يشير المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف، في مقال أخير له حول دروس إحياء الذكرى الستين لتحرير معسكر الإبادة النازي في "أوشفيتس" (صحيفة "هآرتس"، أواخر كانون الثاني 2005)، إلى ما يمكن اعتباره عدم إحتراس قادة إسرائيل حيال الوقوع في الهاوية التي فتحها الوحش النازي، وذلك بتنائيهم عن الحرص على التشديد في المحافظة على الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا يبخل من هذه الناحية في تقديم الأمثلة على مترتبات عدم الإحتراس السالف، التي ينوء تحت وطأتها الفلسطينيون في إسرائيل وفي الضفة الغربية وقطاع غزة على حدّ سواء.
ويلمح سيغف، في ثنايا مقاله، إلى أنه إذا كان من الضروري استخلاص العبر من الهولوكوست، باعتباره "رمزًا عالميًا للشرّ المطلق"، فإن العبرة الأولى هي كيف يتعيّن أن لا تصبح الضحية جلادًا. وإن كان سيغف لا يذهب إلى حدّ المجاهرة بأن إسرائيل قامت أصلاً على خيانة هذه العبرة، فإن في استئنافه على جرائم الاحتلال "التي تعدّت كونها جزءًا من الحرب على الإرهاب"، كقوله، ما يوحي بأنها مستمرة في خيانة هذه العبرة.
بيد أن إسقاطات هذه الخيانة تنسحب كذلك على نسيج الحياة العامة داخل إسرائيل، إلى جهة مفاقمة مأزق الديمقراطية فيها. ومن ذلك ما لا تنفك العديد من الأبحاث تشير إليه، وهو إنخفاض الوعي الديمقراطي لدى الإسرائيليين. "وهناك بحث- يؤكد سيغف- يدل على أن الألمان نجحوا في تعليم أبناء الجيل الشاب في بلادهم الالتزام العميق بالأخلاق الإنسانية أكثر مما فعله الإسرائيليون".
لا شك أن سيغف يعني، ضمن ما يعنيه في شأن الأبحاث الدالة على إنخفاض الوعي الديمقراطي لدى الإسرائيليين عمومًا، نتائج البحث الذي نشره أخيرًا البروفيسوران إفرايم ياعر ودانيئيل بار- طال من جامعة تل أبيب. فقد أشار إلى أن الشبيبة في إسرائيل تؤيد الديمقراطية فقط من الناحية النظرية (9,5 بالمئة منهم فقط قالوا إن الديمقراطية تشكل في نظرهم القيمة الأكثر أهمية). وفيما قال 51 بالمئة إنه ينبغي حظر حق الإنتخاب إلى الكنيست عن المواطنين العرب في إسرائيل، قال 67 بالمئة إن في مقدرة "زعيم قوي" أن يصحّح الوضع أكثر من جميع القوانين المرعية. وعن هذه النتائج، التي تعكس مزيدًا من التطرّف في مواقف الشبيبة الإسرائيلية مقارنة مع بحث مماثل سابق أجري في 1998، قال الخبير التربوي د. نمرود ألوني إنها تنطوي عمليًا على خطر إنزلاق إسرائيل إلى "عقلية العالم الثالث".
ولا تزال إلى الآن تتردّد أصداء "مؤشر الديمقراطية 2004" الذي ركز، بصورة خاصة، على إستطلاع مواقف الشبيبة الإسرائيلية. ونتيجة لهذه المواقف التي انعكست في "المؤشر" ارتسمت ملامح عامة للشاب الإسرائيلي في صلبها أنه "إمتثالي ومطيع، يسير في التلم ولا يختلف كثيرًا عن جمهور الكبار". ومع أن الشبيبة الإسرائيلية أبدت مواقف اعتبرها القيمون على المؤشر "أكثر تقدمًا" من مواقف جيل الآباء، وتحديدًا من حيث مدى ثقتهم بالديمقراطية الإسرائيلية، إلا أنه في باطن الأمر لم تتجاوز مقاربة تلك الشبيبة لهذه الديمقراطية النظرة التي ترى أنها شكلية (رسمية) أكثر من كونها ماهية أو قيمية. "وهذا المفهوم الذي يشدّد على الإطار لا على الجوهر يضع علامات إستفهام حيال طابع الديمقراطية الإسرائيلية في المستقبل"، حسبما ورد في توكيد القيمين، في إلماح صريح إلى أن في ذلك ما يجعل الشبيبة في حلّ، بأنفسهم لأنفسهم، من ممارسة القيم الأصيلة التي تنطوي عليها الديمقراطية في التطبيق العملي، أولا ودائمًا.
البروفيسور آشر اريان، المسؤول عن "المؤشر"، قال إن تطلع الشبيبة إلى زعيم قوي وكذا تأييدها لرفض الخدمة (وهما جزء لافت من نتائج الإستطلاع) "يجب أن يُشعلا ضوءا أحمر. فالتطلع إلى زعيم قوي يشير إلى عدم الرضا من السياقات الديمقراطية القائمة. والجيل القادم بالتأكيد يعرب عن عدم رضاه من الوضع القائم" .
وتابع أن النتائج مقلقة أيضًا في مسألة رفض الخدمة (العسكرية) "حين تكون نسبة عالية جدًا تؤيد رفض تنفيذ الأوامر (بِشأن إخلاء مستوطنات)"، مؤكدًا أن "هذه معطيات مذهلة ومقلقة، معطيات خطيرة جدًا في مجتمع يرغب في البقاء. وإضافة إلى ذلك، يحتمل أن يكون أبناء الشبيبة يعربون عن هذا الموقف الآن، ولكن في الوضع الحقيقي، عندما يكونون جنودا ويتعين عليهم أن يقرروا إذا كانوا سيرفضون الأوامر، فإنهم سيتصرفون خلاف ذلك. كما يحتمل أن يكون هذا الموقف متعلقًا بسنّ المراهقة".
كما أكد أن ضوءًا أحمر يجب أن يُشعل أيضا بالنسبة للتفهم والتطرق للمساواة القائمة بين العرب واليهود في إسرائيل. "فإن بعض الشبيبة لا يفهمون أن الديمقراطية معناها مساواة الحقوق للجميع، وهم يتمكنون من العيش هنا وكأن الآخرين غير موجودين!".
غير أن مأزق الديمقراطية الإسرائيلية من خلال ذكرى الهولوكوست لا ينحصر فيما تقدّم فحسب، وإنما ينجم أيضًا عن العنصرية الشاطّة ضد العرب، التي تعتبرهم ضمن أشياء أخرى مخلوقات دونية، والتي تتجنّد لها المؤسسة الأكاديمية كذلك، وفقما تجلى ذلك في الآونة الأخيرة من خلال النموذجين التاليين:
الأول- في المحاكمة ضد القياديين الخمسة من "الحركة الإسلامية"، الذين اتهموا بتهم أمنية واقتصادية، استدعى الادعاء "شاهد خبير" لإبداء "بيان رأي" عن الأساس الأيديولوجي لنشاط الحركة الإسلامية هو البروفيسور رافي يسرائيلي، الذي قال إن العقلية العربية تتشكل من: "إحساس الضحية"، "لاسامية مريضة" و"ميل للعيش في عالم الأوهام"، وإن العرب يهملون النظافة في مدنهم وقراهم: "معظم القرى العربية أكثر قذارة، مادياً، هذه حقيقة". وكان "يسرائيلي" هو آخر شهود الادعاء في الملف.
وذكر في السياق أن أقواله عن العرب ليست "تعميماً يشمل كل شخص في كل وقت"، وهي ليست عنصرية بل "حقائق". ودافع عن التعبير الذي استخدمه في كتابه "إزعاجات صاخبة"، بالنسبة لنداءات المؤذنين في المدن المختلطة، وشرح في المحكمة أنه في الوقت الذي يقدم فيه محاضرته في الحرم الجامعي في جبل المكبر "يصرخون في القرية المجاورة، العيساوية، فيصل الصوت ويدخل الصف ويزعج". وعن التحذيرات التي كتبها من مغبة "حرب الرحم" التي يديرها عرب إسرائيل قال إن هذا "تعبير مصيب جداً، وهم الذين استخدموه"، ولكنه نفى أن يكون يقصد بالذات العرب حين حذّر في كتابه من وضع مستقبلي يتكاثر فيه المواطنون "أكثر بكثير من القطعان"!
الثاني- في جامعة حيفا أدلى أحد المحاضرين، دافيد بوكاعي، بتصريحات لوسائل إعلام إسرائيلية ألكترونية ومطبوعة اتهم العرب فيها بصفات سيئة معتبرا أنه "لا يمكن الاعتماد عليهم". وهاجم المحاضر التاريخ العربي وزعم أن العرب لم يقدموا شيئا للحضارة الإنسانية داعيا إلى "توجيه المسدسات إلى جباههم وإطلاق الرصاص عليهم والى هدم العمارات السكنية فوق رؤوسهم وتدميرهم".
وبحسب الشهادات التي جمعت من طلاب جامعيين فقد اعتاد بوكاعي التحريض المنفلت على العرب.
هنا بعض ما صدر عنه من توصيفات إطلاقية:
"الدم العربي مليء بالجرائم. وفي ظل وضعهم الرديء فقد تحولوا إلى إرهابيين. هذا تراث عندهم. الإرهابي الأول هو النبي محمد".
"العرب أغبياء ولم يقدموا شيئًا للإنسانية. هم الشعب الأكثر عنصرية ويتصرفون خارج بيوتهم عكس ما يتصرفون داخل بيوتهم، لذلك لا يمكن الوثوق بهم . يمكن أن يقولوا "بصير خير" ولكن لدى خروجك يطلقون عليك النار".
"المسلمون في زمن الفتوحات لم يأخذوا الأسرى بل قتلوا جميع الأسرى وأخذوا نساءهم كعشيقات وأولادهم كعبيد".
"كم عربي أخذ جائزة نوبل؟ فقط 6 أشخاص بينهم ياسر عرفات وانظروا كم يهودي حصل على جائزة نوبل. يبدو أن هناك شيئاً في الجينات".
"يجب إلقاء القبض على المطلوبين وإهانتهم أمام الكاميرات ووضع المسدس في رؤوسهم كي ترى عائلاتهم بأنهم جبناء".
"ما يهم العرب هو الجنس والكحول".
أما إسهام وضعية "حرية الصحافة" في تأجيج مأزق الديمقراطية فإنه يحتاج إلى وقفة أخرى تؤدي المهمة وتفي بالغرض.