المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

اضطرت إسرائيل للاعتراف بأن نجاح الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) في التوصل إلى التهدئة السائدة الآن في قطاع غزة "شكل مفاجأة لها". وأعلن أبو مازن في مقابلة مع التلفزيون الفلسطيني أن جميع فصائل العمل الوطني الفلسطيني تحلت بالمسؤولية العالية وتسعى إلى وضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني. ومع ذلك شددت الفصائل الفلسطينية على أن التهدئة القائمة مشروطة بتراجع إسرائيل عن عدوانها واللجوء إلى التهدئة أيضا.

وقد أكّد ابو مازن في حديث مع الفضائية الفلسطينية على أن الحوار الوطني ليس حديثاً وأنه قاد منذ أكثر من سنتين إلى هدنة. وشدد على أن الحوار الوطني الجاري الآن تقدم بنسبة عالية جداً، وأن الخلافات تقلصت إلى حد كبير. وأكد أنه "لا بد أن نصل في الوقت القريب العاجل إلى اتفاق".
وأوضح أن "الكرة ستكون في الملعب الإسرائيلي، عندما نقوم بالتزاماتنا المتفق عليها في إطار خطة خريطة الطريق، وأن على الإسرائيليين أن يتوقفوا عن عملياتهم العدوانية ضد شعبنا الفلسطيني". وقال إن هناك عدة قضايا حساسة يجب التوصل إلى حلول لها، في مقدمتها قضية المبعدين والأسرى، وخروج القوات الإسرائيلية من المدن والالتزام ببنود خريطة الطريق.

وكان أبو مازن قد طلب من حماس والجهاد الإسلامي أن تعمل على ضبط عناصرها وعدم توفير الذرائع لإسرائيل للقيام بعمليات واسعة ضد الفلسطينيين. وقال لهم إنه لا يريد منهم أن يعلنوا هدنة أو الاعتراف بأي اتفاق ولكنه يريد فقط تفاهما يضمن عدم اختلاف الفلسطينيين في ما بينهم.
وربما لهذا السبب يكثر القادة الإسرائيليون من الحديث عن الهدوء "الهش". ويقولون إن الهدوء الحالي ينبع من رغبة إسرائيل في عدم الظهور بمظهر من يريد إفشال مساعي أبو مازن. ومع ذلك يعتقد الكثيرون أن الهدوء مؤقت لأن إسرائيل ليست مستعدة لدفع الثمن السياسي لهذا الهدوء.

وقد أشار الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الجنرال عاموس مالكا إلى أن الهدوء الحالي يعبر عن اجتماع مصالح لإسرائيل والسلطة والمنظمات الفلسطينية، وقال إن ذلك يتضمن نقاط ربح وخسارة لكل هذه الأطراف. فإسرائيل والسلطة والمنظمات الفلسطينية تربح على المدى القصير من التهدئة. حيث تدعي إسرائيل الآن أن التهدئة نجمت عن قوة التهديد الذي أطلقته باجتياح قطاع غزة. والسلطة الفلسطينية بحاجة إلى التهدئة لإعادة بناء قوتها. كما أن حماس والفصائل الأخرى تشعر أنها بحاجة إلى إعادة تنظيم صفوفها إضافة إلى رغبتها في رفع الضغط عن الفلسطينيين.

ولكن مالكا يرى أن إسرائيل تخسر في هذه التهدئة لأنها لا تقضي على ما تسميه بالإرهاب وإنما تحفظه من خلال وقف النار معه. كما أن ذلك يقود إلى ضغط دولي على إسرائيل أولا من أجل أن تضبط نفسها وبعد ذلك من أجل تقديم تنازلات سياسية. كما أن السلطة الفلسطينية من وجهة نظره تخسر المعركة أيضا لأنها لم تقض على الفصائل التي تتحدى قوتها. ويرى أن حماس والجهاد قد يخسرون بعض قوتهم في الانتخابات المقبلة جراء هذا التفاهم.

وكتب المحلل السياسي لصحيفة "هآرتس" ألوف بن أن أبا مازن فاجأ القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل في نشاطه السريع لوقف الصواريخ والقذائف في قطاع غزة. ونقل عن مصادر سياسية وأمنية إسرائيلية قولها إن أبا مازن "عمل ما فاق توقعاتنا". وكتب أن الإسرائيليين يأملون أن تستكمل السلطة الفلسطينية نشر قواتها في جنوبي القطاع أيضا، وأن يبدأ التنسيق الأمني مع إسرائيل في الضفة الغربية، كخطوة أولى لتسلم المسؤولية عن المدن الفلسطينية.

إلى ذلك، ذكرت الإذاعة الإسرائيلية ان دوف فايسغلاس، مستشار شارون، سيتوجه الأسبوع المقبل الى واشنطن للتحضير لزيارة يقوم بها رئيس الحكومة الى الولايات المتحدة في أواخر آذار أو مطلع نيسان. وسيلتقي فايسغلاس وزيرة الخارجية الأميركية الجديدة كونداليسا رايس. وتعود آخر زيارة لشارون الى البيت الأبيض الى نيسان 2004.

الغاية: تهدئة الأزمة الداخلية في اليمين الإسرائيلي

جاءت التطورات السالفة بعد أسبوع من إعلان أريئيل شارون عن تجميد الاتصالات مع رئيس السلطة الفلسطينية المنتخب محمود عباس (أبو مازن)، قبل يوم واحد من تولي الأخير مهام منصبه. ويصعب تخيّل إقدام شارون على ذلك لولا إحساسه بمأزق شديد آخر. ومن البديهي تقدير أن شارون كان سيعمل في كل الأحوال للرد على عملية كارني بطريقة أخرى. ففي نظر الجمهور والحلبة السياسية الإسرائيلية المرتكزة على نزعة الانتقام، كان يكفي إعلان إغلاق المعابر وتنفيذ عدد من الاقتحامات وتسييل دماء عدد كبير من الفلسطينيين سواء في اجتياحات أو اغتيالات. ولكن شارون بادر الى إعلان "قطع" العلاقات مع أبو مازن.

ومن الواضح هنا أن هذا الإعلان ليس ردا انتقاميا ولا يهدف الى تهدئة "خواطر" الجمهور الإسرائيلي، بل إنه رد مدروس اتخذ بشكل هادئ ويعبّر عن رغبة دفينة. فالصورة التي دارت فيها الانتخابات الفلسطينية، وانعدام النوازع نحو الاقتتال الداخلي، والسعي لحوار الوطني تركت أثرا إيجابيا على الأداء الفلسطيني داخليا وخارجيا. وخشي شارون، على وجه الخصوص، أن يقود ذلك، إضافة الى التسامح الدولي مع أبو مازن، إلى إعادة قلب الصورة: ضغط العالم على إسرائيل للاقتراب من الفلسطينيين لا العكس.

وإذا كان هذا هاجس شارون منذ وقت طويل، بصرف النظر عن هوية الرئيس الفلسطيني، فإن هذا الهاجس أقوى في ظل أخطر انقسامات في الحلبة السياسية الإسرائيلية. فشارون الذي لم يعرف نفسه أبدا سوى في الجانب الهجومي الأقصوي في الأداء الإسرائيلي اضطر، كرئيس للحكومة، إلى أن يموضع نفسه في الوسط للمناورة بين الضغوط الخارجية والمتطلبات الداخلية.

غير أن هذه المناورة كادت أن تنتهي بالتمرد الذي نفذته قوى اليمين خارج الليكود أولاً ضده، ثم داخل الليكود. وهكذا شهد أكبر "إذلال" في تاريخه عندما اضطر، لنيل الثقة لحكومته، إلى القبول بدعم نواب حركة "ميرتس" وامتناع اثنين من النواب العرب عن التصويت.

وكان واضحا أن التمرد على شارون في اليمين، و"فسحة الأمل" التي منحوها له في التصويت على القراءة الأولى للميزانية الأسبوع قبل الماضي لعبا الدور الأكبر في موقفه من الاتصالات مع أبو مازن. فهو يعرف أن حزب العمل الذي خرج من بيداء المعارضة الى "نعيم" السلطة لا يرغب سريعا في العودة الى الصحراء، مثلما لا يرغب في تقديم موعد الانتخابات، ولن يهتز له جفن من موقف "متصلب" كهذا ضد أبي مازن. وصحيح أن زعيم حزب العمل شمعون بيريس تخلى عن امتيازات الألقاب والوزارات واكتفى بوظيفة "تقديم الدعم" للشعب الفلسطيني عبر تنفيذ خطط التعاون الدولي ذات الصلة بخطة الفصل، إلا أنه لا يريد التخلي عن هذه الوظيفة.

كما أن حركة "ياحد" التي رأت في تنفيذ خطة الفصل برنامجا سياسيا يستحق أن تبتلع من أجله كل ما قالته عن شارون، وقدمت له الدعم، لا يسعها الآن بعد كل "الشجار" الداخلي أن تتراجع. كذلك فإن عضوي القائمة العربية للتغيير لن يقلبا الدنيا رأسا على عقب نتيجة ما جرى. لذلك يبدو إعلان شارون موجها على وجه الخصوص الى اليمين عموما، والى حركة شاس ومتمردي الليكود على وجه الخصوص.

لقد أراد أن يقول لليمين إن عليه أن لا يتوقع الكثير من دخول حزب العمل الى الحكومة، بل إن هذا الدخول لن يغير شيئا من السلوك الإسرائيلي تجاه أبو مازن. وإذا كان هناك من يعتقد أن الأمور بانتخاب أبو مازن قد اتجهت وجهة أخرى فإنه مخطئ. ليس هناك أي تخفيض في الأسعار من أجل أبو مازن، بل على العكس، قد يكون الوضع الآن أكثر خطورة، لأن أبو مازن، في الواقع، لا يقل خطورة عن عرفات.

لقد أراد شارون من وراء إعلان تجميد العلاقات مع السلطة الفلسطينية إعادة كسب اليمين الإسرائيلي من خلال تقديم عدة إشارات له. وأولى هذه الشارات القول بأن أبو مازن لا يختلف عن أبو عمار وبالتالي فإن التعامل سيكون بالطريقة ذاتها. وهذا يعني أن "نجاح" شارون في عزل عرفات عن العالم الخارجي وكسب التأييد الأميركي لذلك يمكن أن يتكرر. ولكن الإشارة الثانية تقول إن قضية التقدم بالعملية السياسية أو حتى بتنفيذ خطة الفصل بالتوافق لم تعد قضية راهنة، ويمكن لها أن تتأخر شهورا طويلة. وفي ذلك أكثر من تلميح من جانب شارون الى أنه يفهم ما يفكر فيه وزراؤه وأعضاء الكنيست من حزبه الذين اضطروا لتأييده وهم يعرفون صعوبة تحقيق خطة الفصل.

ان حالة شارون الائتلافية والحزبية التي تمثلت في أنه يقود عمليا ائتلاف أقلية انقسمت على نفسها وهي مؤهلة لمزيد من الانقسام في المستقبل، تستدعي منه إعادة جدولة القضايا: الوحدة الداخلية بدل الانقسام. فمن دون هذه الوحدة في الليكود سيتعذر عليه لا قيادة الليكود فقط وإنما كذلك قيادة الحكومة. وليس هناك ما يشهد على أن شارون يعتبر خطة الفصل غاية بحد ذاتها، إذ انه يرى فيها مجرد وسيلة. ولهذا السبب وشارون يقف على أبواب مناقشة تنفيذ مراحل خطة الفصل في الحكومة يحتاج للتراجع أو التباطؤ حالة حرب تبريرية.

فهذه الحرب التي أعلنها عمليا تشكل بوابة إعادة التهدئة الداخلية وحرمان الفلسطينيين من فرصة التوصل بأنفسهم الى اتفاق تهدئة داخلي، إذ إن شارون لا يريد في كل الأحوال اتفاقا فلسطينيا وشروخا إسرائيلية، بل يريد العكس: ليتقاتل الفلسطينيون وليتفرج الإسرائيليون. أما خطة الفصل فيمكن أن تنتظر، في البداية شهورا ثم سنين. وليس صدفة أن الجيش الإسرائيلي بات يخطط لأحزمة أمنية حول المستوطنات في قطاع غزة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات