة التي أغدقت على ناخبيها وعود "الثورة الاجتماعية".

إن الصراع الأكبر في تشكيل الحكومة القادمة سيتمحور حول توزيع الحقائب الوزارية بين الأحزاب، ومن ثم توزيع "الغنائم الوزارية" في داخل الأحزاب نفسها.

وهذا ما يضمن تفاعلا حزبيا شديدا في الأسابيع المقبلة، لا بدّ من أن نرافقه خطوة بخطوة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات