[رام الله- صدر هذه الأيام عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار العدد رقم 36 من سلسلة "أوراق إسرائيلية" على شكل كتاب يقع في 136 صفحة، ويضم آراء إسرائيلية حول الأداء العسكري للجيش الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة على لبنان.
ويعتبر هذا الكتاب من أوائل الإصدارات باللغة العربية حول الحرب الإسرائيلية على لبنان، والتي استمرت طوال الفترة ما بين 13 تموز و14 آب 2006.
وفيما يلي نصّ المقدمة، التي جاءت تحت عنوان "حرب المفاجآت":]
لا شك في أن الحرب الإسرائيلية على لبنان عمومًا وعلى المقاومة التي تجسّدها منظمة "حزب الله" خصوصًا ستبقى في الميزان العسكري حتى إشعار آخر. ولذا فإن المقالات والتقارير، في هذا العدد الخاص من "أوراق إسرائيلية"، هي موجة القطاف الأولى من المداخلات السائرة في هذا الاتجاه.
وما يلفت النظر، أول شيء، أن صورة ومحتوى التعاطي مع هذه الحرب يعيدان إلى الأذهان، من عدة نواحٍ، ما أعقب حرب أكتوبر 1973 على مستوى البحث والتحقيق والاحتجاج لدى الجانب الإسرائيلي. ويتعيّن التنويه بأنه منذ أن اندلعت الحرب، في الثالث عشر من تموز 2006، توالت التقييمات من طرف المعلقين والخبراء العسكريين. وبالتالي كان لا بُدَّ من القيام باختيار صارم للمادة عند إعداد هذا الملف. وقد جاء الاختيار، بطبيعة الحال، محكومًا بعامل الزمن، بمعنى التمحور حول المواد التي كتبت فور انتهاء الحرب فصاعدًا، علمًا بأن ما كتب في أثنائها وآثرنا الإعراض عنه يستحق الوقوف عنده أيضًا.
وفي التحصيل العام لا يكاد المعلقون والخبراء العسكريون الإسرائيليون يجمعون على شيء، حسبما يمكن الاستشفاف من المواد المنشورة، بقدر إجماعهم على إخفاق الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب، من جهة وعلى أن هذه الحرب كانت حافلة بالمفاجآت غير المتوقعة، من جهة أخرى. وهي مفاجآت بمدى ما إنها توضح مبلغ كفاءة الطرف الآخر وجهوزيته اللائقة، فهي تضع على المحكّ الأداء العام للجيش والأداء الخاص للاستخبارات في إسرائيل. والأمر لا يبدو منحصرًا في الأداء الراهن للمستويين العسكري والسياسي، وإنما ينسحب بأثر رجعي على أداء هذين المستويين في السنوات الست المنصرمة منذ الانسحاب الإسرائيلي، الأحادي الجانب، من جنوب لبنان في أيار 2000، كما تبيّن ذلك العديد من المداخلات. بل إن أحد كبار الموظفين في "رفائيل" (سلطة تطوير الوسائل القتالية) يؤكد أنه إذا كان ثمة بحث دائب، بعد انتهاء الحرب، عن "قطع رؤوس"، وهو ما تبدّى إلى الآن أنه بمثابة "رياضة قومية"، فينبغي إيجاد هذه الرؤوس كذلك "في الحكومات السابقة، التي كانت مسؤولة عن التغاضي عما يحصل تحت سمعنا وبصرنا، عبر إهمال الجيش والجبهة الداخلية والرأي العام العالمي. والشعار الذي يطرح بأن الحرب ضبطت إسرائيل مع قادة غير مجربين هو شعار أجوف، سطحي وغير موضوعي. هذا في الوقت الذي كان فيه أداء رئيس الحكومة، إيهود أولمرت ووزير الدفاع، عمير بيرتس ورئيس هيئة الأركان العامة، دان حالوتس، رسميًا وموضوعيًا ومتزنًا. وفي ضوء الظروف والنتائج التي تم تحقيقها كان أداؤهم بمثابة الأفضل من ناحية الممكن والمتاح".
من ناحيته يرى أحد المؤرخين، وهو أيضًا ضابط في الاحتياط، أن دولة إسرائيل تحتاج إلى إصلاح سياسي واجتماعي وثقافي عميق "إذا كانت ترغب في مواصلة البقاء". وهو يلوّح بهذه الحاجة بعد إقراره بأن ما حدث في هذه الحرب هو لا أكثر من "طبعة ثانية" من حرب أكتوبر 1973، بحيث نجد مرة أخرى أن الجبهة الداخلية هي التي تدفع ثمن الأخطاء. لكن الفارق [بين الحالتين- الحربين، حرب 1973 وحرب 2006]، برأيه، هو أن الزعماء السياسيين والقادة العسكريين فشلوا في الأولى أمام جيوش كبيرة، بينما في هذه المرة أمام "منظمة إرهابية صغيرة"، ولذلك يغدو الفشل "خطيرًا بما لا يقاس".
وعلى ذكر المؤرخين فإن الصحافي والمؤرخ توم سيغف يعتقد (ملحق "هآرتس"- 18 آب 2006) أنه لا يكفي تشكيل لجنة تحقيق في الحرب، بل يجب تشكيل لجنة مؤرخين لفحص "كيفية انزلاق مجتمع بأكمله" في هذا المنحدر الخطير والحادّ.
هناك الكثير من التفاصيل التي تستحق التأمل في المواد التي تضمّها هذه الورقة، القسم الأكبر منها يتعلق بالأداء العسكري الصرف. وهي تفاصيل حول المحاور التالية، بهذا الشكل أو ذاك: قضية جنود الاحتياط، العمليات البرية وفاعليتها، مفهوم الأمن، عمل أجهزة الاستخبارات، سلاح الجوّ وحدود قدرته على حسم المعارك، سلاح البحرية و"الإصلاحات" التي خضع أو ينبغي أن يخضع لها الجيش الإسرائيلي في ظلّ مستجدات محلية وإقليمية وعالمية. وتحيل بعض المقاربات الجافّة لهذه المحاور لا إلى "المعطيات الموضوعية" التي يتوافر عليها كل محور على حدة، وإنما أيضًا إلى طرائق التفكير الإسرائيلية حيال القدرة العربية وحيال الإنسان العربي بصورة عمومية.
أما الاستخلاصات العامة فهي ليست أقل أهمية. وفي هذا الشأن يجب التمييز بأن هناك استخلاصات "تخلص" للجانب العملياتي فحسب، وأخرى تدمج النتائج العسكرية للحرب مع خلاصة سياسية طال انتظار استحقاقها، وهي الاستفاقة من وهم القوة العسكرية.
في هذا الخصوص يشير الخبير الإستراتيجي الجامعي، رؤوبين بدهتسور، مثلاً، إلى أن حرب يوم الغفران (حرب أكتوبر 1973) لا تزال محفورة في الذاكرة (الإسرائيلية الجماعية) باعتبارها حدثًا انعطافيًا "تصدعت في أعقابه ثقة الجمهور بالجيش الإسرائيلي". لكن "ما زال من السابق لأوانه أن نُقدر فيما إذا كانت حرب لبنان الثانية ستُستذكر كخط انكسار يصحو الجمهور في أعقابه من وهم القوة العسكرية الإسرائيلية غير المحدودة".
وكتعويل على استبطان مثل هذه الخلاصة الأخيرة بدأ البعض، في الفترة القليلة الماضية، يبني عدة رؤى سياسية.
ويمكن أن نذكر من هؤلاء المعلق السياسي عوزي بنزيمان، الذي رأى أن الحرب أثبتت حدود القوة العسكرية لإسرائيل وقوة الاستفزاز الكامنة في تأبيد مطالب الفلسطينيين والسوريين حيال إسرائيل (صحيفة "هآرتس"، 23 آب 2006). وأضاف أن إسرائيل "بحاجة إلى أجندة قومية جديدة، إلى تحدّ جديد... والغاية اللائقة لذلك هي إحلال علاقات جديدة مع العالم العربي". كما أن "الحرب الثانية على لبنان تلقي على كاهل الحكومة، مهما تكن تركيبتها، مسؤولية قيادة الجمهور نحو لحظة الانفصال عن الجولان والضفة" الغربية.
على النسق ذاته يرى شلومو بن عامي، وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، أن البشرى السارّة هي أن الحرب الأخيرة ربما تخلق احتمالاً لتسوية سياسية. "فقد أضحى واضحًا أن الانتصارات الإسرائيلية الساحقة لم تؤد إلى تسويات سياسية، بينما كانت أوضاع التعادل في المعركة أو انكشاف هشاشة الجبهة الداخلية الإسرائيلية بمثابة مقدمة لعمليات سياسية واعدة. هذا ما كان عقب حرب يوم الغفران التي أدت إلى سلام مع مصر وعقب الانتفاضة الأولى وصواريخ السكود في حرب الخليج التي قادت إلى مؤتمر مدريد" (صحيفة "هآرتس"، 22 آب 2006).
مع ذلك فلا ينبغي التوهّم بأن مقولة حدود القوة العسكرية قد تغلغلت على نطاق واسع في صفوف الرأي العام الإسرائيلي.
فالكثير من المعلقين والخبراء، كما تلحظون من المواد المنشورة هنا، يعتبرون أن ما أخفقت إسرائيل في تحقيقه من خلال قوتها الحالية في هذه الجولة من الحرب، يمكن بل ويجب تحقيقه بالمزيد من القوة في جولة مقبلة قد تكون عاجلة أم آجلة، لكنها بالتأكيد مستحقة ارتباطًا بنتائج الحرب.
ومن هؤلاء عضو الكنيست الليكودي يوفال شطاينيتس، رئيس لجنة الخارجية والأمن البرلمانية السابق، الذي اعتبر فشل حرب لبنان الثانية هو فشل ثقافة الحرب الجديدة. وأضاف أن تفحص التاريخ العسكري منذ نهاية حرب لبنان الأولى في 1982 يدل على انفصال تدريجي عن تراث الحرب الغربية. وهو التراث المستند إلى تقليد "القضاء على الخصم بالضربة القاضية، بصورة لا تقوم له قائمة بعدها". ففي زمن ما في الثمانينيات، كما يضيف "كففنا عن الحديث عن الطموح إلى إخضاع العدو أو القضاء على قدرته القتالية بالضربة القاضية، وبدأنا نُنمي ثقافة تقدّس الاكتفاء بـ"النصر بالنقاط" أو "كيّ الوعي". وبكلمات أخرى: ثقافة الاكتفاء بأن يستوعب الجانب الثاني أن من الصعب عليه أن يُخضعنا. في زمان ما في الثمانينيات أصبح النصر كلمة معيبة، وتحوّلنا بدلا منها إلى الحديث عن الحصول على صورة نصر، أو تأثير انتصار في الوعي، مع افتراض أنه يمكن الحصول عليهما بثمن رخيص نسبيا من ناحية الخسائر في الأرواح".
وأيضًا: "بالإضافة إلى ذلك، بدأنا في زمان ما في التسعينيات نستبدل مبدأ (دافيد) بن غوريون (المتمسك بالتراث المذكور) بمفهوم جديد لحرب ساكنة وشحيحة المخاطر والخسائر قدر الإمكان على الأرض، عبر اعتماد زائد على التفوّق الجوي الذي يفضي إلى إخضاع العدو".
ويقتضي هذا الفشل في رأي شطاينيتس "تطبيقا فوريا لعدد من الدروس، التي لا يمكن أن تنتظر نقاشات أساسية ولجان تحقيق. أقصد الدروس في شأن تعزيز قواتنا البرية في الجولان، وفي شأن تحسين القدرة على إنجاز عملية تجنيد وانتظام تحت وابل الضربات، وفي شأن تجديد واستكمال الاحتياطيات، وفي شأن التدريبات العاجلة لألوية الاحتياط".
وفي ضوء ما يقوله هذا الخبير "الجهبذ" سيجد القارئ أن هناك عدة مداخلات ترتبط مع ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة وتغوص، بالتفصيل المملّ أحيانًا، على وسائل المزيد من التسلح وتطوير الآلة القتالية، التي من شأنها تحسين أداء الجيش ورفع احتمالات وقاية الجبهة الداخلية من الصواريخ وحسم الحروب المقبلة بـ"نصر مؤزر".
أما المفاجآت التي انطوت عليها هذه الحرب فهي تندرج ضمن العناوين الرئيسة التالية: الصواريخ المتطورة المضادة للدبابات، صواريخ أرض- بحر، كمية إطلاق الصواريخ نحو العمق الإسرائيلي، طريقة محاربة مقاتلي "حزب الله" ومنظومة القيادة والاتصال والسيطرة وما إلى ذلك.
بيد أنه لا ينبغي أن تفوتنا، على سيرة مفاجآت الحرب، ضرورة التنويه بمراعاة أن إفراط بعض المعلقين في الحديث عن هذه المفاجآت ربما يستهدف التقليل من تداعيات الإخفاق الإسرائيلي وعدم خلخلة صورة الجيش، خصوصًا إذا ما أخذنا في الحسبان صدور تصريحات عديدة عن مسؤولين عسكريين وسياسيين أكدوا فيها أن كل ما دار في هذه الحرب لم يكن مفاجئًا من ناحية إسرائيل.
***************
تتوزع مواد هذه الورقة على قسمين:
الأول- يشمل المقالات والتقارير التي ارتأينا اختيارها لتغطية المحور العام.
والقسم الثاني يضم مداخلات تحاول أن تعرض بعض الخلفيات للسجال الدائر حول أداء الجيش الإسرائيلي، وفي طليعة ذلك البحث في مفهوم أو نظرية الأمن الإسرائيلية.
وبودي أن أشير على نحو خاص، في القسم الثاني، إلى مداخلة الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة، موشيه يعالون، بعنوان "الجيش والروح الإسرائيلية". فهذه المداخلة يمكن إدراجها في نطاق ما اعتبرناه، حتى من قبل اندلاع هذه الحرب، جهدا إسرائيليا، يظهر أنه منهجي ومبرمج، ينصبّ في غاية إعادة هندسة "الروح الإسرائيلية" حول الأمن، الذي يحيل مباشرة إلى أولوية الجيش على ما عداه.
بطبيعة الحال لا يضنّ يعالون في الهجوم على قرارات المستوى السياسي، إن لجهة ما هو متعلق بخطة الانفصال عن غزة، وإن لجهة مضمون البحث في مبنى الجيش ونظرية الأمن.
وما قد يهمنا أنه في هذا الموضوع الأخير يشدّد يعالون، بوجه خاص، على موضوع "توزيع العبء الأمني" على جميع السكان اليهود، الذي يؤكد أن الجيش يؤيده على الدوام لكنه لا يفلح في تطبيقه بسبب قرارات المستوى السياسي، فيكتب في هذا الشأن قائلاً: "يعاني الشعور بالتضامن القومي (الوطني) من خلل جراء الوضع القائم الذي لا تؤدي فيه أجزاء أو فئات معينة من الجمهور الإسرائيلي أية خدمة عسكرية في الجيش، الأمر الذي يتسبب في توزيع غير متساو للعبء الأمني. من جهته يساند الجيش الإسرائيلي بثبات توزيعاً متساوياً أكثر للعبء، غير أن قرارات سياسية مختلفة حالت دون تطبيق هذا التوجه حتى الآن. هذه المسألة، التي لا يجوز الاستخفاف بها، لها انعكاسات حاسمة على صورة الدولة وأمنها".
وينطلق يعالون، من ثمّ، كي يعيد "صورة إسرائيل" إلى نقطة الارتكاز الرئيسة، التي ترى أن سرّ قوة إسرائيل ينسحب أيضًا، وكاد أن يقول أساسًا، فضلاً عن نوعيتها البشرية وعن الإنجازات العلمية والتكنولوجية التي تضعها في طليعة دول العالم، على ما يتعلق بالقوة العسكرية لإسرائيل. "فقد تمكنت إسرائيل من تطوير وبناء قوة عسكرية متقدمة بمقاييس عالمية، وتمنح التكنولوجيا العسكرية المتوفرة حالياً للجيش الإسرائيلي تفوقاً حاسماً لهذا الجيش في مجالات دقة النيران وسرعة الحركة وجمع المعلومات وغيرها. ويتيح تطوّر القدرة الاستخباراتية للجيش الإسرائيلي رصد وتحديد أهداف ونقل معلومات في زمن حقيقي إلى مستوى متخذي القرارات، وإصابة الهدف إصابة دقيقة ومباشرة قدر الإمكان. هذه القدرات تُتَرجم إلى قوة عسكرية ملموسة وليس فقط في مجال محاربة الإرهاب".
لكن جوهر ما يقول به يعالون علاوة على كل ذلك إنمّا يتحدّد في أن مناعة إسرائيل الاجتماعية منوطة، أكثر شيء، ببقاء الجيش الإسرائيلي "جيش الشعب":
"إن الخدمة في الجيش تشكل فرصة ثمينة لتحقيق التقارب والألفة بين الأفراد من المجموعات السكانية المختلفة، وهو ما يشكل جانباً كبيراً من دور الجيش الإسرائيلي كـ "جيش الشعب". لكن ومع الأسف الشديد، فإن هذا الدور أيضاً أضحى محور خلاف. وقد طرحت مؤخراً مقترحات مختلفة لتحويل الجيش الإسرائيلي من "جيش الشعب" إلى جيش مهني. هذا النقاش سابق لأوانه حسب اعتقادي، ذلك لأن الجيش الإسرائيلي سيكون مطالباً، في ضوء التهديدات الآنفة الذكر، بالاستمرار في الحفاظ على حجمه الحالي، وعلى الأقل في المستقبل المنظور".
على ما يبدو فسيبقى الجيش الإسرائيلي "جيش الشعب" حتى إشعار آخر، في ضوء حقيقة أن اللجنة الخاصة بإعادة النظر في مفهوم أو نظرية الأمن الإسرائيلية (برئاسة الوزير وعضو الكنيست السابق دان مريدور) أوصت هي كذلك بهذا الأمر، في إطار توصيات أعمّ وأشمل عرضنا لها بالتفصيل المناسب.
لكن من الواضح في الوقت ذاته أن هذه التوصية وخلاصة يعالون تشكلان محاولة للهروب إلى الأمام من مترتبات الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية على تلك المناعة، التي على ما يظهر بدأت تطول بعض المسلمات الصنمية المرتبطة بالأمن.
وفي هذه المحاولة فإن "لجنة مريدور" وم. يعالون لا يقفان بمفردهما.
ويثبت هذا الأمر، ليس على سبيل الحصر، ما ورد في وثيقة "مؤتمر هرتسليا السادس (2006) حول ميزان المناعة والأمن القومي لإسرائيل" في شأن روح الأمن، حيث ورد بالحرف ما يلي: "على أرضية الوضع الإستراتيجي المريح نسبياً للدولة (إسرائيل) أخذ الشعور بالتهديد الوجودي يخبو شيئاً فشيئاً. في الوقت ذاته ازداد الانشغال بموضوع الجيش (الإسرائيلي)، من حيث حجمه الضروري وحجم الاستثمار المطلوب فيه، وذلك في ضوء انتقال التأكيد أو الاهتمام الأساسي لينصب على الاحتياجات الاجتماعية. وعلى ما يبدو فإن روح الأمن أخذت تفقد من أهميتها إزاء الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وإزاء أن المجتمع الإسرائيلي لم يعد مجتمعاً مُجنَّداً".
وتتابع "الوثيقة":
"عند إعادة النظر في سلم الأولويات القومية لا بد من أخذ النقطتين التاليتين بعين الاعتبار:
أولاً- أن ميزانية الأمن انخفضت في السنوات الأخيرة بدرجة كبيرة- من 23 % من ميزانية الدولة سنة 1970 إلى 17 % أو 18 % حالياً. وقد انخفضت الميزانية الأمنية خلال خمس سنوات بصورة تراكمية بمبلغ مقداره 17 مليار شيكل.
ثانيًا- الدور الاجتماعي الذي يضطلع به الجيش الإسرائيلي في مجال التربية والتعليم وتقديم العون الاقتصادي للجنود وحتى في مجال "تهويد" الكثيرين من المجندين.
والسؤال المطروح: هل يتعين على الجيش الإسرائيلي أن يبقى كـ "جيش الشعب"؟.
في دولة إسرائيل لا يمكن الاحتفاظ بجيش لا يقوم على التجنيد الإلزامي (أي "جيش الشعب")، إذ أن جيش المتطوعين سيكون متوسطاً أو دون المتوسط في مستواه، ولن يكون ملائماً للواقع الإسرائيلي".
هذه النتيجة تقتضيها أيضًا، وفقما يتبين في سياق الوثيقة ذاتها، بعض المحصلات التي توصل إليها "استطلاع الوطنية الإسرائيلية" الأول من نوعه، والتي عرضت في المؤتمر المذكور، ومنها ما يلي:
- هناك "نكوص في الوطنية" بمرور الأجيال. ففي صفوف الشبان (الإسرائيليين) الذين تَشكَّل وعيهم في الجيل الأخير، يُلاحظ وهن واضح في عامليّ التضحية والأصالة. وعلى سبيل المثال، فإن عدم الاستعداد للقتال دفاعاً عن الدولة لا يظهر تقريباً لدى الكبار من أبناء الجيل الذين ولدوا إبان سنوات إقامة الدولة، في المقابل يظهر عدم الاستعداد هذا لدى شخص واحد من بين كل سبعة شبان يهود (14 %)، كذلك أفاد اثنان من بين كل خمسة شبان (44 %) أنهم سيغادرون الدولة إذا كان مستوى حياتهم سيتحسن بصورة ملموسة في الخارج.
- يلاحظ وجود اغتراب في صفوف ذوي المداخيل المتدنية من الجمهور اليهودي، إذ أن هؤلاء هم الأكثر تردداً فيما يتعلق بالاستعداد للمحاربة دفاعاً عن الدولة ولا يبدي حوالي عشرهم أي استعداد لذلك (9 %)، كذلك يبرز لديهم إحجام واضح عن وصف أنفسهم كـ "وطنيين متحمسين".
وفي ضوء الأجندة الاقتصادية- الاجتماعية للحكومة الحالية، كما للحكومة السابقة، التي تفيد بانتفاء الرغبة والميزانيات لإيقاف التدهور المتسارع للوضع الاقتصادي- الاجتماعي، فإن الأمن هو الملاذ المرتجى لتمتين أواصر "اللحمة الوطنية" ولصبغ "الروح الإسرائيلية".
أمّا بالنسبة لماهية العلاقة بين المستويين العسكري والسياسي فليس من شأن ما قيل على لسان يعالون أن يشي بوجود خلاف يصل إلى حدّ التناحر بينهما، سواء فيما يخص المثال العيني الذي أورده أو فيما يتعلق بتاريخ هذه العلاقة على مرّ سنوات وجود إسرائيل.
هذا لا يعني أو لا ينبغي به أن يعني عدم وجود "الكثير من الخلل" في هذه العلاقة. وهو موضوع أعادته أحداث الحرب على لبنان إلى صدارة الاهتمام من جديد.
وللمعلومية فقد سبق للرئيس السابق لمركز "يافه للدراسات الإستراتيجية" (جامعة تل أبيب)، أن رأى أن الوضع في إسرائيل على هذا الصعيد خطير وغير سليم، ذلك لأن الجيش يحتكر لنفسه مهمة تفسير الواقع (وإن كانت الأمور غير محدّدة بهذا الشكل بموجب ما ينص عليه القانون). وأضاف: في الوقت الحالي نجد أن شعبة الاستخبارات العسكرية مطالبة بتجاوز مجال عملها- التقويم الاستخباراتي للوضع- والقيام أيضاً بإعداد وتقديم تقييم للوضع القومي العام.
وكان خبير إسرائيلي آخر أشار إلى أن مثل هذا الوضع غير قائم البتة في أية دولة ديمقراطية. وهو ما حدا بأحد المفكرين الإسرائيليين إلى رؤية أن الإخفاق العسكري في حرب لبنان الثانية هو، بكيفية ما، انتصار للديمقراطية.
لكن بحسب ما نرى ونلمس ونسمع قد لا يكون لهذا الانتصار، إذا صحّ أنه كذلك، أثر تحويلي بالغ على مستقبل التفكير الرسمي والشعبي، في ضوء الحقيقة البسيطة التي تظهر أن المزاج الإسرائيلي العام ما زال مقتنعًا بأنه يتوجب "محو عار" هذا الإخفاق العسكري وبالتالي فإنه يتحرّق شوقًا، ومعه أغلب قادة المستويين العسكري والسياسي، لجولة حربية أخرى تثبت أن بمقدور الجيش الإسرائيلي أن ينتصر وأن ذلك الإخفاق هو "لمرة واحدة"!.
المصطلحات المستخدمة:
هرتسليا, هآرتس, لجنة الخارجية والأمن, جيش الشعب, عوزي, تهويد, مؤتمر مدريد, الكنيست, رئيس الحكومة, عمير بيرتس