المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بعد "الصدمة والهول"، وهي ترجمة غير دقيقة لعبارة Shock and Awe التي افضّل ترجمتها بكلمة "صَدْمَوية"، جاءت حكاية اكتساب "العقول والقلوب" في العراق، لتحتل شاشات التلفزيون في اميركا. الدمار الهائل الذي تعرض له العراق على ايدي الغزاة الاميركان والانكليز، يتحول مساعدات انسانية، ومشروع حكم عسكري مباشر تحت امرة جاي غارنر وتومي فرانكس. فالشرق الاوسط الجديد سوف تصنعه الدبابات والقنابل الذكية وصواريخ كروز، اما العقول والقلوب فسوف يجتذبها القمع والخوف.


الدولتان الكبريان في المشرق العربي سقطتا في القبضة الاميركية: مصر أُخرجت من دورها الاقليمي بعد كمب ديفيد ،1979 وتحولت بفضل الرعاية الاميركية ولاية مملوكية يفترسها القمع والفقر، والعراق انتهت به المغامرات العسكرية التي قادته اليها الديكتاتورية الى الوقوع في مصيدة الاحتلال الاميركي. انكشف المشرق العربي في شكل لا سابق له. الجيش الاسرائيلي يواصل تقطيع اوصال مدن فلسطين ومخيماتها وقراها، والجيشان الاميركي والبريطاني يقومان باحتلال العراق. اما الخليج العربي او الفارسي، فصار خليجاً اميركياً في شكل شبه كامل. واللافت ان الاحتلالين، الاميركي في العراق، والاسرائيلي في فلسطين، يعملان في شكل متناغم. الهدف هو خريطة جديدة للشرق الاوسط، حيث تكون السيطرة الاميركية على منابع النفط كاملة، بينما تلعب اسرائيل دور الحليف الوحيد المؤتمن.

بلاد الشام، سوريا ولبنان وفلسطين، صارت مكشوفة وعارية، ولم تعد تمتلك اي عمق استراتيجي، وهي مطالبة ليس بتقديم تنازلات قاسية فقط، بل بالتخلي عن فكرة العدالة التي بنيت عليها المقاومتان الفلسطينية واللبنانية للاحتلال الاسرائيلي.

السؤال هو كيف تستطيع هذه البلدان مواجهة طوفان النار؟

لم يعد الخطر مجرد افتراض، اذ من الواضح ان اليمين الاميركي المتطرف الذي يسيطر على البنتاغون والبيت الابيض يريد الوصول الى حل جذري للمسألتيين الكبريين في المنطقة: النفط واسرائيل. آبار النفط صارت عملياً تحت الاحتلال المباشر، ولم يبق سوى اجبار العرب على الانحناء امام اسرائيل الليكودية، والقبول بما لا يمكن القبول به، اي اجبار سوريا ولبنان على التنازل عن الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الاراضي التي احتلت عام ،1967 واجبار الفلسطينيين على الدخول في شبه حرب اهلية ضد "الارهاب"، خوفاً من حملة عسكرية اميركية او اسرائيلية باسم الديموقراطية.

تعالوا نتخيّل المستحيل: ان يندفع الجيش الاسرائيلي، في وصفه رديفاً للجيش الاميركي، الى شن الحرب على سوريا، بحجة نشر فضائل الديموقراطية في سوريا ولبنان! او ان يتم التهديد بهذا الاحتمال من اجل الوصول الى الهدف الحقيقي، اي اجبار البلدين ومعهما السلطة الفلسطينية على الرضوخ للمطالب الاسرائيلية الاميركية، اي السلام مقابل السلام، عبر فرض الامر الواقع الذي سوف يعني استبدال مشروع الدولة الفلسطينية بكابوس الباندوستانات في فلسطين، وفرض التطبيع من دون انسحاب كامل من الجولان.

تخيّلوا الجنرال شارون، الملاحَق امام القضاء البلجيكي بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية في صبرا وشاتيلا، وقد حولته الآلة العسكرية - الاعلامية الاميركية، "محرراً" لبلادنا باسم القيم الديموقراطية والليبيرالية!

المشرق العربي يواجه اليوم هذا الخطر الجارف. ورد الخطر لا يكون عبر الاستمرار في اللعبة نفسها: بلاغة قومية فارغة وحكم ديكتاتوري يسحق المجتمع المدني ويقتل روحه. البلاغة الجوفاء هي غطاء القمع، ومقدمة للاستسلام. الآتي مليء بالهول. ما سيطلبه الاميركان الذين اسكرهم مزيج الدم والنفط العراقي، لن يكون اقل من القبول بالهيمنة الكاملة، وطلب المغفرة عن مئة عام من التضحيات والنضال من اجل الحرية والاستقلال.

المطلوب من العرب ان يقوموا بمحو حقوقهم بأيديهم، من اجل ان تأتيهم المغفرة من البيت الابيض. وهي مفغرة مسبوقة بالرضوخ الكامل لأميركا، وشرعنة التوسع الاسرائيلي في الضفة وغزة، والقبول بالهلوسة الاصولية الدينية التي تبرر الاحتلال الإسرائيلي. المشرق العربي في عين الخطر.

مقاومة الاستعمار في العراق مرهونة بخلق مناخ سياسي جديد في المشرق العربي، والا تحولت المقاومة الى فوضى على طريقة "المجاهدين الافغان" الذين جلبوا الدمار لبلادهم، قبل ان تأتيهم الطائرات الاميركية بقنابلها. هذا المناخ لا تخلقه سوى مجتمعات حرة، تستعيد حقها في الكلام، وتصوغ مشروعاً اخلاقياً يكون جزءاً من الحركة المناهضة لهيمنة النزعة العسكرية الاميركية على العالم.

الديكتاتورية وأنظمة المخابرات لم تجلب سوى الخراب. بغداد تنزف دماً وحزناً وكرامة جريحة. بغداد تبكي لأن القمع لم يسمح لها بأن تكون نفسها، وتقاوم مثلما يستحق العراق ان يقاوم. العراق حزين لأنه ذهب الى الحرب مكبلاً وعاجزاً.

المكبّل لا يستطيع صد روما الاطلسية المدججة بالأسلحة والقيم الكاذبة والعهر الصهيوني. لذلك لا حل امام هذا المشرق سوى كسر كل جدران الخوف.

ربيع دمشق الموؤود يجب ان يستعاد، والحركة الديموقراطية الوفاقية في لبنان يجب ان تستيقط، اما الحركة الوطنية الفلسطينية فعليها ان تستعيد قضيتها في وصفها قضية مقاومة شعب اعزل، لآلة عسكرية احتلالية تمتلك انياباً نووية.

حركة ديموقراطية ضد الاحتلال الاميركي للعراق، ورؤية سياسية، ثقافية تتخلى عن الخطابية الجوفاء، وتتمسك بالحق الذي تعلنه الحقيقة، وبالمقاومة الشاملة.

الصوت العربي المخنوق، يجب ان يتحرر من الذل والخوف، قبل ان يأتي الاستسلام، و/أو قبل ان تفرض علينا معركة خاسرة، كتلك التي فرضت على الشعب العراقي.

وعندها تكون النكبة الثانية قد اكتملت.

(النهار/ الملحق الثقافي، 14،4)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات