المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المكتبة
  • 1566

منذ عام 1948 وحتى أيامنا الحالية شهدت مكتبتنا العربية سيلاً من دواوين الشعر وكتب التدريس في شتى المواضيع الدراسية للمدارس العربية في مختلف مستوياتها الابتدائية والثانوية، كما صدرت مجموعات من القصص وبعض الروايات وكتب النقد. الا أن الأبحاث الفلسفية والتاريخية كانت قليلة جداً حتى الآن. ونحن نذكر المرحوم الدكتور اميل توما ومساهماته الكثيرة في كتابة التاريخ والنقد الادبي والفكر السياسي ، كما كان الكاتب المرحوم بولس فرح قد ساهم بدوره في هذا المجال.

 

الكتاب الذي نحن بصدده في هذه المقالة هو للباحث والمؤرخ الدكتور جوني منصور بعنوان "مسافة بين دولتين – قراءة معاصرة لفكر افلاطون والفارابي السياسي". والكتاب عبارة عن قراءة بمعايير معاصرة للفكر السياسي الفلسفي الاسلامي واثر الفكر اليوناني في الفلسفة العربية-الاسلامية. من هنا يعتبر هذا الكتاب غريباً أو قل جديداً في منحاه لأنه يدرس موضوعا فلسفيا حول ماهية الدولة لدى افلاطون صاحب كتاب الجمهورية المنسوب اليه وبين مفهوم الفيلسوف العربي الفارابي ونظريته حول ماهية الدولة كما تراها الفلسفة العربية الاسلامية.

مؤلف الكتاب الدكتور جوني منصور هو باحث ودارس لموضوع التاريخ ومتأثر بالنهج العلمي المعاصر في دراسته المقارنة هذه. لذلك يعتمد مختلف المراجع في التدليل على وجهات نظره بأسلوب علمي وتحليلي، ويترك لعبقرية القارئ استنتاج الصحيح من المصادر المذكورة، وهو يشكك احياناً في صحة الحقيقة التاريخية اذا ما بدت مبالغا بها فلا يقع في مطبات الخطأ التي وقع فيها مؤرخون مسلمون من امثال ابن خلكان في كتابه"وفيات الاعيان"(1211-1282)، الذي يبالغ في قوله ان الفارابي عرف سبعين لساناً،أي لغة! فمن اين اتى ابن خلكان بهذه المعلومة؟! وهل يُعقل ذلك؟! ولماذا درس سبعين لساناً وكيف توصل الى دراسة هذا العدد الهائل من اللغات؟!

عندما كتب ابن خلدون مقدمته "العبر في المبتدأ والخبر" ووضع فيها أُسس علم التاريخ وعلم الاجتماع حذّر من مثل هذه المبالغات التي يقع فيها المؤرخون، خاصة اذا لم تكن معلوماتهم من مصدر اول بل نقلاً عن..! وهذا النقل عن دون التحقق من صحة المصدر يوصلنا كباحثين الى الخطأ، ومن ثم الى المبالغة غير العلمية.

 

من هو الفارابي؟

 

ولد الفارابي في قرية وسيج بإقليم فاراب في شمال ايران عام 870 ميلادية وعمّر ثمانين عاماً أي حتى عام 950 م حيث توفي ودفن في دمشق. وهو يعتبر بحق اول فيلسوف عربي مسلم ذي مذهب فكري. فقد درس علوم الدين واللغة والفقه والتفاسير والعلوم الطبيعية والفلسفية والرياضيات والموسيقى وغيرها.

ولما بدأ اهتمامه بالفلسفات العالمية، انتقل الى بغداد وهي اول مركز علمي في الدولة العباسية والى جانبها مراكز اقل اهمية منها مثل حلب، دمشق، الاسكندرية، والبصرة وغيرها. ونظراً لشغف الفارابي بالمنطق والفلسفة فقد لُقّبَ بلقب "المعلم الثاني"، والمعلم الاول هو "ارسطو".

 

 

 

 

مؤلفاته:

 

ما وصل الينا من كتابات الفارابي 31 كتابا، تقسم الى مجموعتين، هما:المجموعة الاولى:كتابات في الفلسفة والمنطق. المجموعة الثانية: كتابات في الفيزياء والميتافيزيقا والاخلاق والرياضيات والسياسة والموسيقى. وقد ترجمت بعض كتبه الى عدة لغات عالمية، كما ترجم بعضها الى اللغة العبرية ولو انه لم يحظَ بشعبية كبيرة كما حظي تلميذه ابن سينا.

اهتم الباحثون والمفكرون العرب بدراسة الفارابي فعقد مؤتمر كبير في بغداد عام 1975 لدراسة الفارابي فكرا وفلسفة وتاريخا.

 

ابواب الكتاب:

 

يقسم كتاب الدكتور جوني منصور "مسافة بين دولتين" الى ثلاثة ابواب هي :

 

الباب الاول: ويحوي مقدمات عامة عن التاريخ العربي والفكر العربي منذ الجاهلية وحتى العصر العباسي.

الباب الثاني: وهو المركزي في الكتاب ويتمحور حول فكر افلاطون السياسي وفكر الفارابي السياسي مع مقارنة بين فكر كل منهما وماهية الدولة كما يراها فيلسوف الاغريق وكما يراها فيلسوف العرب والاسلام.

اما الباب الثالث فيتحدث عن فكر الفارابي بين النظرية والتطبيق.

 

الفلسفة العربية الاسلامية:

 

تميزت هذه الفلسفة بوجود ثلاثة تيارات فيها هي:

التيار الاول ينادي بعروبة الفلسفة التي نادى بها فلاسفة مسلمون ومسيحيون عرب.

التيار الثاني نادى بفلسفة اسلامية محضة لا علاقة لها بفلسفات اخرى.

اما التيار الثالث فيرى في الفلسفة العربية استمرارا لفلسفات اخرى سبقتها، وان الفلسفة الاسلامية يجب ان تشق طريقها الوسط بحيث تتناسب مع الفكر الانساني الذي يناسب الاحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية آنذاك.

ولما كان الفكر العربي قد حظي بخلفاء شجعوا العلم والمتعلمين امثال الرشيد والمأمون وبملوك امثال سيف الدولة الحمداني في حلب، فقد انتشرت المدارس الفكرية في العالم العربي واشتهرت من بينها مدرسة المعتزلة التي تأثر بها الفارابي واثر فيها. وقد طرحت المعتزلة من بين طروحاتها الكثيرة ولأوّل مرة ما مفهومه: "ان العقل هو المقياس الوحيد لحل القضايا والمسائل التي تواجه الانسان في حياته اليومية".

 

الدولة الفاضلة لدى الفارابي:

 

يعتقد الفارابي ان الانسان مخلوق اجتماعي لا يستطيع ان يعيش بمفرده وأن يوفّر لنفسه كل احتياجاته، فهو مخلوق مدني لا يتكامل الا مع الاخرين. ولذلك فالدولة التي هي ظاهرة طبيعية وطبيعة الانسان تدعو الى الارتباط مع الاخرين فإن الدولة توفر له هذه الحاجة.الا ان الارتباط بالاخرين وهم كُثُر يخلق مشاكل عديدة تحتاج الدولة الى تشريع خاص ينسق هذه العلاقات. والانسان من حيث كونه انسانا يحتاج الى من يدعمه من جهة والى من يمنعه من جهة. يدعمه في اعماله ورعايته ومشاريعه، ويمنعه من الخروج عن الانظمة والقوانين التي تشرّعها الدولة، تلك الدولة التي اختارها بنفسه ليعيش فيها.

يعتقد الفارابي ان الانسان يعمل ويبحث من خلال عمله عن الصفات الفاضلة وذلك حتى يصل الى الكمال ومن ثم الى السعادة، فهدف الدولة توفير الحياة والامان والعمل لكل مواطن كي يصل الى السعادة والكمال. ومع انه درس الفكر اليوناني والفلسفة اليونانية، الا انه في مدينته الفاضلة لم ينس انه عربي مسلم وان الاسلام الحقيقي الصحيح هو الضمانة. لذلك فقد حرص على فهم او إفهام النظرية من جهة، وعلى امكانية تطبيقها من الجهة الاخرى، لانه ما قيمة النظرية اذا لم تطبق في حياة الواقع؟! من هنا فقد اهتم بالمزج بين النظرية العلمية والمشاهدة قبل التطبيق لان المشاهدة هي ضمان نجاح التطبيق.

واذا قارنا فكر افلاطون بفكر الفارابي كل في مدينته الفاضلة لوجدنا ان افلاطون يقسم العالم الى قسمين يوناني وبرابرة! اما الفارابي فنظريته تتمحور حول الضرورة العالمية. ومعنى ذلك ضم واحتواء كل الموجودات في جسم واحد يترأسه رئيس واحد. والدولة لديه كجسم الانسان تشترك كل اعضائه بتفاعل كبير وانسجام فيما بينها لحمايته، ولها عضو واحد هو الرئيس-أي القلب- وباقي الاعضاء تتعاون معه. وتترتب الوظائف في الدولة للمواطنين كل حسب معرفته ودرجته العلمية بحيث يقف الفلاسفة في المرتبة الاولى ويأتي العاملون في مجال الدين في المرتبة الثانية، تليهم عامة الشعب في المرتبة الثالثة. وهذا ما يسمى المبنى الهرمي للدولة الفاضلة او المدينة المثالية لدى الفارابي. وبينما يعترض افلاطون على التطور الاجتماعي والفكري أي الحركة بين الطبقات، يرى الفارابي ان الانتقال من طبقة الى اخرى ممكن وذلك لان الاسلام كدين اكد انه لا فضل لمسلم على غير مسلم الا بالتقوى ! وهكذا يستطيع كل من يشاء الانتقال من مكانة الى اخرى اذا حصل تقوى ومعلومات . كذلك يحدد مواصفات الرئيس في اثنتي عشرة صفة وتوفرها شرط في انتخابه وتفضيله على غيره عند الانتخاب (راجع ص 84).

 

مبدأ العدالة والمساواة عند الفارابي:

 

كان افلاطون قد ركّز على ان الانسان يجب ان يعمل حسب مواصفاته ويأخذ المقابل الذي يتناسب معها. وقد تبعه الفارابي في ذلك ودعا الى المساواة حسب الشريعة الاسلامية. وبموجب ذلك فإن العدل لا يقام على قاعدة المساواة المطلقة بل حسب قاعدة المساواة النسبية! ولذلك فهو يربط بين العدل التوزيعي والعدل القانوني والحاكم او القاضي هو المحكم بالحفاظ على حقوق كل انسان، على املاكه المنقولة وغير المنقولة، لانه قبل الدولة كان العدل الطبيعي محصوراً على القوي. فالعدل اذن هو التغالب، بينما العدل في مدينة الفارابي الفاضلة يأتي على يد الحاكم /الفيلسوف الذي يوزع خيرات الدولة بطريقة نسبية على جميع المحتاجين والمعوزين.

سعى الفارابي من وراء العدالة والمساواة للوصول الى السعادة، وهو لذلك يسمى فيلسوف السعادة. من هنا فقد كان يفحص كل مؤسسات الدولة ودور الموظفين على قاعدة :هل حقق ذاك السعادة للمواطنين ام لا . واذا كان الانسان الفرد لا يستطيع الوصول الى السعادة لوحده فإن من حقه الحصول على ارشاد ومساعدة توصله اليها. وهنا يأتي دور الحاكم في توصيل كل مواطن فرد الى السعادة ضمن اطار الدولة المثالية.

ان من واجب الدولة الديموقراطية الحديثة توفير ثلاثة امور اساسية للمواطن وهي: ضمان حق الحياة وحق الملكية وحق السعادة والحرية. والدولة التي لا تضمن للمواطن هذه الامور ليست دولة ديموقراطية . والفارابي كان قد توصل الى ان واجب الدولة الاساسي هو ضمان امرين الاول ضمان حق الحياة والثاني حق السعادة، وهو بذلك يكون قد اعد الطريق امام فلاسفة ما قبل الثورة الفرنسية امثال فولتير وروسو وغيرهما الى هذه الواجبات الثلاثة. وبالنسبة للملكية الفردية فقد دعا الفارابي الى توزيع الاملاك بموجب نظرية المساواة النسبية.

من كل ما ذكر سابقا يستنتج المؤلف الدكتور جوني منصور ان الفارابي كان ثوريا في طروحاته الفكرية حيث حاول الربط بين الفلسفة اليونانية والفكر الاسلامي كدين ودولة، ولذلك فإنه-أي الفارابي- لم يتحرر من فكرة ربط الدين بالدولة، ولذلك فإن جل اهتمامه تمركز حول التوفيق بين الفلسفة اليونانية التي هي علمية فأدخل عليها بعض التعديلات لتتلاءم مع الفكر السياسي الاسلامي. وهكذا يكون قد وضع حجر الاساس للفلسفة السياسية الاسلامية فكان رائدا في هذا المجال.

 

اخيرا بعد مطالعة كتاب "مسافة بين دولتين" وجدت امرين اثنين كان يتوجب الانتباه اليهما :الاول وقوع عدد من الاخطاء المطبعية واللغوية، والثاني انه كان من المفيد توجيه عناية القراء الى وجود جوانب مضيئة اخرى غير السياسية في حياة ومساهمات الفارابي الفيلسوف، فقد كان علاّمة كبيرا في كل فن بدءاً بقواعد اللغة العربية وانتهاء بالموسيقى، فهو الذي اخترع الة القانون التي تحمل اثنين وسبعين وترا وتعطي اربعة سلالم موسيقية شرقية الامر الذي لم يسبقه اليه احد من قبل. وما زالت هذه الالة تستعمل حتى يومنا هذا في الفرق الموسيقية الراقية الملتزمة.

تحياتنا وتقديرنا الى الدكتور جوني منصور على هذا المجهود الجبار بإصدار هذا الكتاب القيّم الذي اضاء جوانب فكرية وسياسية في حياة الفارابي واثره على مجرى الفكر السياسي في العالم العربي – الاسلامي في عصره. هذا الكتاب – بدون ادنى شك- يُغني المكتبة العربية برؤية جديدة للفكر السياسي اليوناني والعربي-الاسلامي.

والى اللقاء في كتب قادمة ان شاء الله!

 

المصطلحات المستخدمة:

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات