تضم هذه الورقة (*) ثمانية مقالات تستند إلى محاضرات ألقيت خلال يوم دراسي عقد بمبادرة مركز "يافه" للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، في صيف 2003، حول موضوع ماهية العلاقات بين المستوى المدني (السياسي) والمستوى العسكري في إسرائيل. وقد جمعت هذه المقالات في كتيب خاص صدر عن المركز المذكور في تشرين الثاني 2003 وأشرف على إعداده رام إيرز. ويندرج هذا اليوم الدراسي في إطار مشروع تخليد ذكرى البروفيسور عاموس برلموتر، الذي شغل في حياته مناصب سياسية مرموقة ذات طابع عسكري، وكان موضوع العلاقات بين المستويين العسكري والمدني محورًا مركزيًا في إهتماماته الأكاديمية وكذلك في بحوثه المختلفة.
ولا بدّ لنا من ملاحظة أن الموضوع السالف يحظى، في الفترة الأخيرة، باهتمام واسع ومطرّد في ضوء تزايد الحالات التي كان في ثناياها ما يشفّ عن إندلاع توتر ما بين المستوى العسكري والمستوى السياسي في إسرائيل وجرى التطرق إليها في عدد من المقالات، بدءًا من قرار الإنسحاب الأحادي الجانب من جنوب لبنان في أيار 2000 وليس إنتهاءً بالموقف الذي يتعيّن إتخاذه من الرئيس ياسر عرفات والسلطة الوطنية الفلسطينية، وهو ما عالجناه بتوسع أكبر في الورقة السابقة رقم 23.
تعالج المقالات، في الجوهر، مسألتين مركزيتين ترتبطين بالموضوع الرئيس:
الأولى، سيرورات التغيير التي خضعت لها علاقات المستوى العسكري والمستوى المدني في إسرائيل طوال سنوات قيامها وإسقاطات ذلك على صوغ السياسة العامة وعملية إتخاذ القرارات. والثانية، وسائل وطرق الإشراف والمراقبة المدنية على أداء المستوى العسكري (الإدارية والتمويلية والقضائية والإعلامية).
وبرسم المعالجات الناجزة في المقالات يتعيّن التوقف عند ما يلي:
(*) يرى الدكتور شاي فيلدمان، رئيس مركز "يافه"، أن الوضع في إسرائيل على صعيد العلاقات بين المستويين خطير وغير سليم، ذلك لأن الجيش يحتكر اليوم لنفسه مهمة تفسير الواقع (وإن كانت الأمور غير محددة بهذا الشكل بموجب ما ينص عليه القانون).
ويضيف: في الوقت الحالي نجد أن شعبة الإستخبارات العسكرية مطالبة بتجاوز مجال عملها - التقويم الإستخباري للوضع - والقيام أيضاً بإعداد وتقديم تقييم للوضع القومي (سبق لخبير إسرائيلي آخر أن أشار إلى أن مثل هذا الوضع غير قائم في أية دولة ديمقراطية).
ولعل تعيين الجنرال عاموس جلعاد في منصب "المحلل القومي" خلال الفترة التي سبقت الغزو الأميركي للعراق، يشكل أحد الدلائل التي تؤكد هذه العملية، على ما يؤكد "فيلدمان". فطالما أن مهمة المحلل القومي هي تفسير الواقع، فلماذا اختير إذن رجل عسكري لهذا المنصب؟! وما هي الأفضلية التي يتمتع بها المستوى العسكري في تفسير وتحليل الواقع الإستراتيجي لإسرائيل؟. وحيث أن للواقع أبعادًا كثيرة، لايعدو البعد العسكري كونه واحداً منها فقط (هناك البعد السياسي والدبلوماسي والإقتصادي والإجتماعي والتاريخي والثقافي والديني ...)، فهذا يعني ظاهرياً بأنه لا توجد أفضلية للمستوى العسكري، وليس هذا وحسب، بل إن تركيزه على البعد العسكري يمكن أن يتحول إلى نقيصة. فالهدف الأساسي والأول للجيش هو الإستعداد لمواجهة التهديدات. لذلك فإنه يتعين على هذه الهيئة، عندما تقوم بحكم وظيفتها بدراسة وتفحص الواقع، التركيز على التهديدات العسكرية (الآنية والمحتملة) وذلك على حساب تحري أو تحديد الفرص والإحتمالات السياسية. إن مكمن الخطورة هنا، برأيه، هو أن إعطاء الجيش صلاحية تفسير الواقع "سيعطي أفضلية للتعامل مع التهديدات على التعامل مع الإحتمالات والفرص لتحقيق أهداف سياسية". غير أن المشكلة لا تكمن فقط في تفسير الواقع، "إذ أن المستوى العسكري يتدخل ويشارك بشكل كبير أيضاً في تطبيق السياسة بعد بلورتها".
(*) يؤكد القاضي السابق والمدعي العام العسكري السابق، أمنون ستراشنوف، ما بات معروفًا للقاصي والداني عن أن المحكمة الاسرائيلية العليا (بصفتها "قدس أقداس" الجهاز القضائي) لا تبادر إلى إجراء نقاش ومداولات تتناول مواضيع حساسة تتعلق بالقضايا العسكرية التي يجري إدراجها ضمن المواضيع الأمنية، وإنما تكتفي بالنظر في التماسات تقدم لها في هذا الصدد، وعادة ما ترفضها.
ويضيف: فيما يتعلق بالتوجهات المستقبلية لمسألة مراقبة جهاز القضاء للجيش، يبدو أن شيئاً جوهرياً لن يطرأ أو يتغيّر. فالمؤسسة العسكرية ترحب غالباً برقابة جهاز القضاء المدني. غير أن السؤال المطروح للنقاش "هو درجة كثافة التدخل ودرجة الرقابة".
ولكي لا يحمل قوله هذا على محمل الانتقاد لجهاز القضاء فإنه ينتقل مباشرة منه إلى إصدار حكمه القاطع، إلى ناحية تأييد "الوضع القائم"، بقوله: في أوقات الحرب أو الصراع العنيف - كما هو الوضع حالياً - يتعيّن على المحكمة أن تتوخى ضبط النفس في سلوكها، وهي بالفعل تسلك هذا السلوك إلى حد بعيد. ففي الإنتفاضة الثانية، التي اندلعت في أيلول 2000، دعيت المحكمة العليا للتعامل مع التماسات أثناء حالة القتال، وعلى الرغم من أن المحكمة ردت معظم هذه الإلتماسات، إلاّ انها قررت مع ذلك النظر فيها.
ما يقوله هذا الخبير يحيل، على الفور، إلى السؤال الأعم والأشمل: هل ثمة في الأفق المنظور ما يوحي بإمكان تغيير وضعية احتكار الجيش لمهمة تفسير الواقع (السياسي وخلافه)، التي وصفها "فيلدمان" بأنها "خطيرة وغير سليمة"؟.
في معرض الإجابة عن هذا السؤال، على رغم أنه لم يجد حاجة إلى طرحه أصلاً، يشير إيهود باراك، الذي "حالفه الحظ" وتربّع على رأس المستويين، إلى أن المشكلة (الموضوعية؟) "هي غياب الفصل التام والواضح بين المواضيع الأمنية - العسكرية وبين المواضيع السياسية. وفي دولة إسرائيل نجد أن الصلة بين مشكلة الأمن وتنفيذ المهام المترتبة عليها وبين الموضوع السياسي، صلة عميقة، عضوية وغير قابلة للفصل بواسطة رسم حدود صارمة وواضحة".
أما تسويغه لذلك فينهل من "النبع" نفسه الذي يرتوي منه، بطبيعة الحال، غيره من العسكر الذين دخلوا معترك السياسة، ومؤداه "أن من الصعب في إسرائيل وضع أهداف سياسية لمفاوضات سلمية دون فهم عميق للوضع الأمني وللقدرة العملية لأجهزة الأمن. نفس الشيء فإن المستوى العسكري سيواجه صعوبة في تخطيط ورسم طرق عمل ممكنة دون فهم الإعتبارات والقيود والعوامل الماثلة أمام المستوى السياسي".
وفي ضوء ذلك يغدو حديثه الذاهب إلى أنه "عند تفحص الفصل بين المستويين - العسكري والسياسي - نجد أن هناك مجالاً عسكرياً - فنياً- تنفيذياً ومجالاً دبلوماسياً - سياسيًا"، لا أكثر من ضريبة كلامية سرعان ما يقرر بعده "لكن هناك، على أرض الواقع، مجالاً واسعاً مشتركاً للطرفين، المستويين، يحتاج فيه أحدهما للآخر".
بيد أن الإجابة الأكثر مدعاة للتأمل على السؤال ذاته تظل من نصيب أستاذ الإعلام، د. يورام بيري، ربما باعتبار كون الإعلام عمومًا، في ظل حالة الاندغام والانسجام السائدة بين المستويين خصوصًا في الفترة الأخيرة، أداة مهمة من الأدوات التي في مقدرتها أن تسعف المجتمع المدني في مسعاه المشتهى لضبط شطط المستوى العسكري المستغرق في "إستشعار" الأخطار عبر التغاضي عن الإحتمالات. في هذا الشأن يؤكد "بيري" أن هذا الدور المعوّل على الإعلام أضحى في نطاق المهمل أو المؤجل ضمن الأداء المختل للإعلام الاسرائيلي في السنوات القليلة الماضية "فقد إنجرف الإسرائيليون في تيار "الوطنية" وعادوا إلى التكتل حول الراية والإلتفاف حول الزعامة السياسية للدولة، بصورة لا ترقى إليها الشكوك أو التساؤلات. وهذه الظاهرة لا تميّز إسرائيل فقط، وقد برزت بدرجة لا تقل عنها في الولايات المتحدة الأميركية أيضاً، في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول 2001. وبطبيعة الحال فقد تأثرت وسائل الإعلام بالأجواء الناجمة، لكنها شكلت بالذات عاملاً هاماً في تكوّن هذه الأجواء، ومن هنا فهي بامتناعها عن توجيه النقد تخل بواجبها ودورها".
ويجوهر انتقاده حول طريقة تغطية وسائل الإعلام (الإسرائيلية) لما يجري في المناطق الفلسطينية خلال فترة العامين ونصف العام الماضية "التي تعكس صورة جزئية جداً للوضع. وهي صورة مغايرة تماماً للصورة التي تصل إلى أماكن أخرى في العالم". وفي رأيه فإن من "واجب وسائل الإعلام الإسرائيلية (ضمن أشياء إضافية) أن تعكس أيضاً جوانب مختلفة من الصورة، وفقما تتبدى في أماكن أخرى. وباستثناء صحيفة "هآرتس" التي تدفع ثمن تغطيتها بالتعرض لحملة انتقادات عامة، بما في ذلك تراجع عدد المشتركين، فإن باقي وسائل الإعلام والصحف الإسرائيلية لا تحاول مطلقاً عرض الصورة المركبة على اختلاف أبعادها وجوانبها".
بالاستناد إلى "حكم القيمة" هذا وإلى غيره من أحكام ووقائع ترد في مقالات هذه الورقة ليس من المبالغة القول إن أي تساؤل بشأن احتمال التغيير في الوضع الراهن "الخطير وغير السليم"، لنا كفلسطينيين ولكن لإسرائيل ومواطنيها أيضًا، يظل قضية مطروحة على المستقبل غير المنظور حاليًا.
(*) مقدمة الورقة رقم 24 من سلسلة "أوراق إسرائيلية" حول العلاقة بين المستوى السياسي والمستوى العسكري في إسرائيل. وقد صدرت مؤخرًا عن مركز "مدار"- رام الله.