اجتهد الإسرائيليون، من ساسة ومعلقين، ومن كتاب ومحللين، على مختلف أنواعهم ومشاربهم، كثيرًا جدًا في أن تظهر الحملة الضارية على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وهو على فراش مرضه ومباشرة بعد رحيله، في لبوس محدّد يوحي بأن في الأمر "تصفية لحسابات شخصية" قديمة- متجددة، في الإمكان عزوها إلى عملية "فصد الدم" الراهنة فحسب. وعلى رغم ذلك لم يكن في مقدرة هذا الاجتهاد، على ما فيه من نزعة شخصنة مفرطة في حدّتها، أن يضبّب الأهداف الحقيقية الكامنة خلف هذه الحملة المتصلة، والتي ليس أبسطها أن العداء لعرفات الشخص هو تعبير عن عداء راسخ لكل ما يمثله من طموحات الفلسطينيين، في جهة وأن الجانب الشخصي، الذي لا يمكن إسقاطه من الحسبان في بعض الحالات، هو مجرّد تفصيل مهم في منظومة متكاملة أكثر أهمية ودلالة، في أخرى.
ولعلّ المقالات، التي جمعناها في هذا الكتيب (*)، بعد اختيارها من سيل مقالات أخرى يصعب حصرها، تدلل على ذلك في أبعد من مستوى وصعيد.
بطبيعة الحال ليس في حوزتنا ما يكفي من أدوات التحليل العلمي، التي تسعف في استشفاف بواعث "النفوس الفاعلة" أو حتى الأبعاد النفسانية، العصابية، للجوانب المرتبطة بالتعبير عن المشاعر الشخصية البحتة المبثوثة في معظم هذه المقالات. وأقصد تلك التي تمحورت، في شبه إجماع، دون وازع مهني، سياسي أو حتى أخلاقي، حول نزعات لا تمت للسمات البشرية بصلة، كالشماتة والتشفي و"هيصة موته قبل أن يموت" (وبعد مماته)، بتعبير الصحفي جدعون ليفي. لكننا نملك أن نقرأ ونستقرىء "الرسائل السياسية" التي أريد تمريرها بقوة فوق السطور، وبينها أيضًا.
وأيًا تكن هذه "الرسائل" فإن في مكنتنا أن نستقطر منها إنطباعين متصلين:
* الأول: أن أكثر ما أزعج الإسرائيليين، بل وأقضّ مضاجعهم، في شخص الراحل الكبير هو رفضه المتواصل وإصراره المثابر على عدم مماشاة الإملاءات الإسرائيلية لعملية التسوية مع الفلسطينيين، خصوصًا بعد أن انطلقت في طريق المفاوضات السياسية، التي لم تكن مشقوقة من قبل أوسلو.
* الثاني: إختزال جميع السيناريوهات الفلسطينية المتوقعة بعد رحيل عرفات في سيناريو واحد ووحيد (يشكل السيناريو المشتهى إشتهاءً كاملاً من طرف إسرائيل) هو- إهالة التراب على حضور غيابه، وذلك من خلال محو إرثه السالف، الذي جاهر الأغلب في خلع توصيف "التركة" عليه، لناحية الإحالة، في اللاوعي إن لم يكن في الوعي التام، إلى شدة وطأته وإلى ضرورة التخلص منه مرة واحدة وإلى الأبد. وهو ما يعني أو يتعين أن يعني، على صلة بما تقدّم، مماشاة الإملاءات الاسرائيلية للتسوية من الآن فصاعدًا، من قبل القيادة الفلسطينية التي ستتولى إدارة الدفّة بعد رحيل عرفات.
وبدون مبالغة ينسحب هذان الانطباعان على الغالبية الساحقة من ردود فعل الساسة والمعلقين الإسرائيليين، من اليمين والوسط وحتى اليسار الصهيوني.
تأسيسًا على ذلك فإنه إذا ما نحينا جانبًا التعبيرات المباشرة عن المشاعر الخاصة، التي يظل لها سياقها، فمن شأن القراءة السياسية لردود الفعل هذه أن تعيد "إكتشاف" ياسر عرفات ونمط قيادته. كما أن من شأنها أن تجوهر مواقفه التي ثابر عليها حتى الرمق الأخير.
وبالعطف على كل ذلك ثمة حاجة لبعض التوكيدات:
1- عملية شيطنة الآخر، الفلسطيني أو العربي، الذي تحدّد منذ فترة في شخص الرئيس عرفات، ليست إختراعًا جديدًا كل الجدة في ممارسة التحريض والافتئات الإسرائيلية، بل هي إبتكار ضارب في القدم- إذا جاز التعبير- في ممارسة الحركة الصهيونية منذ بداياتها. هذه الممارسة صوّرت الإنسان العربي، لمجرّد كونه نبتة أصيلة في الوطن الذي طمعت في إغتصابه وفي تجريد أصحابه منه، في أبشع هيئة. ولذا فما من شيء أكثر "سهولة" و"خفة" في إسرائيل من العودة إلى هذا التصوير الشائه للفلسطيني كلما لزم الأمر. لا يغيّر في هذا إن كان عرفات "له يد مباركة" في السلام أم "له يد متضادة" في نقضه لأن الطرف الذي يحدّد "البركة"، و"السلام" أيضًا، وبالتالي يحدّد ما يتضاد معهما، هو إسرائيل. ولا ننسى أنه منذ اندلاع الإنتفاضة تجتاحنا دعاية إسرائيلية للحرب، تقطيع المفاهيم بشأنها نادرًا ما يختلف باختلاف أصحابها. مثل هذه الدعاية يكون جمهورها المستهدف (الإسرائيلي) كله آذان صاغية لسبب بسيط هو أن هذا الجمهور يتقن جيدًا تنميط شخصية الفلسطيني من أجل تدعيم "تصوره الذاتي" في الأساس.
"الحاجة إلى الإعلان عن وجود عدو (مناوب) نبعت أولاً وقبل كل شيء من عدة احتياجات ومتطلبات للمجتمع والزعامة في إسرائيل"، يؤكد الأستاذ الجامعي إيلي بوديه. ويضيف: هذا الأمر يتيح أولاً تعزيز تضامن الشعب الإسرائيلي في مواجهة ما ينظر إليه كعدو متربّص وخطر محدق. ويتيح ثانياً "فهماً" أفضل للحاضر الذي يتراءى كجزء من سياق تاريخي طويل، وربما حتمي، من الصراعات والحروب المفروضة على الشعب اليهودي. وهو ثالثاً وأخيراً يتيح التهرب من مواجهة المشكلات الحقيقية الماثلة أمام الدولة والمجتمع. في ظل هذا الوضع يغدو من السهل العودة إلى نغمة "لا يوجد شريك للحوار" (في الجانب الآخر...) والتي تحولت إلى مبدأ هام في سياسة إسرائيل الخارجية منذ قيام الدولة.
2- لم تنحصر الحملة على ياسر عرفات في أوساط اليمين أو المركز الإسرائيلي، بل تعدتها إلى أوساط اليسار الصهيوني، حسبما تعكس هذا بعض المقالات في الكتيب.
وفي خضم ذلك ظلّ القاسم المشترك المتواري لجميع هؤلاء منطلقًا، في قراءتنا، من استحصال كون "السلام"، بحسب مقاسه الإسرائيلي الراسخ، هو سلام فارغ من أي مضمون جوهري، من ناحية الفلسطينيين. ومثل هذا المضمون يتأتى فقط حين ينأى الواقع بنفسه أو حين ينأى به قائد مثل ياسر عرفات عن غاياته الإسرائيلية التقليدية، نحو سلام حقيقي قائم على العدل. وبمقدار ما إن "السلام" المذكور يناسب اليمين الإسرائيلي، موقفًا ورؤيا، فإنه غير منتف بتاتًا في رؤية اليسار الصهيوني- ذلك "اليسار" الذي سبق لباحث إسرائيلي ما أن أخذ عليه ما أسماه "مفهومه المسياني العلماني للسلام". فبرسم هذا المفهوم تغاضى اليسار الصهيوني عن حقيقة أن غالبية مركبات السلام منذ أوسلو بقيت في الأدراج دون تطبيق عملي، وأن الاحتلال استمر كما لو أنه لم يحدث شيء يذكر، وأن أية مستوطنة كولونيالية إسرائيلية لم تتحرك قيد أنملة من مكانها، وأن العنف الفلسطيني، نتيجة لذلك، لم يتوقف. وهكذا كان الواقع الإسرائيلي نفسه عقبة في الطريق الى "الشرق الأوسط الجديد" والى الثمار الكبيرة التي وعد بها. وهذا الواقع كان، في الوقت ذاته، العقبة أمام الوصول إلى الشوط الأخير.
ويعتقد الباحث نفسه أن المسؤولية عن المناخ المسياني القائل به، الذي تطور بعد (إتفاق) أوسلو، يتحملها مباشرة شمعون بيريس، الرئيس الحالي لحزب "العمل" (نشر بيريس بعد رحيل عرفات مقالاً غسل فيه يديه من المسؤولية عن إخفاق عملية التسوية حين وصف الراحل بأنه فتح أبواب التاريخ لكنه لم يمض إلى "الشوط الأخير"، وهو "التسليم بالواقع كما هو") ويوسي بيلين (هو أيضًا نشر مقالا اعتبر فيه، بين السطور، الرئيس عرفات مسؤولا بكيفية ما عن نجاح شارون في تكريس مقولة "اللاشريك"، إسرائيليًا ودوليًا). وهو يؤكد أن بيريس هو ذلك الذي بلور، بصورة عامدة، وعيًا إستحواذيًا إلى ناحية أن "السلام أصبح قائمًا". وقد ذهب بيلين في عقبيه. ويضيف أن المسيانية، التي تتطلب مسيحًا كاريزميًا، هي جزء من التفكير الديني. أما المسيانية العلمانية فإنها لا تستوجب مسيحًا شخصانيًا، اذ أن المسيح في هذه الحالة هو السلام. وأعاد إلى الأذهان، في هذا الخصوص، إحدى المقابلات مع شمعون بيريس، حيث تحدث في سياقها عن الحاجة والضرورة إلى الدفاع عن جسد السلام. "كما لو أن السلام هو شخصية بشرية تتجول في الشوارع"، قال مستهجنًا.
3- في شأن السيناريو المشتهى إسرائيليًا بعد رحيل عرفات بلغ الأمر، لدى أحد الساسة الاسرائيليين الأكاديميين، البروفيسور شلومو أفنيري، ولدى غيره كذلك، حدّ تشبيه عرفات بـ..هتلر و"التمني" على الفلسطينيين أن "يتحرروا من إرثه حسبما أفلح الشعب الألماني في التحرر من إرث هتلر"! ("يديعوت أحرونوت"، 14/11/2004). ويشيد أفنيري، في سياق آخر، بالمقارنة التي عقدها يوسي بيلين، ضمن مقابلة مع صحيفة "لوموند" الفرنسية، ما بين عرفات والزعيم الكوبي فيدل كاسترو، لجهة أن كليهما وعد شعبه بالخلاص لكنه "منحه نظامًا رمزه كامن في البزة العسكرية، التي لم يقدر أي منهما على خلعها حتى ولو للحظة واحدة".
وهكذا فحتى بزة عرفات العسكرية لم تسلم من ردود الفعل الإسرائيلية الحاقدة على هذا القائد الوطني والرمز التاريخي الكبير، كما أشار إلى ذلك ردّ فعل إستثنائي صادر عن دورون روزنبلوم في "هآرتس" (12/11/2004).
وفيما يبدي المعلق ذاته استفظاعه لهذا الأمر، فهو يلفت الأنظار إلى أن من يسكن في بيت من زجاج من الأجدر به ألا يرمي الآخرين بحجارته، فمعظم أولئك (من الإسرائيليين) الذين أشاروا باستعلاء إلى "العسكرية" الكامنة في شخص عرفات وفي أدائه القيادي، لم ينتبهوا إلى أنهم هم أنفسهم يرتدون البزة العسكرية، وإذا لم تكن بزة مادية يمكن لمسها فهي بزة ذهنية، بدءًا من "أمان"- الاستخبارات العسكرية- وسائر عناصر المخابرات مرورًا بالمعارضة الرئيسية وحتى رئيس الحكومة نفسه. ويضيف: ربما كانت البزات العسكرية للقيادة الإسرائيلية أكثر هندامًا، أو تم إستبدالها بأخرى مدنية، ولكن هذه القيادة لم تتجاوز القوة العسكرية في نضجها ولم تكف للحظة عن التفكير بمصطلحات أمنية تجاه القضية الفلسطينية و"تجاه مسألة وجودنا عامة".
كما يؤكد أنه عما قريب سيتضح أيضًا أنه يوجد تحت عباءة عرفات العسكرية صف من الشخصيات التي تتحدث بطلاقة وذات مواهب دبلوماسية مؤثرة ومن الممكن أن تجنّد تأييد العالم بسهولة بل وأن تطرح أجندة أخرى، لكن في موازاة ذلك فإن إسرائيل باقية، حتى إشعار آخر، مع الضابط إيهود باراك كبديل للضابط أريئيل شارون، ومع الضابط متان فيلنائي كبديل للضابط باراك، ومع الضابط عمرام متسناع كخليفة ضائع لباراك، ومع الضابط عامي أيالون كـ"مضاد مدني" لكل هؤلاء.
أخيرًا- لقد تمنى الإسرائيليون غياب عرفات و"تنفسوا الصعداء" مع غيابه، حسبما أكد أكثر من سياسي ومعلق. بيد أن حضور هذا الغياب في المشهد الإسرائيلي كان من القوة والمهابة بما جعل الكثيرين يأخذون جانب التحذير المتكرر تجاه الحكومة اليمينية أو خلافها من مغبة الوقوع في وهم قبول القيادة الفلسطينية الجديدة بشروط أريئيل شارون لاستئناف المسيرة السلمية، مؤكدين أن الكرة الآن في الملعب الإسرائيلي أساساً، وأنه من غير الجائز مطالبة الفلسطينيين بـ"وقف الارهاب" من دون أن تقلع الحكومة الحالية عن تعنتها، تمامًا كما كانت الحال أيام عرفات كذلك.
ودون الدخول في عناصر هذا التحذير، فإن العديد من المعلقين الإسرائيليين يرون أنه من السابق لأوانه، بعد رحيل عرفات، الحديث عن عهد جديد وأن بلوغ عهد كهذا يتطلب من إسرائيل تعاوناً مع الفلسطينيين والأميركيين والأوروبيين وعدم تفويت هدنة أو الوقوع في فخ الوهم الذاتي بأن فجراً قد بزغ. ويتابع بعض هؤلاء أن التوقعات الإسرائيلية بحدوث تغيير جوهري بعد موت عرفات ليس سوى ضرب من السذاجة لأن القيادة الجديدة لن تغيّر حتى حرفاً واحداً من إرث عرفات، بل ستتمسك بكل الأهداف الوطنية التي حددها، وربما تفعل ذلك بقوة أكبر وإصرار أشد حزمًا.
(*) "حضور الغياب: ياسر عرفات بأقلام إسرائيلية". صدر أخيرًا عن مركز "مدار"- رام الله