المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

د. خولة أبو بكر: المجتمع العربي في إسرائيل في حالة تغيّر مكثف ودائم

أجرى المقابلة: وديع عواودة

رغم ممارسات التهجير والاقتلاع التي رافقت زلزال النكبة عام 1948 بقي في فلسطين نحو 150 الف انسان تشبثوا بوطنهم داخل اقاليم الجليل والمثلث والنقب، امسوا اليوم مليوناً وربع المليون نتيجة الزيادة الطبيعية (5.3% مقابل 5.1% لدى اليهود)، 70% منهم دون جيل ال 30 عاما. لكن اصحاب الدار وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها أغراباً في وطنهم يساومهم المحتل على هويتهم وحقوقهم بعد ان سلبهم الأوطان وفرض عليهم الجنسية الاسرائيلية ومنذ ذاك اليوم يعاملون من قبله كمواطنين بلا مواطنة ومن الدرجة الثالثة.

لكن ظلم ذوي القربى يظل اشد مضاضة، فبعد ان ترك هؤلاء كالأيتام لم يسلموا من وصمة "التخوين" لمدة طويلة بجريرة "خطيئتهم" بالبقاء على أرض الوطن حتى انفجرت انتفاضة يوم الأرض الاول عام 1976 فبدأت "صورتهم" تتغير للأحسن في نظر أشقائهم العرب. ورغم اعتماد نظام التمييز والكبت والحرمان معهم من قبل السلطات الاسرائيلية طوال نحو ستة عقود لم يسترح فلسطينيو الداخل من نظرة التشكيك التي يرمقها بهم العالم العربي غير المتفهم لخصوصيتهم من ناحية تجربتهم القاسية ومن حيث واقعهم الراهن. ولم تنجح المساعي الرسمية الجبارة والمستديمة من أجل اسرلتهم وسلخهم عن آمال وآلام شعبهم وامتهم بواسطة جهاز تعليم قدر له ان يسيطر عليهم ويشوه انتماءهم ويقطع فرعهم من الشجرة الفلسطينية، فما كان سائرا بالأمس لم يعد يسري اليوم لا سيما ان الاجيال الشابة مختلفة في توجهاتها عن جيلي النكبة والنكسة.

حول قراءة التغييرات المهمة التي يشهدها الفلسطينيون في إسرائيل تحدثنا الى الدكتورة خولة أبو بكر، المحاضرة في مجال علم الاجتماع والتي كانت أصدرت عدة كتب آخرها كتاب مهم بعنوان "الجيل المنتصب القامة" بالاشتراك مع عالم الاجتماع الاسرائيلي د. داني رابينوفيتش(صدرت ترجمته العربية أخيرًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية، –"مدار"، في رام الله) .

في اللقاء توجهنا اليها بالأسئلة عما اذا نجحت اسرائيل في تطويع المواطنين العرب أم انهم نجحوا بالتحايل على الاسرلة؟ وكيف أسهمت الدولة العبرية في عودتهم للبحث عن الجذور من حيث لا تدري؟ وبماذا يختلف الجيل الثالث منهم عن جيلي الآباء والأجداد؟. كما أعربت ابو بكر عن رأيها بالتمثيل العربي في الكنيست الاسرائيلي وبالفرصة التاريخية التي أضاعتها القيادات العربية. كذلك أوضحت الدور الذي كان بإمكان هذه القيادات لعبه في مفاوضات السلام بين الشعبين.. من خلال الحوار التالي:

(*) "المشهد الاسرائيلي": ضمن متابعتك وقراءتك لمسيرة المجتمع العربي داخل اسرائيل اين يقف هذا المجتمع بين التقاليد والحداثة؟

- نحن مجتمع في حالة تغيّر مكثّف ودائم وذلك لتعرضنا لعدة مؤثرات منها اللقاء مع حضارات مختلفة، اذ نتبع لعدة ثقافات: الشرق اوسطية والاسلامية والفلسطينية بكل ما تحويه من تاريخ وثوابت، هذا اضافة الى تأثير الثقافة الاسرائيلية التي أجبرنا على التفاعل معها طوال 55 عاما. خلال هذه الحقبة فرضت علينا أمور، فيما تبنينا اموراً أخرى. وليس كل شيء هو تقليد اعمى، ومن الطبيعي ان تتأثر اقلية بثقافة الاغلبية كونها هي السائدة من حيث العدد والقانون فالمجتمع غير قادر على تجميد نفسه مدة نصف قرن من دون ان يتأثر بالثقافات المحيطة به.

ومنذ النكبة شهد فلسطينيو الداخل تحولات اجتماعية مهمة أبرزها ما يتعلق بتعليم المرأة العربية بفضل انضمام البنات للمدارس، ولذلك لا مجال للمقارنة بين ما كان وبين ما نحن عليه من هذه الناحية، وهكذا بالنسبة للعمل فقد حصل تغيير كبير. بالمجمل يمكن القول ان هنالك اعادة صياغة للعادات والتقاليد وللثقافات المختلفة والنقاش الداخلي حيالها أسهم ويسهم في ذلك.

(*) "المشهد الاسرائيلي": طالما استخدمت اسرائيل المدرسة أداة للسيطرة وللتطويع بدلا من ان تكون أداة تغيير، الى أي مدى نجحت في ذلك؟

- طالما كان جهاز التعليم أحد الاذرع التي اعتمدتها المؤسسة لتحويل الفلسطينيين الى اسرائيليين وذلك من خلال تحكهما بإدارات ومعلمي المدارس والمضامين التعليمية. في الدول الاخرى يسعى جهاز التعليم الى اعداد الطالب كي يكون مواطنا، أما في اسرائيل فقد استخدم في محو فلسطنة الانسان الفلسطيني وترسيخ اسرائيليته وتأكيد كونه ابن اقلية ومشطوراً عن أي انتماء وكأن وجوده على الأرض ابتدأ بعد قيام الدولة العبرية عام 1948.

(*) "المشهد الاسرائيلي": الى أي مدى نجحوا في هذا المخطط؟

- بإمكانك ان تستجوب طلاب المرحلة الثانوية في معظم مدارسنا لتصل الى استنتاج سريع ان معرفتهم في مجال الثقافة الوطنية والتاريخ والهوية والدين ضحلة للغاية، وانهم لا يعرفون أي انتماء، وهذا طبعاً يقود الى القول ان المخططات الاسرائيلية نجحت، ولا سيما اننا نعاني غياب الاطر البديلة عدا بعض التجارب مثل بعض النوادي الثقافية ومشاريع الهوية التي ترعاها مؤخرا لجنة متابعة التعليم العربي ورحلات الطلاب الى القرى المهدمة. تاريخياً نحن لم ننجح بالتحايل على الاسرلة ولكننا نلحظ بالآونة الأخيرة محاولات اولية في هذا المضمار بفعل نشاطات بعض الاحزاب التي تربي على الفلسطنة الخالصة. منذ منتصف الثمانينات ظهرت على مسرحنا السياسي احزاب عربية مثل الحزب العربي والتجمع الوطني الديمقراطي والحركة العربية للتغيير والحركة الاسلامية وقبل ذلك نشطت أحزاب عربية يهودية فقط كانت تستهدف خدمة التعايش بين الشعبين. اليوم نشهد محاولات تجتهد في اعادة بناء الهوية الفلسطينية وهذه لم تنبت من فراغ انما تعود جذورها الى يوم الأرض الاول والى اتفاقات اوسلو أيضاً. بعد هذه الاتفاقات بدأنا نتحدث عن توفير مستقبل لنا أيضاً حتى لو تحقق السلام مع الفلسطينين في الضفة والقطاع.

(*) "المشهد الاسرائيلي": وكيف أسهمت عنصرية النظام الحاكم في اسرائيل في عودتهم للبحث عن الجذور؟

- نعم اسرائيل أسهمت في هذه المسيرة بفعل مجموعة تفاعلات ارتبطت بقيامها باقصائنا ووضعنا داخل "جيتو" سياسي حضاري . في سنوات الثمانينات فكر بعض قادة اسرائيل بدمج المواطنين العرب في قيادة ومؤسسات الدولة لكن ذلك ظل في نطاق الكلام الدبلوماسي ولم ينفذ. وبالطبع الصراع الاسرائيلي الفلسطيني يلعب دورا حاسما في بلورة هويتنا الفلسطينية.

(*) "المشهد الاسرائيلي": وكيف ستؤثر عملية بناء الهوية الفلسطينية للمواطنين العرب على علاقاتهم مع اسرائيل؟ هناك من يرى بذلك بداية سلوك سكة التصادم بينهما، ما رأيك؟

- لا، لا أعرف من الذي يتوقع التصادم نتيجة اعادة بناء الهوية الفلسطينية. الواضح انه عندما تعي اقلية ما ذاتها وتحترم هويتها واحتياجاتها، فان ابناءها سيناضلون من أجل حقوقهم باحترام وبشكل ناجع. نحن ندرك انه لا حل عسكريا او عنيفا لقضيتنا في الداخل ولذلك لا بد ان نسعى لاستخدام الرواية الاسرائيلية واللغة المفهومة للمطالبة بالحقوق القومية والمدنية وهذا ما يقوم به اليوم الجيل الثالث الذي يمتاز بالثقافة والوعي ولا يتقن اللغة العبرية فحسب انما يعرف ثقافة اليهود والاسرائيليين ويقرأ عقليتهم وانا اسميه الجيل المنتصب القامة.

وتعتبر د. خولة ابو بكر ان مهمة الجيل الثالث مختلفة تماما عن الجيلين السابقين: "آباؤنا من أبناء الجيل الأول ناضلوا بعد النكبة من أجل البقاء والتشبث بالأرض وضمان العمل اما الجيل الثاني فساهم في بناء المؤسسات الفاعلة. أما الجيل الثالث فيعمل اليوم على استعادة الهوية ويرفض ان يبقى اقلية مقموعة لكنه يستخدم الآليات التي تتيحها الدولة الاسرائيلية كالصحافة والجامعات والكنيست والجمعيات وذلك كي يؤهل نفسه للتحدث مع الآخر على قدم المساواة وبندية".

(*) "المشهد الاسرائيلي": وأين تقع المرأة العربية في هذا المشهد اليوم؟ ألا تزال غائبة أو مغيبة؟

- لم تغب المرأة العربية عن صناعة القرارات والانجازات بسبب اسرائيل انما ذلك هو من صنع ايدينا وبسبب تفسيرنا للثقافة الاسلامية. كمجتمع أبوي يعيش في اطار اقلية يشعر المجتمع الذكوري ان دورها في نطاق التدرج الهرمي المتاح هو دور محصور ولذلك فهو لا يفسح المجال امام المرأة العربية في المجال العام وفي قيادة المجتمع. ولذلك تحارب النساء العربيات وكأنها حربهن الذاتية. أما أحزابنا فهي شريكة بما يحصل اذ تنتهي ديمقراطيتها من هذه الناحية عند تزيين قوائمها الانتخابية ببعض اسماء السيدات في أماكن غير واقعية وهذا يعكس نفاقاً كبيراً في ممارساتها مثلما ان هذه هي الحال على المستوى الفردي اذ ما زال يخرج الرجل الى المظاهرة احيانا ويبقي زوجته في البيت وبالتالي فالسيدة العربية تقمع مرتين. وهنا اتهم بصوت عال غياب الديمقراطية عن ذهنية الرجل العربي لدينا. والسيدة حسنية جبارة على سبيل المثال كانت انتخبت للكنيست قبل بضع سنوات للمرة الأولى بعد ان حصلت على فرصة وفرتها الدولة للمجتمع العربي من خلال حزب "ميرتس". للأسف لسنا مجتمعا ديمقراطيا بعد ونحتاج الى مسيرة طويلة كي نصبح كذلك، اذ ما زلنا نحرم البنات من استكمال تعليمهن والعمل ونفرض عليهن الزواج المبكر. لكن لا تستطيع تجاهل التغييرات التي طرأت على مكانة المرأة العربية الا ان مقارنتها مع مكانة الرجل تعكس صورة سلبية.

(*) "المشهد الاسرائيلي": الأكاديميون العرب اليوم يعدون بعشرات الآلاف. كيف ترين مساهمة هؤلاء في تطوير المجتمع العربي في اسرائيل وتأمين احتياجاته؟

- أولاً هناك نسبة كبيرة من الأكاديميين العرب اليوم لكن الاوضاع الاقتصادية ادت الى تراجعها في السنوات العشر الاخيرة من 7.5% من مجمل طلاب الجامعات في اسرائيل الى 7% فقط. هؤلاء لعبوا وما زالوا يلعبون دوراً مهماً، فالكثير من قياداتنا السياسية والاقتصادية والفكرية هم أكاديميون وكانوا قادة الحركة الطلابية في الجامعات الاسرائيلية. لكن دورهم غير كاف ويبدو ان الهموم الاقتصادية التي نعيشها تدفع اعداداً من الاكاديميين الى البحث عن ذاتهم فقط بعيدا عن التفاعل الاجتماعي. كما ان نسبة لا بأس بها من النشطاء الذين يؤثرون في حياتنا الى الأفضل هم اناس مثقفون ليسوا أكاديميين.

(*) "المشهد الاسرائيلي": كيف تقيّمين اداء القيادات السياسية من "متابعة" و"قطرية" ورؤساء ونواب؟

- بالنسبة للنواب العرب هنالك قيمة رمزية لوجودهم في الكنيست. الجمعيات الاهلية تلعب دوراً أكثر اثراً في تغيير واقعنا ورفع سقف المساواة. مركز "عدالة" مثلا قادر على تعديل قوانين او متابعة قضايا عربية قانونيا أكثر من اعضاء الكنيست. وهكذا بالنسبة لجمعية اهلية تقيم روضة اطفال تسهم في التغيير الاجتماعي المرجو أكثر من لجنة المتابعة العليا لشؤون فلسطينيي الداخل. لقد اهدرت القيادات العربية داخل اسرائيل امكانية رقيها الى قيادة شمولية وحقيقية بدلا من ان تكون رمزية. في السبعينات والثمانينات بدأت تتبلور "لجنة المتابعة العليا لشؤون العرب في اسرائيل" كلجنة ناطقة باسم الجماهير لكنها أضاعت الفرصة عندما احجمت عن اقامة برلمان عربي وتكوين قيادة بديلة وانشغلت بالخلافات الداخلية بين مركباتها.

ولذلك فإن الجماهير اليوم لا تتفاعل معهم في قضايا حارقة بالشكل اللائق وينعكس ذلك بأن رئيس سلطة محلية في المثلث لا دالة له على المواطنين العرب في الجليل والعكس صحيح. وهذا يعني اننا افتقدنا ولا نزال شخصيات قيادية كريزماتية اصلية تعي دورها التاريخي بدلا من الانشغال بصراعات داخلية و انتظار تأشيرات من الدولة في تحركاتها.

(*) "المشهد الاسرائيلي": وكيف تقيّمين مساهمة فلسطينيي الداخل في التأثير في الرأي العام الاسرائيلي نحو انهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية؟

- أولاً نحن لم نوفق في استغلال قضية ناجحة مثل قضية المساواة بين المواطنين العرب واليهود. بالنسبة لخطابنا وتوجهاتنا بالتعامل مع الاسرائيليين اعتقد انه كان بإمكاننا لعب دور أكثر فاعلية لكن خشينا من تهمة العمالة ولا سيما اننا تعرضّنا من دون ذلك الى اتهام تاريخي من قبل الوطن العربي لأننا لا نسكن المخيّمات، ونتكلم العبرية، من جهة أخرى لم يول الاسرائيليون أنفسهم أهمية للقاء معنا، في عقلهم الجماعي عاملونا كاقلية خاضعة لهم.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, اوسلو, دورا, المثلث

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات