بقلم: هشام نفاع
"حين يحدث أن السياسة الخارجية الأمريكية، المحكومة بالشركات العملاقة والاحتكارات الدولية، تتورط في "حرب قوى" عامة، كان النيويوركيون يواصلون عدم اكتراثهم بأي خطر حقيقي، ويلتفون حول العلم، والحلوى، والرئاسة الامبريالية.. الى أن حل يوم على حين غرة، وجاءت الحرب الى عالم منشغل – بسلام – في شؤون التسلح وتطوير الطاقة التدميرية..".
اليوم الذي حل طبعًا هو 11 ايلول 2001. والكلمات كتبها بعد شهر على هذا التاريخ مايك ديفيز، كاتب تقدمي أمريكي يرئس تحرير مجلة "نيو لفت ريفيو" اليسارية. الاقتباس المقتضب أعلاه يكاد يحمل الصورة برمّتها. كلا، ليس صور إنتاج التحشيد الوطني بالبث المباشر حول البيت الأبيض وأذرعه التجارية، أو بالعكس: ليس صور الـ "نيجاتيف" التي تخفي أخطبوط التجارة العولمية والبيت الأبيض كذراعه الأطول التي تضفي عليه الشرعية. ولا صور التفجير الملوّنة المصوّرة من أبعاد مختلفة والمُعادة بأعلى الوتائر وأشدّ درجات التأثير على شاشات الاستهلاك التلفزيونية. ولا حتى صور الحزن الحقيقي لأمريكان نيويوركيين فقدوا أعزاءهم بعد غارات الطائرات التي كُرّست لها لاحقًا صورة وهمية ولكن مشفّرة بالخوف والكراهية. وكأن تلك الطائرات أقلعت من عصور متوحشة غابرة لتحط في آخر لحظات الحضارة الأمريكية ورمزها الدلالي والفعلي الأبرز، "مركز التجارة العالمي"، وليس من عمق الولايات المتحدة نفسها.
الصورة المحمولة في النص الافتتاحي السالف هي صورة من الصعب على عدسات "سي ان ان" الحساسة السريعة الذكية بالغة المستوى التقني أن تلتقطها. ليس لقصورات في مكننتها الرقمية بل لأن نوع الصورة المُقترح استشفافها أعلاه لا يفي بالمطلوب من الصور التي يتوجب على شاشات غسيل الأدمغة تقديمها. هذه "نرجو" منها تقديم شبكة من الخدمات المعرّفة والمعروفة سلفًا ليتمكن الجهاز الفوقي من مواصلة العمل كما يجب: الحفاظ على تقسيمة العالم بكل ما فيه من نوعية علاقات ومصالح وموارد. وحتى ينجح التكريس الملموس يجب انتاج قوالب مكرّسة له في الوعي. المطلوب من الشاشة ليس عرض الحقيقة. شكرًا.هذه نظريات بائدة. فدورها مُلزم بالاقتصار على ملاءمة الواقع الذي يجري قصّه ومنتجته وتعليبه، لظلّ له في العقول. ظل فقط، هذا يكفي، فلا حاجة لتجسيد ملموس ولا لتجسيد دلالي بأدوات الاقناع والمنطق. هذا العصر من ورائنا. لقد تجاوزنا عصر "الأنوار". نحن الآن ما بعده. أصلا لقد مات الذات والموضوع وحتى العلاقة بينهما. اليوم أمامنا سبيل واحد هو الصورة وتكرارها. لنستفد من مقولة غيبلز النازي بقليل من التدخّل: "كرّر وكرّر وكرّر حتى يقتنع الناس انها الحقيقة". أليس هذا ما يُسمى بلسان أكاديمية فصيحة مطهّمة "بلورة الرأي العام"؟ البلورة تحيل الى الصّقل، الى البريق، الى التكثيف الى خلق "حقيقة" متماسكة واحدة.. ألا يتعارض هذا مع فكرة "موت الحقيقة"؟ نعم ولكن هذا متروك لجدل الفلاسفة والمثقفين. نحن هنا في ملعب السياسات، وهذه لا تخضع لقوانين بل تخلقها (بشيء من الوسائل غير اللطيفة). تخلق حتى مبرراتها.
بن لادن لم يمت. ليس ايحائيًا فقط بل بيولوجيًا أيضًا على ما يبدو. وحسب الصورة المفبركة يواصل الخروج من عصره المتوحش وهو يرتدي الثياب الغريبة ليطلّ عبر آخر منتجات وسلع الاعلام التي تتراقص الصور على شاشاتها. بن لادن هذا لا علاقة له بالتاريخ المُعقلن الفهم. هذا التاريخ يمكن له يتفاعل نزولا عند شروط محددة. لا يسري ولا يمشي ولا يتطور وسيظل عصيًا على التحليل طالما هو مرتبط بتلك البقاع التي يأتي منها المتوحشون القدماء (بالطائرات الحديثة) ليفتكوا بالمركز العصبي لـ "روح العصر". بن لادن غريب عن التاريخ، فهو حطّ فيه خلافًا للمنطق والتخطيط. وبكونه كذلك فلا يمكن التعامل معه حسب المتعارف عليه. لا يمكن حتى اتهامه بالاجرام. لأن الاجرام هو علم وظواهر وإحصائيات قابلة للقياس والتحليل والتنظيم. أما ما يتحمل بن لادن المسؤولية عنه فهو شيء آخر. يمكن أن نرويه مثلا بمفردات الشر المطلق. ما هو الشر؟ إنه البعيد عن أي احتمال للتعاطي معه بعقلانية، ولو اخترنا معاداته. هذا التعاطي من العداء المُعقلن المحسوب والمخطط قد ينطبق على دول معادية، جيوش محاربة، وحتى على عصابات جنائية. ولكن بن لادن؟ إنه ذلك الشيطان الذي تحدث عنه أدب الاستشراق الغني بالايحاءات المثيرة. هذه هي الصورة الملائمة الوحيدة لقاموس تلك السياسة .
وما هو البديل اذن، اذا لم يكن الانزياح عن التفكير التاريخاني واعادة انتاج أساطير محدثنة أو ما – بعد – محدثنة، لا يلعب فيها الحصان المجنح، ولا الانسان – الثور النصفي، ولا العنقاء، ولا الغول، ولا أي من شياطين الشعر العربية. هنا سيأتي شياطين ملتحون يرتدون العمامات العجيبة ليلعبوا بأزرار الطائرات الضخمة المحلّقة بتقنيات رقمية محوسبة. هل يُعقل الأمر، انتقال عجائبي من "تورا بورا" الواقعة خلف سلاسل التسلسل التاريخي، الى حيث حطّت أقدام البشرية لتوّها في مسيرة التطور الرأسمالي؟
نعم. هذا يُعقل. نحن ننتج سياسة..
لا حاجة للتوقف مطوّلا عند الوعظ الأخلاقي الرافض لكل عمل عسكري يمس بمدنيين. هذا مؤكد. الرفض وليس الوعظ. وحتى حين نعجز عن التنصل من مسؤولية الاجابة الحاسمة المأساوية القائلة: إن هذا الجنون العنيف الذي لا يختار له هدفًا بل يخبط كـ "عشواء" وقد فقدت البصر والبصيرة، هو جنون مشتق مباشرة من مراكمة امبريالية للقمع والاستغلال والاستعلاء بحيث تسري عليها نظرية "خطورة شراسة القط حين يُحشر في الزاوية" - حتى هنا، في حدود هذه الاجابة، لا يمكن الموافقة ولو بصمت على هذا الشكل من المواجهة. إضافة الى بطلانها قيميًا، فهي مضرة سياسيًا لنضال مضطهدي (بفتح الهاء) العالم وما أكثرهم.
بالمقابل يطل "الأذكياء" لاستخراج المواد الخام المفيدة من بين الدماء والدمار والدخان. قليلا من دموع التماسيح وعودة الى غرف التخطيط الاستراتيجي. فجأة "يوريكا"! وجدنا عدوّا. بالأحرى وجدنا الدليل الأكيد على حضور العدو الجديد. الاسلام، الشرق، الغامض، الأسطوري، المخيف. إنه "العدو الأسمر". البديل المفيد "للعدو الأحمر" الشيوعي.
وصلنا السؤال الحاسم: من المستفيد؟ من يخدم من، ولو لم يخطط للتبرع بخدماته؟
ليس الشعوب.
حرب على أفغانستان، صياغة "محور الشر"، إذكاء الخوف من كوريا الشمالية النووية، حرب على (نفط) العراق، وها هي النظرية الاستراتيجية تتحقق. نفتح سوقًا شاسعة للاستهلاك، وهنا وهناك تستعر تجارة الاسلحة بأعلى الايرادات. فهل "الارهاب" عدو؟ كلا. إنه سلعة أخرى. ومربحة جدًا.