اعتبر الوزير الاسرائيلي السابق دان مريدور، أحد الأقطاب السابقين في حزب "الليكود" وحزب "المركز" المنحل، في سياقة المقابلة الخاصة التي أجريناها معه لملحق "المشهد الاسرائيلي" (إقرأ نصها الكامل في مكان آخر)، أن المجتمع الاسرائيلي يشهد أخيرًا "ثورة" وصفها بأنها "كبيرة جدًا" في كل ما يتعلق بمفهوم "أرض اسرائيل الكاملة". وفي قراءته المخصوصة فإن ذلك يفارق الرأي القائل بأن هذا المجتمع ينزاح أكثر فأكثر نحو اليمين، على رغم موافقته على أن الأحزاب الاسرائيلية نفسها تتجه عمومًا نحو مواقف أشد يمينية فيما يتعلق بحل الصراع.
وأضاف شارحًا أنه فور صعود بنيامين نتنياهو للحكم العام 1996 صرح بأنه سيحترم اتفاقيات اوسلو على أساس التبادلية. وهذا ينطوي، في رأي مريدور، على تغيير درامي بالنسبة لمواقف حزب "الليكود" التقليدية، لأن تصريح نتنياهو يعني انه في نهاية المطاف "لن تكون هناك ارض اسرائيل الكاملة". وتطوّر هذا الى ان "وصلنا إلى شارون المستعد اليوم للتنازل عن قطاع غزة وبعض أجزاء من الضفة الغربية، وحتى بدون اتفاق".
بيد أن إصرار مريدور على تسويغ "الثورة" التي يقول بها، أكثر شيء، بالعامل الديمغرافي وتطورات الوقائع الميدانية المرتبطة بهذا العامل، ليس قبل توكيد "إيمانه" حقيقةً بأن هذه البلاد "تتبع لشعب اسرائيل"، يوجبنا أن نقرأ أقواله في سياقها الإسرائيلي الذي يفسر، بكيفية ما، "خطة الانفصال" الأحادية في الآن نفسه. وأقصد ذلك السياق الذي يعيد إلى الأذهان مسألة ضوابط العلاقة التقليدية، في الممارسة الصهيونية، بين الدمغرافيا والجغرافيا والتي كان جوهرها، في العمق، ما اصطلحنا على تسميته بـ "حوسلة الجغرافيا" (أي تحويلها الى وسيلة) لخدمة غايات "الدمغرافيا". وقد سبق أن توقفنا عند هذا الموضوع في أكثر من مقام، بما يعفينا من عناء العودة إلى التفاصيل، سوى تفصيل واحد لا يجوز القفز عنه هو أنه غالبًا ما كان هذا الجوهر يتبدى في كامل عريه محايثًا لسيرورات "تقسيم الأرض" (الكاملة).
ما يقوله مريدور ليس جديدًا الجدة كلها، وقد سبقه إلى ذلك مثالاً "زميل" آخر من التيار نفسه في اليمين الاسرائيلي التقليدي المتمثل في "الليكود" هو الوزير إيهود أولمرت، داعية الانسحابات الأحادية الجانب، مع ذلك فقد ينطوي على تفاصيل مهمة، بل ويمكن القول إنها مهمة جدًا، في المشهد الاسرائيلي تستدعي إلتفاتنا نحوها وتمحيصنا لها بتؤدة، غير أنها لا تنوب في الأحوال جميعًا عن مواجهة حقيقة ساطعة متوارية خلفها مؤداها أنه بقطع النظر عن جميع تلك التفاصيل فإن هناك شبه إجماع إسرائيلي، ليس من قبيل المغامرة القول إنه ذات اليمين وذات اليسار، أصبح متشكلاً حول شكل تسوية الحل الدائم للنزاع الفلسطيني- الاسرائيلي ومحتواها . ومهما تكن حيثيات شبه الإجماع هذا فإن ما يميزه أنه متجوهر تحديدًا في نقطتين متصلتين: الأولى، رفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين، بتسويغات ظاهرها العامل الديمغرافي. والنقطة الثانية، رفض العودة إلى حدود حزيران 1967، ما يعني السعي المحموم إلى شمل كتل إستيطانية برمتها ضمن الحدود النهائية للكيان الاسرائيلي، وفقما سيكون منصوصًا عليه في التسوية المزمعة.
ولئن كان هذا الكلام مكرورًا بعض الشيء فإن ما يستحثني على الإعادة، وإن كنت أعتقد بأن الجهود السابقة غير مقدّر لها أن تضيع هباء، هو أننا مطالبون على الدوام بعدم التلهي عن الأسباب بالنتائج.
ومن هذه النتائج، الآن وهنا، أن ثمة صراعًا على "البرنامج السياسي"، إذا كان جائزًا إعتبار خطة "فك الارتباط" أو "الانفصال" برنامجًا سياسيًا، داخل "الليكود" ذاته في جهة، وفي أخرى هناك صراع بين أوساط في "الليكود" وبين أحزاب اليمين المتطرف، أحزاب "أرض إسرائيل الكاملة". هذا الصراع أجمله وزير السياحة الاسرائيلي السابق وأحد أقطاب حزب "الإتحاد الوطني"، بيني ألون، بقوله إنه صراع بين أصحاب "النزعة الأمنية" (بزعامة أريئيل شارون نفسه) وبين أصحاب "النزعة العقائدية"، دون أن يعني ذلك، في العمق، إسقاط الصبغة العقائدية الصهيونية عن أصحاب النزعة الأولى. غير أن الصراعين منحصران في أمور يمكن أن تحيل إلى تناقضات داخل صفوف الجماعة ("القبيلة") الواحدة ولا تحمل تناقضات تهدّد وحدة موقف هذه الجماعة في القضايا الرئيسية.
وفي ضوء التطورات الأخيرة التي ترتبت على ما تقدّم من صراعات (وفي طليعتها خسارة شارون في الاستفتاء على خطة "فك الارتباط" بين صفوف المنتسبين إلى "الليكود"، وخسارته في مؤتمر "الليكود" حيال مسعاه لتوسيع قاعدة حكومته الآيلة إلى السقوط، لجهة ضم حزب "العمل") يطرح السؤال: هل يشكّل ما هو حاصل إرتفاعًا في منسوب نفوذ أصحاب النزعة الثانية، على حساب إنخفاض نفوذ أصحاب النزعة الأولى في عملية إتخاذ القرار الاسرائيلي؟ ربما. هذا ما ستبديه الأيام المقبلة بوضوح أكبر، خصوصًا مع قرب استئناف الكنيست لدوراتها بعد إجازة الأعياد اليهودية الأخيرة. ولقد أصاب أحد المعلقين كبد الحقيقة حين قال "إن شارون اليوم يجد أمامه ليكودًا لا يعرفه". وربما أن الليكود، الذي أقيم ونشأ على أنه حزب وحركة علمانية قومية، يتحول بسرعة إلى حركة قومية دينية بفعل دور المستوطنين فيه. وهذا ما دفع بعض المعلقين الإسرائيليين إلى الشروع في الحديث عن ليكود أشد تطرفًا. وربما لهذا السبب سبق أن قالت الوزيرة المقربة من شارون، تسيبي ليفني، إن الليكود وقع "في قبضة أياد معادية".
في أوج النضال ضد الإنسحاب من سيناء، في 1981-1982، نشر الحاخام إيلي سدان (أحد منظري الصهيونية الدينية) مقالاً تحت عنوان "لنؤسس من جديد دولة اليهود". وقد رفض "سدان" بصريح العبارة الفهم الصهيوني التقليدي، وقال إن هذا الفهم يرى في أرض إسرائيل "ملجأ أمنياً فقط" ولايرى فيها "فرضاً أو هدفًا دينيًا".
وقبل حوالي عشر سنوات كتب منظّر آخر من التيار نفسه في جريدة المستوطنين "نكوداه" (بؤرة) أن "التعاون مع الصهيونية العلمانية (من طرف الصهيونية الدينية) أفلح في الاستمرار طالما تبنت الصهيونية العلمانية بصورة واضحة فكرة الوطنية اليهودية. وعندما اتضح أن دولة إسرائيل ليست إلا دولة علمانية ديمقراطية لا يوجد لليهودية مكان في سياستها، فإن ذلك شكل خيانة لجذور الحياة اليهودية حتى وإن كان ذلك من قبل من يتحدثون العبرية".
على هذه الخلفية الأيديولوجية ارتفع مع مرور السنين أيضاً، على ما يقول المعلق الصحافي نداف شرغاي (هآرتس)، عدد ممثلي "مستوطنات يهودا والسامرة وغزة" في الكنيست، غالبيتهم الساحقة متدينة، من "المفدال" و"الاتحاد الوطني". رسالة هؤلاء الواضحة هي: نحن أعضاء الكنيست من سكان "يهودا والسامرة وغزة" وحلفاءنا الأيديولوجيين الذين يسكنون داخل الخط الأخضر لا يمكننا التسليم مع الخطوات التي تحوّل إسرائيل تدريجياً إلى دولة علمانية ديمقراطية، ونطالب بأن تكون القومية اليهودية أو الدين اليهودي أو الإثنان معاً جزءاً أساسياً من الدولة.
وهكذا، فإنه في مقدرتنا القول إنه منذ الانسحاب من سيناء وحتى الانسحاب من غزة، الذي لا يزال متراوحًا في إطار النية فحسب، جرت مياه كثيرة في صفوف الجماعة الواحدة، لكن لم يكن في جوهرها ما يمسّ المسلمات الصنمية لإسرائيل والعقيدة الصهيونية، بل إننا نشهد أكثر فأكثر محاولات جارفة لإعادة هذه المسلمات إلى موقع الصدارة الذي اهتز قليلاً بتأثير جهود التسوية التي انخرط فيها الفلسطينيون بقرار مباشر من قيادتهم الشرعية.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, اوسلو, الخط الأخضر, حق العودة, هآرتس, دولة اليهود, الليكود, الكنيست, بنيامين نتنياهو