مضت الآن على دقة، عربي من إٍسرائيل، من مواليد باقة الغربية وفي الـ 42 من عمره، 18 سنة في السجن. قبل شهرين نُقل من سجن "شطة" إلى سجن عسقلان. وكسجين قديم وكبير السن نسبياً، تحوّل بشكل طبيعي إلى ما يشبه موجّهًا للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين الجدد، الذين بدأوا بغمر السجون الاسرائيلية، في السنتين الأخيرتين. موجّه ومشاهد. بالدهشة والألم، كما يقول، يشاهد الأسرى الشباب، الذين يزداد عددهم باطراد، والذين ألقي القبض عليهم في طريقهم لتنفيذ عملية إنتحارية. خلال 18 سنة درس تاريخ التنظيمات الفلسطينية عن طريق آلاف الأسرى الأمنيين الذين مروا في السجون، دخلوا وخرجوا. وهو يقول إنه من غير الممكن تجاهل الظاهرة الجديدة، الظاهرة العامة، من الشباب الذين قرروا وضع حدٍ لحيواتهم بهذه الطريقة الفظيعة، التي يعرّفها على أنها "غير أخلاقية" و"تضرّ بالمسألة الفلسطينية".
في أحد الأيام، في "نزهته" اليومية في باحة السجن ("الفسحة")، توقف "ن" للحظة وروى لوليد دقة عن اللحظة الحاسمة التي قرر فيها التطوّع للقيام بعملية إنتحارية في إسرائيل. كان ذلك خلال منع التجول الأول الذي فرضه الجيش الاسرائيلي عليهم، في المدينة. "لم يتجرأ أي مخلوق على التجول في الشوارع. فقد أطلق الجنودُ النارَ على كل من خرج، حتى إلى ساحة بيته. نظرتُ من الشباك إلى الخارج. فجأةً رأيتُ كلبًا يتجول حرًا في الشوارع، ويمرّ إلى جانب الجنود. الجنود لم يوقفوه، لم يطلقوا النار عليه. فكّرت بيني وبين نفسي في تلك اللحظة: إما أن أعيش حياةً أدنى من حياة الكلب، وإما أن أختار الاستشهاد". منذ تلك اللحظة بدأ "ن" الشاب، الذي لم يكن أكمل سنواته العشرين بعد، بالمحاولة لمدة أسابيع، عند ناشط معروف في "الجهاد الاسلامي" في منطقته، إلى أن وافق الأخير على إرساله إلى عملية في إسرائيل (العملية فشلت، وألقي القبض عليه).
استمع دقة إلى الدوافع الدينية من وراء قرار "ن"، بشكل منتظم، في لقاء أجراه معه، داخل السجن. ولكن دقة يشك في أن "ن" شعر بحاجة لأن يكون "تمثيليًا"، في اللقاء الطويل – بالذات لكونه منظمًا سلفًا، وشبه رسمي: أن يمثل الموقف الرسمي، الأيديولوجي، أن يموّه العناصر الشخصية التي في صلب قراره.
مضت الآن على دقة، عربي من إٍسرائيل، من مواليد باقة الغربية وفي الـ 42 من عمره، 18 سنة في السجن. قبل شهرين نُقل من سجن "شطة" إلى سجن عسقلان. وكسجين قديم وكبير السن نسبياً، تحوّل بشكل طبيعي إلى ما يشبه موجّهًا للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين الجدد، الذين بدأوا بغمر السجون الاسرائيلية، في السنتين الأخيرتين. موجّه ومشاهد. بالدهشة والألم، كما يقول، يشاهد الأسرى الشباب، الذين يزداد عددهم باطراد، والذين ألقي القبض عليهم في طريقهم لتنفيذ عملية إنتحارية. خلال 18 سنة درس تاريخ التنظيمات الفلسطينية عن طريق آلاف الأسرى الأمنيين الذين مروا في السجون، دخلوا وخرجوا. وهو يقول إنه من غير الممكن تجاهل الظاهرة الجديدة، الظاهرة العامة، من الشباب الذين قرروا وضع حدٍ لحيواتهم بهذه الطريقة الفظيعة، التي يعرّفها على أنها "غير أخلاقية" و"تضرّ بالمسألة الفلسطينية".
قرر دقة أن يجري مقابلات مع كل من يستطيع ذلك معه، من بين أولئك الشبان، الذين فشلت خططهم. نقل إلى "هآرتس" نصوص ثلاثة مقابلات أجراها في الفترة الأخيرة. الثلاثة الذين أجرى معهم اللقاءات من سكان الضفة، في أعمار 18- 20. إثنان منهما عرَضا جسديهما لعملية إنتحارية بإسم "الجهاد الاسلامي"، والثالث بإسم "فتح". الأول من قرية، الثاني من مخيم لاجئين والثالث من مدينة. التفاصيل الكاملة موجودة في "هآرتس"، لكن المقابلات بُعثت للنشر شريطة أن تبقى هويات الثلاثة مجهولة.
دقة: يجب إثارة القضية
يحاول دقة أن يفهم الدوافع الشخصية والنفسانية عند هؤلاء الشبان المتزايدين، الذين يمكن أن يكونوا أبناءه. ولكنه لا ينجح في استيعاب أن يبحث شاب كان ينوي تفجير نفسه، في الأسبوع التالي، في السجن، عن "جِلأ" للشعر، أو أنه يشاهد التلفزيون بشغف. وكيف يشتاق الشاب الذي يتحدث عن الاستشهاد الذي اختاره وفشل في تحقيقه، بنفس الحماس تقريبًا، إلى كوكا كولا وصحن من الحمص. ومن الناحية السياسية - القومية، يود دقة أن يثير في المجتمع الفلسطيني نقاشًا – خفيفًا جدًا، بحسب رأيه، ويكاد لا يُحس - حول هذه الظاهرة.
قبل 18 سنة حُكمَ على دقة بالسجن المؤبد، بتهمة العضوية في خلية تابعة لـ "الجبهة الشعبية"، اختطفت الجندي موشيه تمام، وأخفته في قريته، وقتلته في اليوم التالي. خُطط الاختطاف لإجراء تبادل للأسرى. منذ سنوات ودقة يقول إنه عرف بالاختطاف، لكنه لم يكن ضالعًا به. وبحسب أقواله، قام أحدهم بإعطاء إسمه في الاعتراف، وهو بنفسه، تحت ضغط التحقيق القاسي، كان مستعدًا للاعتراف بأي شيء. المهم أن يبتعدوا عنه.
لم ينكر دقة إنضمامه وقتها إلى "الجبهة الشعبية". "كان هذا بعد حرب لبنان في 1982، وبعد ‘صبرا وشاتيلا‘. وكشاب، عملت بدافع من الأحاسيس، وليس بدوافع أيديولوجية عقلانية. الأيديولوجيا أتت فيما بعد. أردت أن أقضي على هذا التوتر، على النزاع القائم في هويتي، بين كوني مواطنًا في الدولة وبين كوني فلسطينيًا. وهكذا اتخذت قرارًا شخصيًا - أن أكون جزءًا من منظمة التحرير الفلسطينية. خلطتُ بين الهوية القومية وبين الانتماء السياسي. اليوم، وأنا بالغ، أعرف أنني لا يجب أن أكون جزءًا من ‘م.ت.ف‘، لكي أكون جزءًا من الشعب".
اليوم هو عضو في "التجمع الوطني الديمقراطي"، برئاسة عضو الكنيست عزمي بشارة. وهو يعتقد أن على حركته أن تحدد النقاش حول ظاهرة العمليات الانتحارية. "ليس الحديث عن مسألة الاستنكار أو التبجيل بعد كل عملية"، يقول في تطرقه للكلمة الافتتاحية المتهاونة جدًأ، في نظره، التي نشرتها صحيفة الحزب "فصل المقال"، بعد العملية الانتحارية في حيفا قبل شهر. "يجب إثارة نقاش قبل ومن دون علاقة بالعمليات أيًا كانت: أخلاقي أم لا، مفيد أم لا، صحيح أم لا".
ومثل الشاب الذي كانَه، فإنه يرى عند الشبان الذين قابلهم الحماس العاطفي، والغضب والرغبة في التضحية والانتقام. وكبالغ وعلماني، فإنه لا يفهم ثقافة الموت والانتقام، ما يبدو له فقدان التفكير العقلاني. وهو يستصعب أن يصدق أن الجنة هي ما يجذب هؤلاء الشبان بالفعل، لكنه يستخلص أيضًا أن التفكير بالجنة يجسد تبخر حلم الدولة الفلسطينية. وفرضيته الأساس، التي أثبتت في المقابلات حسب رأيه، هي أن الدافع الأساس لهذه الأعمال هو الاحتلال والشعور بالعجز، نتيجة الفشل في القضاء عليه (الاحتلال). وكرجل سياسي، فإنه يشفق على الشبان ويغضب على كل التنظيمات التي ترسلهم: "هذه التنظيمات لا تبني إستراتيجية. هي تستهلك الناس فقط، تستهلك الدم، الغضب والألم لدى الناس، من دون أن تفكر بهم".
أكلنا الحمص والفول وخرجت لتنفيذ العملية
من بين الثلاثة، نجح "م" في بلبلة دقة. "م"، الذي يسكن في القرية، عمل في الزراعة وفي واحد من التنظيمات الأمنية التابعة للسلطة، بنصف المجان.
دقة: "ما الذي دفعك إلى تنفيذ العملية؟"
"م": "إنه النبض. الجميع يقولون إن هناك سببًا، ولكن لا. أنا لا أعرف ما الذي خطر ببالي. الحقيقة أنني رأيت قبل ذلك على شاشات التلفزيون صورًا لأطفال قتلوا وأصيبوا.. ولكن لن أقول لك إنه كان هناك سبب واحد أو عدة أسباب.. لا.. جاءني إبن عمي وقال لي في أحد الأيام: ‘أريد منك شيئًا‘. سألته ‘ماذا‘. قال لي: "ما رأيك في أن تقوم بعملية إستشهادية‘. قلت له ‘يا ريت‘. كنت مقتنعًا بأنه يمازحني. ولكن في اليوم التالي ذهبنا إلى البلدة وجلسنا في مطعم، أكلنا الحمس والفول مع شاب آخر، وبعد ذلك ذهبتُ معه وارتديت حزام المتفجرات وقال لي إن هذا سيكون بإسم ‘فتح‘".
دقة: "هكذا، أكلتم حمصًا وفولاً وذهبتَ إلى العملية؟ لم يتحدث معك عن الشهادة؟"
"م": "في البداية، في القرية، ظننت أن قريبي يسخر مني. رفضت وقلت إنني لا أريد، لأنني اعتقدت أنه يسأل عبثًا. ولكنه أصرّ وقال إنه يريد جوابًا. أجبته، بأنه إذا كانت فرصة لأن أخرج إلى عملية، فإنني لن أمانع. وسألني عن أي عملية أختار، بالسلاح أو بالتفجير... قلت له، لا، أريد تفجيرًا، أفضل. حزام المتفجرات أفضل من السلاح.. لأنني أخشى أن أطلق النار وألا أصيب أحدًا، وعندها يعتقلونني ويضربونني ويكسرون (عظامي)... قال: طيب.. سألته متى باستطاعتي أن أنفذ العملية، وقال لي، غدًا نخرج لترتيب الأمور. في المدينة سجلت شريط فيديو، قلت إن العملية بإسم خلية تابعة لـ ‘فتح‘، وقالوا لي في حالة ألقي القبض عليّ ألا أعترف، لكنهم لم يحدثوني عن غرفة ‘العصافير‘، المتعاونين، الذين أخذوا مني إعترافًا."
دقة: "كيف يتحدث إبن عمك معك عن عملية بهذه السهولة، وتوافق؟
"م": "نعم، هذا لا شيء، عادي جدًا."
دقة: "ولكنك ذاهب إلى موتك.. بهذه السهولة؟"
"م": "صحيح، أنا ذاهب للموت، وهل هناك ما هو أفضل من الموت؟ لا... الحياة هي وجع رأس.. المشاهد التي نراها في التلفزيون، هي أمور مغثية تجعلنا نفقد طعم الحياة. لو كانت لديّ الامكانية لأقتل نفسي داخل السجن، لقمتُ بذلك. فكرت مرة واحدة قبل أن أخرج إلى العملية، فكرت بيني وبين نفسي بما سيحدث ما إذا خرجت لعملية كهذه. في سبيل المزاح. وبالصدفة، بعد وقت قصير جاء إلي إبن عمي، وعرض عليّ أن أنفذ العملية... وكما فهمت، كان يسأل في القرية عن وضعي. وأنا وضعي الحمد لله بخير، وعلاقاتي مع كل الناس ممتازة، ولا توجد نقاشات أو مشاكل مع أحد.. حتى أن لا علاقة لي مع اي أحد في التنظيمات، ولا يوجد أي قريب لي أو صديق إستشهد."
دقة: "قلت لي إنك بدأت بالصلاة من دون أن تعرف عائلتك، وخاصة أبوك، لماذا؟"
"م": "الحقيقة أن أبي لم يصدق صلواتي وكان يعرف أنني أنظر إلى الفتيات هنا وهناك.. وعندما صليت وقت الانتفاضة فجأة، كان يمكن أن يثير هذا الأمر الشكوك وكان سيعتقد فورًا أنني أنوي القيام بأمر ما.. ولذلك صليت في السر".
دقة: "هل الذهاب إلى الجنة سهّل عليك إتخاذ القرار؟"
"م": "طبعًا. الجنة هي الأمر الأول، لكن الصور التي رأيناها على التلفزيون هي التي أثّرت عليّ ودفعتني إلى إتخاذ هذا القرار وتنفيذه."
دقة: "أنت بنفسك قلت لي إنك تنظر إلى الصبايا؟"
"م": "صحيح.. لكنني ضقت ذرعًا بحياتي، على الرغم من أنني كنت أحب فتاة، كانت تصغرني بسنة واحدة، وكانت عائلتي تنوي أن تطلب يدها قبل خروجي إلى العملية بيوم واحد. أحببتُها جدًا."
دقة: "هل التقيت بها وودعتها قبل العملية؟"
"م": "التقيت بها قبل العملية بيومين، ولكن بعد ذلك فقط قررت تنفيذ العملية."
دقة: "ولكن كيف خرجت لتنفيذ العملية من أن تودع على الأقل الانسانة التي تحبها والتي تحبك؟"
"م": "يكفي. قررتُ وانتهى الموضوع معي، وقُضي في أمر الزواج."
دقة: "في العمليات الاستشهادية يُقتل الأطفال الصغار."
"م": "لا يوجد أطفال صغار.. أطفالهم والبالغون فيهم كلهم يهود.. لماذا يقتلون أطفالنا الصغار؟ ألسنا بشرًا مثلهم؟"
دقة: "ولكن ما ذنب الأطفال؟"
"م": "لماذا لا يتوقفون عن قتل الأطفال؟ أليسوا هم الذين بدأوا بقتل الأطفال؟ هؤلاء الأطفال هم يهود، وعندما يكبرون إلى ماذا سيتحولون؟ سيتحولون إلى جنود وسيقتلون الأطفال."
دقة: "هل كنت ستقوم بالعملية لو علمت أن الاسرائيليين سيلفون جثتك بجلد الخنزير؟"
"م": "كنت سأنفذها، لا يهمني بعد أن أموت، فليفعلوا بي ما يريدونه، لأنني سأذهب إلى الجنة."
دقة: "لو كنت تعرف قبل العملية أن الاسرائيليين ينوون هدم بيتك وطرد عائلتك إلى غزة، هل كنت ستنفذ العملية رغم ذلك؟"
"م": "كنت سأنفذ العملية، لقد اتخذت القرار، وعائلتي - ليكن الله في عونهم."
دقة: "لو قرر أخوك الصغير أن ينفذ عملية إستشهادية، ماذا كنت ستقول له؟"
"م": "من جهتي، كنت سأمنعه، لأنه صغير، لكن لو سألني أخي الكبير عن تجربتي، لكنت سأقول له إن هذا الموضوع طبيعي جدًا، وأنا لست الوحيد الذي اختار ذلك. لكن الصغير - كنت أمنعه لأنه في الرابعة عشرة من عمره، وكل ما يقوى على حمله هو عبوة من خمسة كيلوغرامات. ماذا يمكن أن تفعل خمسة كيلوغرامات؟"
الأطفال الصغار الذين يموتون في هذه العمليات
"ن" حاول أن يتهرب من السؤال حول ماذا كان سينصح أخوته، لو رغبوا في تنفيذ عمليات إنتحارية. هو بنفسه بدأ المقابلة بهذا التصريح: "الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين، إسمي "ن"، قمت بعملية إستشهادية والله قدر ألا تنجح.. والدافع لهذه العملية.. قبل كل شيء.. الهدف الأول هو الاستشهاد والجزاء الكبير عند رب العالمين.. الأمر الثاني هو الاحتلال والقتل وأصدقائي الذين قُتلوا في الانتفاضة."
دقة حاول أن يكون دنيويًا أكثر: "لم تكن لديك الرغبة في الزواج؟"
"ن": "لم أرغب في الزواج ولم أفكر في ذلك.. لكن عندما كنت في السابعة عشرة حاولت إحدى الفتيات أن تتصل بي. وقد حاولت إلى أن أوقفتها مرة واحدة وأوقفت علاقتي بها، لأنني شعرت بأنها تتطور نحو أمر غير طاهر."
دقة: "لكنك أحببتها، أم أنك لم تحببها؟"
"ن": "بالطبع. وأنا إنسان، ولكنني قطعت العلاقة وطلبتُ منها أن تنسى الموضوع بالمرة."
دقة: "كيف ومتى قررت بشأن العملية الاستشهادية؟"
"ن": "كنت مرتبطًا بمجموعة من الناس معدومي القيمة، إلى أن التقيت بشخص وبخني وسألني لماذا لا أصلي، وبدأ بتعليمي الصلاة. بدأت أولا بالصلاة، والانسان إذا بدأ بالصلاة والتعبد ودراسة القرآن، فإنه يتلقى النور من رب العالمين."
دقة: "كيف شكل هذا النور؟"
"ن": "هو الذي يجعلني أرغب في لقاء رب العالمين بأي طريقة كانت.. عندما وصلت إلى هذه الدرجة، تمنيتُ الموتَ إستشهادًا. وكل ذلك بالاضافة إلى الاحتلال والتخويف والقتل ومنع التجول، حتى أنه لم تتبقَ هناك حياة أبدًا."
دقة: "ماذا فعل بك منع التجول؟"
"ن": "جعلني أفكر بأنني في سجن، سجين بلا حقوق وبلا أي قيمة في الحياة. كأننا حيوانات وهم ينظرون إلينا داخل البيوت، وقد قررت أن أغير حياتي بأن أنتقل إلى رب العالمين، وأن أختار بحياتي هناك، لئلا أضطر للبقاء في هذا السجن. كان هذا قرارًا أو دعوة لي، بالصلاة. وعندها طلبت من عدة أشخاص (أن يساعدوني) على تنفيذ عملية إستشهادية..
"في أحد الأيام ذهبتُ إلى المسؤول عن ‘الجهاد الاسلامي‘ عندنا والتقيت بأخيه. منعني من الالتقاء به، وسأل عن الهدف من وراء اللقاء، ولم أجبه. بعد ذلك جاء إلي شاب وثق بي منذ البداية وأوصلني إلى المسؤول عن ‘الجهاد‘. قلت له إنني أرغب في تنفيذ عملية إستشهادية، وسألني عن السبب. أجبته بأنني أريد أن ألتقي برب العالمين، وأن أحيا حياةً أفضلَ. وقال لي حسنًا، وإنه سيفحص الموضوع. يبدو لي أنه سأل عن عائلتي، واكتشف أنني أعبد رب العالمين، ويبدو لي أنه استوضح ما إذا كنت أرغب فقط في الهرب من الحياة، التي ضاقت بي، أو أنني أريد الاستشهاد. وفي ذلك الوقت قُتل، ولكنه كان تحدث مع واحد من رجاله عني، قبل ذلك.
"بعد ثلاثة أيام جاء إليّ وقال لي، ‘ما رأيك في يوم غد‘. قلت حسنًا... في نفس اليوم عدتُ إلى البيت متأخرًا، على غير عادتي، مما أثار الشكوك في العائلة.. وقدّر أبناء عائلتي أنني أقوم بأمر ما، لكنهم لم يعرفوا عنه بالضبط. وسألني أبي ما إذا كنتُ انضممتُ إلى حزب ما. أجبته ضاحكًا لـ ‘حزب الله‘. في ذلك المساء الذي عدت فيه متأخرًا، كان أغلب أخوتي نائمين وعندما دخلت استيقظت أختي وسألتني ‘لماذا تعود في ساعة متأخرة كهذه.. سأشتكيك لأبي وسأقول له إنك تأخرت‘. قلت لها، العفو من شيم الكرام، قولي لأبي ما ترغبين...
"في الصباح استيقظت باكرًا، صليت صلاة الفجر وذهبتُ إلى أمي، قبلتها وطلبتُ منها أن تتمنى لي النجاح وتمنت لي، وهي لم تعرف بالطبع إلى اين أنا ذاهب ولماذا خرجت باكرًا، وهي تعلم فقط أنني أصلي في الفجر في المسجد. في كل تلك الفترة تصرفت كالمعتاد، جلست وضحكت مع عائلتي وكأن لا شيء جديدًا.. في ذلك الصباح أخذت العبوة ووصلتُ إلى مدينة في إسرائيل..." - وفشلت محاولته.
دقة: "هل كنت راضيًا عندما اكتشفت أنك حي ولست ميتًا؟"
"ن": "أبدًا، بالمرة.. صدقني، لأن الاحتمال الأخير الذي فكرت به هو أن أبقى حيًا. لكن رب العالمين قضى بأن أبقى حيًا."
دقة: "قلت إنك كتبت وصية.. لكنن أعلم أنك لا تعرف القراءة والكتابة."
"ن": "لا.. أنا أقرأ جيد جدًا، لكنني أستصعب الكتابة.. كتبت نصف الوصية، وما تبقى أتمها لي الشاب الذي كان معي."
دقة: "لو أعطوك اليوم عبوة، هل ستكون مستعدًا لإعادة المحاولة؟"
"ن": "لا، صدقني، ليس لدي الاستعداد، وليس لأنني متمسك بالحياة، ولكن وقبل كل شيء، لأنني لم أنجح في المحاولة الأولى وسأحارب بطريقة أخرى... وليس لأنني يائس من المحاولة، بل لأن المحاولة لم تنجح، وأنا لا أعتقد أنها ستنجح في المرة القادمة."
دقة: "ألم تفكر بأنك ستقتل أطفالاً صغارًا وأن هذا ممنوع؟"
"ن": "شعرت بأن هذا ممنوع، ولكن في نفس الوقت رأيت الكثير من أطفالنا الذي قتلوهم عندنا بدم بارد، كما أن هدفي ليس الأطفال الصغار، وإنما البالغين الذين يرتكبون هذه الجرائم، الجنود. والأطفال الصغار الذين يموتون في هذه العمليات - ذنوبهم مغفورة وسيذهبون إلى الجنة، لأنهم لا يعلمون بعد أي شيء في الحياة.. وصحيح أنهم ولدوا لعائلات يهودية، ولكن موتهم سيشفع لهم."
دقة: "متى بكيت في المرة الأخيرة؟"
"ن": "قبل أسبوع أو أسبوعين. لأن العملية لم تنجح. وأحيانًا أحمد رب العالمين على ذلك وأقول، ربما يكون السجن الوسيلة التي ستقودني إلى الجنة."
دقة: "ولو كنت تعرف أنهم سيلفون جثتك بجلد خنزير، هل كنت ستنفذ العملية؟"
"ن": "لا. كنتُ سأفكر بتوقيت آخر وطريقة أخرى."
دقة: "ولو أنك علمت أنهم سيهدمون بيت عائلتك؟"
"ن": "لا.. لم أكن سأنفذ العملية، لأنني أعرف وضع عائلتي."
دقة: "أي أنك كنت ستتنازل عن لقاء رب العالمين؟"
"ن": "لا، ولكن لزام علي أن أفكر بمنطق. على الأقل أن أضمن لعائلتي مكانًا آخر للسكن."
ها أنت تحلّق في الهواء
من بين الثلاثة، يبدو "أ" الأصدق في إجاباته، في نظر دقة. هو يسكن في مخيم للاجئين، وأنهى الثانوية بعلامات متوسطة، عمل في إسرائيل، وخاصةً في الزراعة والبناء، إلى أن سُدت كل الطرق المتاحة للعمل. وقد روى لدقة أنه بدأ الصلاة قبل خمس سنوات، وانه في السنوات الأربع الأخيرة يواظب جدًا عليها. عائلته محافظة، غير متدينة جدًا، "مثل باقي الشعب". لم يحاول البتةَ أن يشرب الكحول. وقبل حوالي الشهر من خروجه إلى العملية الانتحارية بحث عن مسؤول "الجهاد الاسلامي" في منطقته، لكي يتطوع للمهمة، وفي كل مرة كانوا يماطلون في الرد. إلى حين "ذهبت إليه مرة رأسًا من العمل، وسألني ما إذا كنتُ مستعدًا لتنفيذ العملية في نفس اليوم. أجبته بالأيجاب، استحممت، هيأت نفسي وعدت إليه."
دقة: "هل ودعت أبناء عائلتك؟"
"أ": "لم أودع أحدًا. وقد وجهني (ناشط ‘الجهاد‘) في كيفية تشغيل العبوة بعدة طرق. هناك كباس جانبي، وكباس رئيسي، وفتيل يمكن إشعاله..." (ضُبط وهو في طريقه إلى إسرائيل، بناء على معلومات إستخباراتية).
دقة: "هل كانت لديك صاحبة أو إمرأة أحببتها؟"
"أ": "ابدًا."
دقة: "هل فكرت بالجنس الآخر؟"
"أ": "بأي معنى؟"
دقة: "بالزواج، بالشهوة.. النظر إلى النساء؟ هل تمتعت بجمالهنّ؟"
"أ": "نعم، فكرت بالزواج، لكنني لم أجد المرأة المناسبة، والحقيقة أنني لم أتحدث بشكل جدي لأنني لم أملك الفرصة المناسبة.. ولكن النظر إلى النساء، هذا طبيعي وكنت كأي شاب، لم أسمح لأية فتاة بالمرور قبل أن أتحرش بها."
دقة: "لماذا رغبت في تنفيذ عملية إستشهادية؟"
"أ": "الحقيقة أن السبب هو.. الدافع الديني. ومن جهة ثانية، الدافع القومي. الموت، الموجود الآن في كل مكان، بدلا من أن يصلني، أردت الذهاب إليه والوصول إلى الجنة."
دقة: "هل أنت مقتنع، كإنسان متدين، بأن لك الحق أو أنه مسموح لك أن تقتل الأطفال والنساء، والمواطنين بشكل عام، في العمليات الاستشهادية؟"
"أ": "يقولون إن الجيوش في الحروب تقتل المواطنين خطأً. ولكنني مقتنع بأن إسرائيل لا تقتل المواطنين الفلسطينيين عن طريق الخطأ، بل تنوي قتلهم. الواقع يقول إنهم يقتلون المسنين، النساء والأطفال. ولذلك أرى نفسي معفيًا من واجب عدم قتل المواطنين. معفيًا من المنع. على الرغم من أن هذا ليس هدفي - أن أقتل النساء والأطفال. هدفي أن أقتل الجنود."
دقة: "قيل في الأحاديث النبوية، لا تقتل الطفل والمرأة ولا تقلع الزرع... الا ترى في خروجك لتفجير نفسك، إحتمالا في قتل الأطفال والنساء، وتناقضًا مع أقوال النبي محمد؟"
"أ": "النبي، في المرحلة الأولى من الاسلام، كانت لديه الوسائل.. والوضع مكّنه من أن يلتزم بما قال.. إسرائيل، في الواقع، في حصارها وتصرفاتها، في القتل والتدمير، لا تمكننا من المقاومة بحسب ما قاله الرسول. الوضع الذي نحن موجودون فيه يضعنا أمام خيار الاستسلام للواقع والاستمرار في عملياتنا من دون الالتزام بكل كلمة في هذه الأحاديث، أو عدم مقاومة الاحتلال والالتزام بهذا المنع بحذافيره."
دقة: "بنظرة إلى الوراء، هل كنت ستكرر محاولتك؟"
"أ": "من وصل إلى لحظة كان فيها إستعداده للاستشهاد مئة بالمئة، لا يمكنه التراجع عن هذا الموقف.. لكن الاستشهاد ليس أمرًا عبثيًا، أو هدفًا بحد ذاته. ما أقصده، أنه لو أقيمت دولة فلسطينية وكل ما يتعلق بذلك - فلا حاجة عندها في أنفذ عملية، ولكن ما دام الاحتلال موجودًا، فإن الاستعداد لمقاومته سيظل قائمًا، ومعه الاستعداد لاختيار الاستشهاد."
دقة: "هل ستوقف نضالك ضد اليهود بعد إقامة الدولة؟"
"أ": "الدولة التي أتحدث عنها هي دولة فلسطينية على كامل التراب الوطني الفلسطيني، وهذا لن يتم في القريب، ولذلك فإن نضالي سيستمر."
دقة: "عندما ترى النساء والأطفال المقتولين، لا شك في أنك تشعر بالحزن والألم. سؤالي هو، عندما ترى أطفالاً يهودَ مقتولين، ألا تشعر ولو بقليل من الأحزن عليهم؟"
"أ": "أنا لا أشعر بالحزن. لا يمكنني أن أميّز بين الألم الذي سببه لي الاحتلال، والذي تمثله دولة ذلك الطفل، وبين الطفل نفسه. ولكنني أيضًا لا أفرح لموته، أو أحتفل. أن أتأسف عليه فقط. لست كاملاً لكي آسف على من يؤلمني، وأنا لا أقصد الطفل بشكل شخصي، وإنما أقصد شعب هذا الطفل."
دقة: "وماذا مع اليهودي، مثلا، الذي يبدي الاستعداد للتبرع بأعضائه أو بأعضاء أقربائه لفلسطيني، ألا تميز بينه وبين الآخرين؟"
"أ": "بلى، أنا أميز على المستوى الشخصي، وليس شاذًا عن القاعدة أن يتبرع فلسطيني بأعضائه ليهودي - كشخص، كإنسان."
دقة: "إسرائيل تهدم بيوت منفذي العمليات الاستشهادية. أليس هذا أمر رادع؟"
"أ": "هذه الوسيلة أستخدمت وتستخدم دائمًا، ولا أعتقد أنها ستثني أحدًا اليوم، كما أنها لم تُثنِني."
دقة: "يقولون إن هناك فارقًا بين الانتحاريين اليوم وبين الانتحاريين في فترة يحيى عياش."
"أ": "في زمن يحيى عياش كان الانتحاريون أكثر تديّنًَا، وبشكل عام فقد إختيروا بدقة، وكانوا معدودين. لكن الأحداث اليوم خلقت ضغطًا هائلاً، وهناك إستعداد كبير لدى الشباب، والغالبية يودون تنفيذ عمليات. هذا ليس خيارًا أيديولوجيًا فقط."
دقة: "بماذا شعرت عندما ذهبت للموت، بماذا فكذرت في طريقك؟"
"أ": "الشعور بأنك تحلق في الهواء، تطير، لا تسير على وجه الأرض. تودع كل ما يحيط بك، تودع الأمور المادية. تودع العالم. فكّرت بما ينتظرني من جزاء على عملي، سألت نفسي كيف ستكون الجنة. تجولت في خيالي، بعيدًا عن هنا".
بحث من وراء القضبان
في الوقت الذي بدأ فيه وليد دقة إجراء مقابلات مع عدد من الفلسطينيين الذين ألقي القبض عليهم وهم في طريقهم إلى تنفيذ عمليات إنتحارية، إتضح له أن أشخاصًا من الاستخبارات الاسرائيلية، بمشاركة باحثين من مجالي علم الاجتماع وعلم النفس، بدأوا بالتحقيق والبحث معهم. ومن خبر في الصحيفة ("هآرتس"، 29-12-2002) عرف دقة أن مركز "محاربة الارهاب" التابع لـ "مجلس الأمن القومي" يركّز البحث، بمساعدة من جهات أمنية أخرى وجهات أكاديمية، بالاشتراك مع مصلحة السجون.
وقد ورد في الخبر المذكور أن السجناء لم يعارضوا التعاون مع منفذي البحث. واستنادًا الى الأمور التي أخبره بها عدد من السجناء الذين شاركوا في البحث، يرفض وليد دقة الادعاء أنهم شاركوا بمحض إراداتهم ويشكك في علمية هذا البحث. بادئ ذي بدء، من الصعب في نظره تسمية الظروف التي نُفذ فيها البحث بظروف "حيادية"، كتلك التي تمكّن الشخص موضوع البحث من التصرف بطبيعية، وبحرية وبثقة. وقد جرى البحث في سجن "هداريم"، تحت حراسة مشددة. وبحسب معلوماته، نُقل غالبية المحقَّق معهم قبل ذلك إلى محطة إنتقالية في سجن الرملة، وبقوْا هناك عدة أيام. وبحسب أقوالهم، فهموا أنهم يُنقلون إلى سجن آخر، ولذلك أخذوا معهم كل أمتعتهم. وهذا، يقول دقة، خلافًا للقواعد والتزام السجن بتبليغ المحبوسين بالحقيقة.
وتُعتبر الظروف في سجن الرملة سيئة جدًا، ولا يمكن المكوث فيه – كمحطة إنتقالية - لأكثر من يوم واحد. ولكن عددًا من المساجين بقوْا هناك عدة أيام، في ظروف سيئة جدًا. وفي هذه الوضعية نُقلوا إلى سجن "هداريم". وبحسب أقوالهم، لم يُبلّغوا رسميًا عن هدف النقل. وسمع واحد من المحقَّق معهم عن السبب من سجين آخر، وسأل الضابط الذي يحرسه "متى سيأخذونني إلى بحثكم هذا وننتهي من هذا الموضوع؟". من رد فعل الضابط فهم السجين أنه لم يكن من المفترض أن يعرف مسبقًا لأي غرض نُقل.
كما حدَّث المحقَّق معهم دقة عن أن الوحدة التي أشرفت عليهم أثناء النقل من سجن إلى آخر كانت وحدة "نحشون"، المعروف عن أعضائها الشرطيين بأنهم عنيفون وهجوميون بشكل خاص. وهم من اشرفوا أيضًا على ما يحدث أثناء البحث. وروى عدد من السجناء المحقق معهم لدقة، أنهم تعرفوا في الغرفة المجاورة للغرفة التي قوبلوا فيها (عن طريق فاصل زجاجي) على رجل "شاباك" معروف لهم. ونتيجة لهذه الأسباب، فإن المحقق معهم لم يشعروا بأنهم في بحث أكاديمي، بل بأنه يتم التحقيق معهم، على يد جسم عدائي.
عُرضت على السجناء المحقق معهم سلسلتان طويلتان من الأسئلة، بعضها كانت مع إجابات يجب الاختيار بينها. وعدا عن ذلك، عُرضت عليهم صور، طًلب منهم أن يوضحوا ما الذي يرونه فيها. وروى واحد من السجناء لدقة أنه في عدد من الصور إستطاع تمييز أعضاء تناسلية أنثوية. وبحسب أقواله، عرف ما في الصورة، لأنه تعلم عن ذلك في المدرسة، لكنه أجاب وكأنه لا يعرف. وبحسب أقواله وأقوال سجناء آخرين، قرر كل واحد منهم، وبشكل مستقل، ألا يعطي المحققين الأجوبة الصحيحة، كوسيلة لعدم التعاون معهم.
(ملحق "هآرتس" الاسبوعي، 4/4، ترجمة: "مـدار")