ثمة فارق كبير بين قرارات مختلف الهيئات والمؤسسات الدولية وقرار المحكمة الدولية في لاهاي بشأن الجدار الفاصل. فجميع الهيئات، من دون استثناء تقريبا، تقوم على مبدأ التمثيل. ولكن المحكمة الدولية تقوم على مبدأ الكفاءة المهنية. والى وقت قريب لم يكن هناك من يرتاب في أن قرارات هذه المحكمة يمكن أن تكون سياسية الدوافع. ولكن الآن، وبعد القرار الذي يدين كل السلوكيات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا يجد الإسرائيليون أمامهم من وسيلة لاتهام هذه المحكمة إلا بادعاء دوافعها السياسية.
والواقع أنه لا أحد يمكنه وصم المحكمة الدولية بالأغراض السياسية إلا إن كان مغرضاً أو جاهلاً بل إنه لا يستطيع أحد، بمن في ذلك الإسرائيليون، إلا أن يعثر على أرضية مشتركة بين قراري المحكمة الدولية ومحكمة العدل الإسرائيلية العليا. وفي جميع نقاط هذه الأرضية المشتركة يصعب على أحد اتهام القضاة الإسرائيليين بخدمة أغراض معادية لإسرائيل عندما رفضوا ثلاثة أرباع مسار الجدار الذي قدمت بشأنه التماسات حول القدس. وحتى بعد صدور قرار المحكمة الدولية أمرت المحكمة العليا الإسرائيلية بوقف بناء الجدار في منطقتي دير بلوط ورافات شمالي القدس. ومن غير المستبعد أن تأمر المحكمة الإسرائيلية مرة أخرى بوقف بناء الجدار أو إزالته في مناطق مقررة أخرى. ورغم ذلك هناك من يعتقد أن قرارات المحكمة الإسرائيلية توفر لحكومة شارون فرصة التراجع الجزئي عن خطأها الجسيم بإقرار مسار للجدار لا يمكن وصفه إلا بالتوسعي.
وإذا كان هناك من فارق بين الموقفين الصادرين عن المحكمتين الدولية والإسرائيلية، فإنه الفارق السياسي الواضح. فالمحكمة الإسرائيلية، بوصفها جزءاً من منظومة قامت أصلاً على ظلم الفلسطينيين وإبعادهم عن أرضهم، عمدت طوال تاريخها الى انتهاج واحدة من قاعدتين: غض الطرف عن الانتهاك المتواصل للقانون الدولي، أو محاولة تقييد هذا الانتهاك من ناحية أو البحث في إيجاد نوع من التوازن بين الانتهاك والالتزام. وهكذا وفرت المحكمة لإسرائيل طوال تاريخها فرصة التملص من القانون الدولي بشتى الوسائل، سواء من خلال اختراع معايير وثغرات قانونية كالتعامل مع الأرض المحتلة ك"مناطق مدارة" أو تسويغ الاستيطان بدواع أمنية أو حتى ادعاء أن الأراضي الفلسطينية "مختلف بشأنها".
ويبدو أن الإسرائيليين أقنعوا أنفسهم بأن المحكمة الإسرائيلية العليا التي أجازت الاحتلال، وسوّغت الاستيطان وشرعت الإبعاد والتعذيب، وقبلت بعدم تنفيذ قراراتها باسم الأمن، هي عنوان العدالة. وجزموا بأن لا عدالة فوق هذه العدالة وأن كل اختلاف "قانوني" من أي جهة أخرى في العالم يعني إدخال السياسة في القانون. ولذلك، ربما، كانت صدمة الإسرائيليين كبيرة لأن المحكمة الدولية لم تتوقف عند الحدود التي رسمتها العدالة الإسرائيلي لنفسها وقررت أن هناك عدالة أخرى.
والواقع أن القانونيين الإسرائيليين لم يشعروا بالمفاجأة ذاتها التي شعر بها الساسة الإسرائيليون من قرار المحكمة الدولية. إذ يعرف هؤلاء مقدار الضغط الذي مورس عليهم طوال أكثر من خمسين سنة لتطويع العدالة والقانون لمصلحة التوسع والعدوانية الصهيونية. وهكذا فإن قراراً متكرراً للمحكمة العليا الإسرائيلية بإعادة أهالي قريتي إقرث وبرعم الى أراضيهم بقي منذ خمسين سنة ينتظر التنفيذ. ولكن "الأمن"، وهو البقرة المقدسة في إسرائيل، يتجاوز العدل ويتفوق عليه.
وليس صدفة أنه باسم هذه البقرة المقدسة ذاتها يجري الحديث اليوم عن اتهام المحكمة الدولية بالأغراض السياسية. وينسى هؤلاء، في حمى سعيهم لدفع التهمة عنهم، أن القاضي الأميركي توماس بورجنتال الذي اعترض على القرار لم يعترض على شرعية المحكمة في بحث الجدار ولم يعترض على أن الجدار انتهاك للشرعية الدولية ولكنه فقط طالب بأخذ حجة إسرائيل الأمنية بالحسبان في صياغة القرار النهائي.
ومع أن بورجنتال يهودي أميركي ومن أعضاء إدارة متحف "الكارثة النازية" في واشنطن إلا أن أحدا لم يقف ليقول إن موقفه سياسي. وفي كل الأحوال كان موقفه مجرد موقف أقلية ضئيلة في رؤيتها للقانون الدولي الذي يمكن تفسيره بشكل ضيق وواسع حسب المقتضيات. ومن الجائز القول إن موقف بورجنتال كرّس القاعدة باختلافه معها وهي أن إسرائيل انتهكت طوال فترة احتلالها الكثير من القوانين والمعاهدات والأعراف الدولية.
ولهذا السبب لم تكتف المحكمة بإطلاق الإدانة وإنما حددت الوجهة للأسرة الدولية عموما عندما قررت أن على إسرائيل تفكيك الجدار وتقديم التعويضات للفلسطينيين والتزام إسرائيل بالقوانين والأعراف الدولية. وطلبت المحكمة أيضا، في سابقة هامة، من جميع الدول عدم الاعتراف بالتغييرات التي تفرضها إسرائيل على واقع الأراضي المحتلة بما فيها التغييرات في شرقي القدس.
ورغم كل ما أعلنته إسرائيل من رفض للقرار الدولي وسعي لمواجهته فإن القرار يخلق، حتى لدى القضاء الإسرائيلي ذاته، فرصة لإعادة التفكير بطريقة تعامله "المغرض" والسياسي مع تنفيذ القانون. ومع أن الفارق كبير اليوم بين القضاء الإسرائيلي في عالم منفتح والقضاء الإسرائيلي قبل ثلاثين أو أربعين سنة، فإن قرار المحكمة الدولية يدفع إسرائيل بعيداً عن الاتهامات التي تطلقها الى إعادة النظر ليس فقط في مسار الجدار وإنما في تصرفاتها في الأراضي المحتلة، خاصة إن وجدت أن هناك قوى عربية ودولية تسعى فعلاً للاستفادة من القرار.