المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

مؤامرة "القرى غير المعترف بها" وصفة مضمونة لتجريد السكان البدو من الخدمات الاساسية من ماء وكهرباء ومدارس وشوارع * جرافات الهدم و"الدوريات الخضراء" تثير الهلع في قلوب الناس المتمسكين بأرضهم ومسكنهم، رغم قسوة الظروف وانعدام الحد الادنى من الشروط الانسانية المطلوبة * الجرافات التي تهدم البيوت في النقب هي الجرافات ذاتها التي تهدم البيوت في الجليل والمثلث، وهي الجرافات نفسها ايضا التي تهدم البيوت في جنين وخان يونس.."

تقرير: بلال ظاهر

تصوير: حسن مواسي

قبل ايام معدودة، وتحت وطأة الحر القائظ، داهمت قوات كبيرة من الشرطة الاسرائيلية، ترافقها وحدة من القوات الخاصة والجرافات، قرية الفرعة في المنطقة الشرقية من النقب وهدمت بيتاً كان اصحابه قد انتهوا من بنائه في الامس القريب، وراحوا يتأهبون للانتقال الى السكن فيه. في غضون اقل من ساعة اصبح البيت كومة ركام. لكن حجارته كانت لا تزال متلاصقة ببعضها البعض، كأنها تدعو اصحاب البيت الى اعادة بنائه، كما "جرت العادة" هنا في هذه القرى.

انها القرى العربية غير المعترف بها، اي التي لا تعترف بها السلطات الاسرائيلية، وعددها 45 قرية، يقطنها اكثر من 70 الف نسمة. ولأنها غير معترف بها، تفتقر هذه القرى الى جميع مقومات السلطة المحلية، مثل مسطحات ومناطق نفوذ وخرائط هيكلية، ولذلك فان البناء فيها محظور، ولا يوجد فيها اي نوع من البنى التحتية، وحتى انبوب المياه يمر بجوار هذه القرى من دون ان يمتد الى داخلها. ليس هذا وحسب، بل ان اهاليها لا يحصلون على اي نوع من الخدمات، من الدولة او من المؤسسات العامة الاخرى. لا يوجد فيها عيادات طبية، والمدارس مبنية بشكل بدائي جداً، وتتكون من مجموعة من الغرف المتنقلة او من الاسبست، وهذا في احسن الاحوال. فهناك صفوف دراسية تحت الشمس الحارقة او تحت مجموعة من الاشجار مَنَّ بها الله على المواطنين البدو في الصحراء القاحلة. لا توجد في هذه القرى مدارس ثانوية وخلال السنوات العشر الاخيرة لم ينه الدراسة الثانوية فيها سوى اربعة طلاب.

المسافر في شوارع النقب، في محيط مثلث الذ في زواياه مدن بئر السبع وعراد وديمونا (واسمها الاصلي هو ام دمنة، وكانت تسكنها عدة عشائر اكبرها عشيرة الهواشلة)، والذي يطلق البدو عليه "مثلث السياج". والمسافر في الشوارع التي تمتد داخل هذا المثلث، بامكانه مشاهدة بيوت القرى غير المعترف بها، وقد احاطها قاطنوها بالواح الصفيح وخصوصا الاسطح كي لا تتمكن السلطات من التقاط الصور من الجو. فالقانون يمنع في هذه المناطق تشييد ابنية مسقوفة.

السلطات الاسرائيلية دأبت على شق شبكة شوارع واسعة ومريحة تصل الى كل ركن في النقب، الذي حلم مؤسس اسرائيل دافيد بن غوريون بإحيائه وتوطينه بالمهاجرين اليهود القادمين من كل بقاع الكرة الارضية، ورصد الميزانيات الهائلة لتحويل الصحراء الى جنة خضراء عن طريق نقل المياه من بحيرة طبريا الى النقب. هذه الشوارع تتوقف عن كونها جميلة وواسعة ومريحة عند مشارف القرى غير المعترف بها لتتحول الى ترابية وضيقة ووعرة الى ابعد حد، ويتعذر على السيارات العادية ان تسلكها. ورغم ان زيارتنا الى القرى هذه جاءت في ايام الصيف، الا ان المرء لا يمكنه ألا يفكر بأيام الشتاء هنا، حيث تتحول الطرقات المغبرة الى موحلة.

الارض والترحيل

عملت السلطات الاسرائيلية منذ العام 1948 على تجريد العرب في النقب من اراضيهم، واستخدمت من اجل الوصول الى هذه الغاية كافة الوسائل والحجج. واهم هذه الوسائل واخطرها كان ترحيل المواطنين البدو عن اراضيهم، بالترغيب تارة وبالترهيب تارات.. علما ان عرب النقب الذين بقوا في تخوم دولة اسرائيل يشكلون 10% فقط من سكان النقب، اذ تم ترحيل الغالبية الساحقة منهم خلال نكبة فلسطين. والهدف من وراء ذلك يكمن في الاستيلاء على الاراضي اذ ان النقب يشكل حوالي نصف مساحة اسرائيل. ومن اصل مليون و300 الف دونم كان البدو يتملكونها في النقب لم يتبق منها بايديهم سوى 180 الف دونم. بل ان المعركة ما زالت تدور حول جزء منها.

لم تتوقف عملية ترحيل العرب من النقب عند هذا الحد، بل ان مخططات ترحيلهم مستمرة منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا دون توقف. في سنوات الخمسين من القرن الماضي رحلت السلطات الاسرائيلية مجموعة من "مواطنيها" العرب من اراضيهم الى مدينتي اللد والرملة والى مناطق اخرى في النقب بذريعة بناء مطار "نيفطيم". وفيما يجمع كافة الخبراء على ان هذا المطار لا يحتاج الى مساحة تزيد عن 25 الف دونم، اخلت السلطات الاسرائيلية البدو القاطنين في منطقة تفوق مساحتها عن 70 الف دونم، واعلنت عنها منطقة عسكرية مغلقة. ورغم ذلك لم تهتم السلطات الاسرائيلية بهؤلاء المطرودين من اراضيهم، خصوصا عندما نعلم ان بعضهم لجأ الى القرى العربية في النقب والتي كانت جميعها غير معترف بها، اما القسم الاخر الذي تم ترحيله الى مدينتي اللد والرملة فانه ما زال يعيش حتى يومنا هذا في مستوى اجتماعي واقتصادي متدن للغاية.

في العام 1966 اقامت السلطات الاسرائيلية، رغم معارضة البدو انفسهم، ثلاث بلدات في النقب، هي راهط وتل السبع وكسيفة، بهدف تجميع البدو في بقعة ارض ضيقة للغاية. وبعد سنوات تم تجميع قسم اخر من البدو في اربع بلدات اخرى اقيمت في مطلع السبعينات وهي: حورا واللقية وشقيب السلام وعرعرة النقب. ولا بد في هذا السياق من الاشارة الى امور جوهرية ذات دلالة واضحة على غاية مخطط تجميع البدو في هذه البلدات الاصطناعية، في ما يبدو انه اقتباس لمخطط تجميع الهنود الحمر في الولايات المتحدة.

الامر الاول يكمن في ان الهدف من اقتلاع السكان البدو الاصلانيين هو الاستيلاء على اراضيهم. وتؤكد ذلك المعطيات والحقائق على ارض الواقع. فمدينة راهط، كبرى البلدات البدوية السبع، يبلغ عدد سكانها نحو 36 الف نسمة ولا تتعدى مساحتها 12 الف دونم. في المقابل، اقيم بالقرب منها كيبوتس "بئيري" الذي يبلغ عدد سكانه 300 نسمة فقط، وتبلغ مساحته 12 الف دونم، علما ان هذا الكيبوتس لا يعمل سكانه في مجال الزراعة بتاتا وانما في مجال الطباعة وخصوصا طباعة الشيكات المصرفية. كذلك تمنح دولة اسرائيل العديد من الاشخاص، وجميعهم من اليهود، مساحات واسعة من الاراضي يتراوح حجمها ما بين 10 الاف الى15 الف دونم ليقيموا عليها المزارع الكبيرة. ويذكر ان من بين هؤلاء رئيس الحكومة الاسرائيلية، اريئيل شارون، الذي يملك احدى اكبر المزارع في النقب (مزرعة الجميز. والى هذه المزارع يتم شق الشوارع وتعبيدها ومدها بالمياه والكهرباء، وتمر هذه الشبكات بأطراف القرى غير المعترف بها ولكن من دون ان تمدها بالمياه او بالكهرباء، بل هناك حنفية ماء يأخذ منها اهل القرية الماء الى بيوتهم، اما شبكة الكهرباء فلا وجود لها في القرى العربية، الا بواسطة المحركات.

منذ اقامة دولة اسرائيل اقيمت 100 مستوطنة يهودية في النقب، ومعدل السكان في الواحدة منها 350 نسمة، وهم يتمتعون بكافة الخدمات التي يمكن ان تقدم للمواطنين، بل ان مستوى الحياة فيها اعلى من المعدل العام في اسرائيل عموما. وفي المقابل، فان القرى العربية غير المعترف بها يصل معدل السكان في الواحدة منها الى 1550 نسمة بدون اية خدمات. وفيما يتعلق بالخدمات الطبية، فهناك 8 عيادات فقط توفر الخدمات الطبية الاولية لاكثر من 70 الف مواطن في هذه القرى.

الامر الاخر الذي يجدر الاشارة اليه في سياق مخطط تجميع البدو واقامة البلدات هو اطلاق تسميات غير عربية على بعضها، بهدف محو الاسماء العربية من خارطة البلاد. فبلدة عرعرة النقب تم اطلاق اسم "عاروعر" عليها لدى اقامتها، ولكن اهالي البلدة توجهوا الى المحكمة العليا مطالبين بتغيير اسم بلدتهم الى عرعرة النقب وهو الاسم التاريخي للمكان. وقد استجابت المحكمة العليا الى مطلب الاهالي، الا ان المتجول في النقب يصادف لافتات كتب عليها اسم "عاروعر". اما بلدة شقيب السلام فاسمها يتحول بالعبرية، وبالانجليزية ايضا، على اللافتات في الطرقات وفي الوثائق الرسمية الى "سيغف شالوم"..

منذ العام 1948 تضاعف عدد العرب في النقب 14 مرة، في حين تضاعف عدد العرب في الجليل والمثلث 8 مرات. هذه المعطيات لا تتناسب مع المخطط الاسرائيلي القاضي بحصر اكبر عدد ممكن من عرب النقب في اصغر رقعة ارض مقابل جلب اليهود للسكن في اكبر مساحة ممكنة. ولم تكتف السلطات الاسرائيلية بالامتناع عن توفير حلول السكن لعرب النقب فحسب، بل انتهجت دائما سياسة هدم البيوت، بحجة البناء غير المرخص في القرى غير المعترف بها. من جانبهم، يقول المواطنون البدو ان البناء غير المرخص هو تحصيل حاصل للسياسة الاسرائيلية تجاههم، بسبب عدم الاعتراف بتجمعاتهم السكنية القائمة هناك منذ مئات السنين.

المشكلة الاساسية في النقب هي قضية الارض. وتدعي السلطات الاسرائيلية ان لا حق للبدو بالسكن فيها. ليس هذا وحسب، بل تعتبرهم "غزاة". وعلى مر السنين اقامت السلطات عدة هيئات لمعالجة امر هؤلاء الـ "غزاة". فقد شكلت ما يسمى بـ "الدوريات الخضراء" ومن ثم "دائرة تطوير البدو" وذلك اضافة الى "دائرة اراضي اسرائيل"، وتهدف هذه الدوائر جميعها الى اقتلاع العرب هناك من اراضبهم، بواسطة مخططات تجميع البدو في بلدات على غرار البلدات السبع آنفة الذكر. ويقول المسؤولون في المجلس الاقليمي ان خطة شارون المعلنة تهدف بحلول العام 2020 الى شطب اي ذكر للقرى غير المعترف بها في النقب.

لمقاومة هذه المخططات بادر المواطنون البدو في السنوات الاخيرة الى انتخاب لجنة محلية في كل واحدة من القرى غير المعترف بها، وشكلت هذه اللجان المحلية مجتمعة "المجلس الاقليمي للقرى العربية البدوية غير المعترف بها في النقب"، واصبح هذا المجلس الممثل الشرعي والوحيد لهذه القرى. ورغم ان السلطات الاسرائيلية لا تعترف بالمجلس الا ان ممثليه اصبحوا العنوان الوحيد لسكان هذه القرى، ويعود ذلك الى رفض المواطنين البدو لمخططات التجميع.

ويقول المسؤولون في المجلس الاقليمي انه منذ تشكيله توقفت تقريبا سياسة هدم البيوت في النقب، ولكن مع صعود شارون الى سدة الحكم عادت السلطات الى سياسة هدم البيوت. والصراع الان يدور حول السيطرة على 750 الف دونم تسعى الحكومة الاسرائيلية الى مصادرتها. والمشكلة هنا تكمن في ان بدو النقب لا يملكون كواشين الطابو التي تثبت ملكيتهم للارض. فقبل العام 1948 كان البدو يتخوفون من تسجيل الاراضي التي عاشوا فيها وتملكوها منذ قرون، بسبب سياسة الامبراطورية العثمانية في الزام مالكي الاراضي بدفع الضرائب وتأدية الخدمة العسكرية في جيشها. وعندما قامت دولة اسرائيل منحت البدو فترة شهرين لتسجيل اراضيهم، وهي بالتأكيد فترة غير كافية، حتى يعلم البدو بالامر، وبعد انقضاء الشهرين اعتبرت السلطات الاسرائيلية جميع اراضي النقب تابعة لملكية الدولة.

وفي الخطة الاقنصادية الجديدة التي اقرتها الحكومة الاسرائيلية، وصادقت الكنيست عليها هذا الاسبوع، ثمة بند فيها يتطرق الى قضية اراضي عرب النقب، وهو البند القاضي بتشكيل دوريات ووحدات خاصة من الشرطة لمعالجة امر "الغزاة على اراضي الدولة". وقد رصدت الحكومة في ميزانيتها مبلغ مليار و400 مليون شيكل لطرد "الغزاة" وتجميعهم في بلدتين جديدتين. الا ان المسؤولين في المجلس الاقليمي يقولون ان هذا المخطط ليس بجديد، ويؤكدون انه لم يعد قائما وان اعلان الحكومة الاسرائيلية عن نيتها الاعتراف بست قرى هو الدليل على ذلك. وهذه القرى هي: ام بطين وقصر السر ووادي عوين وام نميلة والقرين وام متنان. لكن المواطنين في هذه القرى ما زالوا يتخوفون من عدم تنفيذ الحكومة لوعودها.

في مقابل ذلك هناك مخطط لاقامة مدينة يتم فيها تجميع سكان 12 قرية. وقد اطلق على هذه المدينة اسم "مرعيت". ووفق المخطط سيتم اعطاء المواطنين البدو قطع ارض مقابل اراضيهم لمدة 49 سنة، بعدها يتم تجديد العقد!

يرفض الاهالي بشكل قاطع هذا المخطط، بل يرفضون التنازل عن اي من هذه القرى ومغادرتها للسكن في مناطق اخرى. ومن اجل الحفاظ على قراهم وتطويرها بادر المجلس الاقليمي الى وضع خطة لحل مشكلة القرى غير المعترف بها وتتضمن تصورا لخرائط هيكلية ومناطق نفوذ لهذه القرى. يرسم التخطيط شكل ووضع هذه القرى حتى العام 2020. ويعتبر بديلا للمخطط الحكومي وارتقاء في مستوى نضال المواطنين العرب في النقب. ولكن هؤلاء، في الوقت ذاته انتقدوا الاحزاب والهيئات الفاعلة في الساحة العربية داخل اسرائيل بسبب عدم ايلاء الاهتمام اللازم والكافي للمشاكل والقضايا التي يعاني منها المواطنون العرب في النقب.

قبل نحو السنتين اقدمت الشرطة الاسرائيلية على هدم غرفتين تم اضافتهما بدون ترخيص بناء الى بيت بني هو الاخر بدون رخصة بناء كونه يقع في قرية القطامات غير المعترف بها. وكانت حجة هدم الغرفتين الملاصقتين للبيت أنها بنيت في منطقة عسكرية!!! وقد تمت عملية الهدم في الساعة التاسعة صباحا فيما كان الاولاد في المدرسة. وعند الظهر، لدى عودة الاولاد من المدرسة صدموا من منظر الدمار الذي حل ببيتهم، خاصة انهم لم يتمكنوا من انقاذ اغراضهم الشخصية. احد الاولاد، الذي لم يتجاوز الثامنة من عمره، توجه الى حيث كانت غرفته وراح يبحث بين الحطام عن امر ما، وبعد ان عثر عليه اخذ يشده. كان ذلك سرواله. الا ان السروال تمزق من كثرة الشد اذ كان عالقا. فجلس الطفل فوق حطام غرفته واخذ يجهش بالبكاء. فقد تبين ان لديه سروالين، واحد يلبسه عندما يذهب الى المدرسة والثاني، ذلك الذي تمزق، يلبسه لدى عودته للعب.

احد النشطاء في النقب الذي التقيناه في اثناء جولتنا هناك، قال عندما كنا نقف قرب ركام البيت المهدوم في قرية الفرعة: "تكشف عمليات الهدم عن الوجه الحقيقي والبشع لاسرائيل. والجرافات التي تهدم البيوت في النقب هي الجرافات ذاتها التي تهدم البيوت في الجليل والمثلث، وهي الجرافات نفسها ايضا التي تهدم البيوت في جنين وخان يونس.."

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات