يقبل الرئيس ياسر عرفات «خارطة الطريق»، وترد الولايات المتحدة طالبة تنحيته. ويرفض أرييل شارون «خارطة الطريق»، فتدللـه الإدارة الأميركية وتدعوه إلى الحوار في البيت الأبيض.
هذه المفارقة ليست شكلية،وهي تطرح سؤالا أساسيا: ماذا تريد واشنطن أن تفعل؟ هل تريد حقا تطبيق «خارطة الطريق»، وكيف تريد لعملية التطبيق هذه أن تمضي؟
لقد اعتبرت الإدارة الأميركية منذ أن تولى الرئيس جورج بوش السلطة، أنها لا تريد أن تتعامل مع الرئيس ياسر عرفات، وقال بوش أكثر من مرة، وبطريقة وقحة، إنه لا يثق به. وكان السبب في ذلك بداية أنه رفض مقترحات الرئيس بيل كلينتون. ثم كان السبب بعد ذلك أنه جزء من الإرهاب العالمي ولا بد بالتالي من تنحيته، وها هو مساعد وزير الخارجية وليام بيرنز يصل إلى رام الله ليسلم «خارطة الطريق» رسميا، من دون أن يلتقي مع عرفات، وها هو وزير الخارجية كولن باول يصل إلى رام الله ويلتقي مع رئيس الوزراء أبو مازن من دون أن يلتقي مع عرفات.
حسنا، وماذا بعد؟ هل ستكرر الإدارة الأميركية مع أبو مازن نفس ما فعلته مع عرفات؟ إن أبو مازن صاحب رأي صريح بضرورة وقف استخدام السلاح في الانتفاضة الفلسطينية، ولكنه عبر حتى الآن عن موقف يدعو للوصول إلى هذا الهدف عن طريق الحوار لا عن طريق القمع والقوة، فإذا لم يستجب الآخرون لدعوته، ولم يبادر إلى استعمال القمع، فماذا سيكون موقف الإدارة الأميركية منه؟ هل ستعلن أنها لا تثق به وتقاطعه؟ وإذا كانت الإدارة الأميركية تعاقب عرفات لأنه قال «لا» للرئيس الأميركي في كامب ديفيد، فعليها أن تتذكر أن أبو مازن كان شريكا مع عرفات في تلك المفاوضات، وكان شريكا له أيضا في قول كلمة «لا»، فهل ستنقب في سجل مواقفه إذا ما اختلفت معه وتعاقبه على تلك «الجريمة»؟ إن أبو مازن، وبالرغم من اعتداله الشديد، مرشح لأن يصطدم مع الولايات المتحدة، حين تتعامل مع «خارطة الطريق» وكأنها «دليل الاستعمال» الذي نتسلمه حين نشتري طاولة أو خزانة ليرشدنا إلى كيفية التركيب، فإذا جاء باول إلى المنطقة ليقول لأبو مازن ابدأ بهذه النقطة ولا تبدأ بتلك، أو ليقول له: إذا لم تبدأ بهذه النقطة (الأمن) فلن ننتقل إلى النقطة التي تليها، يكون قد حول «خارطة الطريق» فعلا إلى ما يشبه دليل الاستعمال. ويصلح دليل الاستعمال بالتأكيد لتركيب الطاولات والكراسي، ولكنه لا يصلح أبداً لمعالجة صراع مديد بين شعبين، كاد أن يتحول في أكثر من مناسبة إلى مواجهة عالمية.
صحيح أن «خارطة الطريق» تحتوي على مطالب، وعلى مراحل، وعلى مواعيد زمنية، ولكنها تحتوي أيضا، ومثل كل خطة سياسية، على روح وعلى جوهر، وجوهرها إنشاء دولة فلسطينية كاملة السيادة على كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وجوهرها ربط الأمن بالسياسة، والتوازي في التنفيذ، ورفع ضغط الاحتلال الإسرائيلي عن الشعب الفلسطيني، ووقف الاستيطان (وقف التسمين ووقف الانتشار). وفي الوقت الذي لا ترى فيه الإدارة الأميركية سوى عمليات المواجهة الفلسطينية لقوى الاحتلال، فإن عمليات شارون القمعية المريعة، من مجزرة الشجاعية إلى مواصلة عمليات الاغتيال، هي التي تشكل البند الأول في تخريب أي فرصة نجاح أمام أبو مازن. وحين لا يستطيع باول أن يرى ذلك، وحين لا يُحضر معه بعد لقائه مع شارون، أجوبة حاسمة على هذه القضايا، فإن مهمته لن تكون أكثر من «تقطيع وقت» يساعد شارون على التشدد أكثر مما يساعده على الاعتدال، وعندها يكون باول قد اسهم فعليا في تفشيل وزارة أبو مازن قبل أن تبدأ.
لقد قام شارون مرارا بالتعامل مع مبعوثي الإدارة الأميركية وكأنهم مبعوثون من الدرجة الثالثة، يستمع إليهم ولا يرد بشيء على ما عرضوه، هكذا فعل مع الجنرال زيني، وهكذا فعل مع تنيت (رئيس CIA)، وهكذا فعل مع ميتشل وتقريره، وهو ما كان ليتجرأ على فعل ذلك إلا لأن هناك خطاً مباشراً مفتوحا بينه وبين الرئيس جورج بوش، وهو ما دفعه لأن يستخف بمهمة أي مبعوث آخر. فهل سيكرر شارون الفعلة نفسها مع كولن باول؟ ليس هذا سؤالاً نظرياً، فهو يستند إلى موعد محدد للقاء بينهما بعد عشرة أيام. ثم إن شارون يعرف تفاصيل الخلاف، وتفاصيل الصراع الدائر بين جماعة الصقور وجماعة كولن باول في وزارة الخارجية، وهو يراهن على مواقفهم لصد أي ضغط يأتيه من جهة كولن باول، هذا إذا مارس كولن باول أصلا أي ضغط على شارون.
هناك من يميل دائما إلى القول بأن «العرب» يتعاملون سلفا مع مواقف واشنطن بنزعة متشائمة، ويعجزون عن رؤية الجانب الإيجابي فيها، وقد قوي الإعلان عن هذا الميل بعد احتلال العراق، ولكن ما ذا يبقى لكي نقول حين يكون الإسرائيليون أنفسهم هم أول المروجين لهذا الموقف؟ ففي زيارة سابقة لشارون إلى واشنطن، ووجه بعد عودته بمواقف متطرفة أدلى بها الوزير آفي إيتام، داعية التطهير العرقي للفلسطينيين، وقد نبهه بعض مساعديه إلى خطورة هذه التصريحات وتأثيرها على سمعته السياسية، فرد عليهم شارون قائلا «لا داعي للخوف من تصريحات الوزير آفي إيتام فهو حمامة بيضاء مقارنة بأصدقائنا الأميركيين». وفي رواية أخرى على لسان الأكاديمي الإسرائيلي «ايهود شبرينتساك» العائد من محادثات إسرائيلية ـ أميركية في البنتاغون، قدم فيها وصفا للمسؤولين الأميركيين الذين تفاوض معهم فقال «يستطيع المرء إيجاز نهجهم بجملة واحدة، إنهم يظنون أن العالم العربي بأسره عالم معاقين لا يفهمون سوى لغة القوة». وقد أورد هذه الأقوال الكاتب إليكس فيشمان في صحيفة «يديعوت أحرونوت» (6 ـ 9 ـ 2002). وليس من المستبعد على أساس معرفة شارون بهذه المواقف، أن يتعامل بسطحية مع باول، مؤجلاً المفاوضات المعمقة إلى لقائه المنتظر مع بوش، وتكون زيارة باول بهذا المعنى زيارة بلال فائدة، تزيد في أزمة وزارة أبو مازن بدل أن تساعد في حلها.
إن البند الأمني الذي يحتل المكانة الأولى في «خارطة الطريق»، ويبدو كشرط لازم مطلوب من الفلسطينيين أولا، يخفي الإصرار الإسرائيلي عليه، فشلهم في مخططهم الدموي لقمع الانتفاضة. فهذا جيمي شيليف يقول في صحيفة «معاريف» (28 ـ 4 ـ 2003) «من خلال الاستعداد لتمكين الحكومة الفلسطينية الجديدة من معالجة الإرهاب، تعترف إسرائيل بفشل سياسة الضربة القاضية التي مارستها، وتطلب من الفلسطينيين القيام بالعمل نيابة عنهم». وحين تفشل إسرائيل في تنفيذ سياسة الضربة القاضية فإن عليها أن تستخلص النتائج وأن تدفع ثمن الفشل، ولكن إذا جاء باول ليطالب الفلسطينيين بأن يدفعوا هم ثمن الفشل الإسرائيلي، فإنه يكون قد حكم بفشل «خارطة الطريق» قبل أن تبدأ، فهو يعفي إسرائيل من دفع ثمن سياسة فاشلة، ليطالب الفلسطينيين بدفع الثمن من جديد، بعد أن كانوا قد دفعوه من أرواحهم ودمائهم من أجل تفشيل سياسة إسرائيل القمعية.
ومن الضروري أن نلاحظ هنا، أن زيارة باول لإسرائيل، تأتي في أعقاب إضراب عمالي شامل، احتجاجا على خطة التقشف الاقتصادية التي وضعها وزير المالية بنيامين نتنياهو، ومؤداها شبه إلغاء للضمانات الاجتماعية التي تستفيد منها الطبقات الفقيرة. لقد بادرت الحكومة إلى وضع هذه الخطة (للمرة الثالثة) بسبب الآثار الاقتصادية التي فرضتها الانتفاضة الفلسطينية، ولكن من يقرأ الخطة، ومن يقرأ التعليقات الصحافية الكثيرة عليها، تلح عليه ملاحظة فاقعة اللون، وهي أن كل هذه التعليقات تتجاهل الإشارة إلى الانتفاضة كسبب رئيسي في هذه الأزمة. فكما في الأمن، لا يريد الإسرائيليون الاعتراف بأن الانتفاضة دفعتهم إلى فشل اقتصادي، وذلك حتى لا يكون مثل هذا الاعتراف محركاً لدعوات دولية تطلب منهم تقديم تنازلات بسبب فشل سياساتهم. ولكن إذا كانت إسرائيل تصر على هذا التجاهل، فهل سيساير باول لعبتهم، فيغمض عينيه وهو يفاوض أبو مازن؟
ومن الضروري القول هنا، إن أبو مازن أيضا، مطالب وهو يفاوض باول، بأن يرى نقاط الفشل في سياسة إسرائيل، وأن يحاول البناء عليها.
(الشرق الاوسط، لندن 11 ايار)