موشيه شاحل، وزير الطاقة الاسرائيلي في عهد رابين، والشخصية المركزية في الاتصالات مع الحكومة العراقية في اواخر الثمانينات، معقباً: "خسارة اننا لم نجرب صدام ولم نضع نواياه في امتحان حقيقي.. كانت تلك إضاعة كبرى لفرصة تاريخية صنعتها الولايات المتحدة، واسرائيل والعالم الغربي".
بقلم: دان شيلون
يعد العراق أحد ألد أعداء اسرائيل. صحيح ان لا حدود مشتركة تربط بين الدولتين، لكن صواريخ "سكاد" التي أطلقها صدام حسين على "غوش دان" (منطقة تل ابيب والمركز ـ المحرر) إبّان حرب الخليج، وتمويله عناصر "إرهابية" فلسطينية في المواجهة الحالية، وخطر الارهاب البيولوجي والكيماوي المستمر ـ جميعها تشغل منذ سنين بال القيادتين السياسية والأمنية في اسرائيل.
الآن يتضح أن الأمر لم يكن كذلك دائمًا. هنا تكشف "معريف" النقاب عن الوجه الآخر للرئيس العراقي. يتضح الآن ان صدام كان مستعدًا لتطبيع العلاقات مع اسرائيل والتعهد بعدم إيذائها، اذا ما تعرض لهجوم امريكي، مقابل استعداد اسرائيلي لخرق الحظر الاقتصادي على العراق وشراء النفط منه بسعر مخفض، وتفعيل اللوبي اليهودي في واشنطن دعما للعراق.
مبعوثون من طرف الرئيس العراقي التقوا، وجها لوجه، قبل قبل حرب الخليج السابقة وبعدها، مع شخصيات اسرائيلية رفيعة المستوى واستجابوا لمبادرة الرئيس المصري حسني مبارك لعقد لقاء ثلاثي في بغداد، اسرائيلي ـ عراقي برعاية مصرية، باشتراك صدام ومبارك وموشيه شاحل، الذي كان يشغل منصباً وزارياً رفيعاً في حكومة اسحاق رابين. لكن ذلك اللقاء لم يخرج الى حيز التنفيذ، بسبب الظنون والتشككات الاسرائيلية، بل وأكثر بسبب المعارضة الحازمة من جانب الادارة الأمريكية.
بدأت الإتصالات العراقية ـ الاسرائيلية في اواخر الثمانينات، إبان الحرب بين العراق وايران. على رأس الحكومة في اسرائيل، حكومة "الوحدة القومية" الأولى، كان يقف اسحاق شمير. كان وزير الطاقة في تلك الحكومة موشي شاحل المولود في العراق والذي حدده صدام عنوانا اسرائيليا، جديرًا وموثوقا للإتصال وللتخاطب السري مع حكومة اسرائيل.
* حمدون يرد بالإيجاب
صيف 1987: الأتصال العراقي ـ الاسرائيلي الأول: غيل غلايزر، يهودي ثري وعظيم التأثير في أوساط الادارة الأمريكية العليا، ينقل الى شاحل طلبا من سفير العراق في الولايات المتحدة، نزار حمدون، للإجتماع به في واشنطن. غلايزر مقرب جدا من الرئيسين الأمريكيين رونالد ريغن وجورج بوش الأب، ويقيم علاقات شخصية مع سفراء ودبلوماسيين في واشنطن، من بينهم السفير العراقي.
في تلك الفترة، كان العراق قد بدأ حملة اعلامية واسعة في الولايات المتحدة لعرض ايران باعتبارها عدوة العالم الحر، والطرف المعتدي في الحرب التي كانت تدور رحاها بين الدولتين. ويضع العراق اللوبي اليهودي في واشنطن هدفا لحملته كعنصر مؤثر في صدارة الادارة الأمريكية.
في أحد اللقاءات بين غلايزر وحمدون، في منزل الأخير، يتطرقان الى النزاع العربي ـ الاسرائيلي، ويفاجىء حمدون غلايزر بموقفه المعتدل تجاه اسرائيل. "العراق لا يعادي اسرائيل"، يقول حمدون، " ليست لنا حدودا مشتركة مع اسرائيل وليست لدينا مطالب اقليمية منها".
" لماذا لا تقول هذا الكلام لمندوب اسرائيلي رسمي، وبشكل مباشر؟"، يسأل غلايزر.
يطلب حمدون مهلة للتفكير، ثم يعود الى غلايزر بعد أسبوعين برد ايجابي، أقره حاكم بغداد. ويشير السفير العراقي أيضا الى موشي شاحل باعتباره الوزير الذي يفضله صدام. ينقل غلايزر الطلب الى الوزير الاسرائيلي الذي يعلن موافقته على عقد اللقاء، بعد مصادقة رئيس الحكومة. ويفاجأ شاحل بأن شمير يثني على المبادرة ويقر سفره الى جولة محاضرات ينظمها "البوندس" (مجلس الروابط اليهودية ـ المحرر) ويجري خلالها ترتيب اللقاء مع حمدون، في واشنطن او في لوس انجلوس.
قبل مغادرة شاحل الى اللقاء بأيام قليلة، يتوجه حمدون الى غلايزر طالبا أن تعلن اسرائيل على الملأ انها تؤيد موقف العراق الداعي الى حل النزاع مع ايران بالمفاوضات والسبل السلمية. وبالمقابل، يتعهد حمدون بصدور بيان عراقي علني يؤكد ان لا نزاعات حدودية بين العراق واسرائيل، وان ليست لدى العراق أية مطالب اقليمية من اسرائيل، وان كل ما يقبل به الفلسطينيون سيكون مقبولا على العراق.
هذا الطلب العراقي يتم تحويله الى اسحاق شمير، الذي يكلف وزير الأمن لديه، اسحاق رابين، باطلاق تصريح بهذا المعنى. علامات تساؤل واستغراب كثيرة ترتسم في داخل اسرائيل وفي العالم مع اطلاق رابين تصريح التأييد للموقف العراقي، الذي يعتبره الكثيرون تضامنا لا حاجة به مع طرف في نزاع لا علاقة لأسرائيل به. قلة قليلة فقط كانت تعرف، في تلك اللحظة، ان التأييد ألإسرائيلي للعراق في نزاعه مع ايران هو خطوة تمهيدية لإمكانية اقامة علاقات كاملة يبن العراق واسرائيل.
في محضرة ألقاها شاحل في معهد "فان لير" ( في القدس) لبّى طلبا عراقيا آخر فأعلن عن موافقة اسرائيل على استئناف ضخ النفط في أنبوب كركوك ـ حيفا الذي أوقف تشغيله في العام 1948 مع اقامة دولة اسرائيل. وهذا التصريح أيضا يثير التساؤل والأستغراب في اسرائيل وفي العالم.
آب 1987 : طارق عزيز، وزير الخارجية العراقي آنذاك، يصل الى باريس و يكشف لمضيفيه الفرنسيين انه ليس هناك نزاعا اقليميا للعراق مع اسرائيل. وفي الشأن الفلسطيني يؤكد عزيز ان أي تسوية يقبل بها الفلسطينيون ستحظى بالدعم العراقي.
بعد ذلك بأيام معدودة يعقد اللقاء الأول، وجها لوجه، بين الوزير شاحل والسفير حمدون في منزل الأخير في احدى الضواحي السكنية الفاخرة في واشنطن، في جو حار وحميمي، ويكرر كلاهما التصريحات العلنية التي صدرت عن رابين وعزيز وشاحل. يفاجىء حمدون شاحل باقتراح البدء بمحادثات لعقد اتفاقية سلام وعلاقات تجارية بين العراق واسرائيل. يسارع شاحل الى تقديم تقرير مفصل الى شمير حول اللقاء ويحصل منه على ضوء أخضر لمواصلة الإتصالات.
في تلك الأيام حصل تحول في مجريات الحرب الإيرانية ـ العراقية: من حالة الدفاع والقصف الجوي الإيراني الكثيف على بغداد، نجح العراق في تحقيق تفوق عسكري في ساحة الحرب. وكانت نقطة التحول في المعركة التي دارت على جزيرة الفاو في الجنوب، حيث استطاع الجيش العراقي دحر القوات الأيرانية ، وسط استخدام الأسلحة الكيماوية.
* شاحل مرتبك
فضيحة "ايران غيت" ، التي انفجرت في منتصف الثمانينات، كشفت عن صفقات اسلحة محظورة بين اسرائيل وايران وشكلت خطرا على علاقات اسرائيل مع الولايات المتحدة ومع االعالم العربي.
كانون الثاني 1988: موشي شاحل يبادر، بالتنسيق مع وزير الخارجية شمعون بيرس، الى عقد لقاء في القاهرة مع الرئيس مبارك. وينقل شاحل رسالة من بيرس الى مبارك تتضمن الرواية الاسرائيلية عن "ايران غيت" وعن دور اسرائيل في تزويد ايران بـ "اسلحة دفاعية". هذه المبادرة الاسرائيلية تأتي تحسبا من توتر العلاقات مع مصر.
مبارك يتمعن في رسالة بيرس ويصغي الى توضيحات شاحل ثم يرد :"على من تريدون ان تضحكوا؟ أعرف تماما انها أسلحة هجومية. انني أعرف جيدا جميع أنواع الأسلحة التي زودتم ايران بها، أعرف الكميات ومواعيد التزويد، لكنني أقدر عاليا مبادرتكم في الحضور اليّ، وأحترم رسالتكم والثقة التي تولونني إياها".
ثم يطلق مبارك قنبلة غير متوقعة حين يقول: "قبل أسبوع، جلس هنا طارق عزيز. وقد نصحته باقناع صدام بتغيير موقفه العدائي تجاه اسرائيل. اقترحت أن أزور بغداد، في طريقي الى المؤتمر الاسلامي في الخليج، سوية مع الوزير الأسرائيلي موشي شاحل الذي ولد وترعرع في العراق. فما رأيك سيد شاحل، هل ترافقني الى لقاء تاريخي في بغداد؟".
شاحل، وقد صدمه هذا الاقتراح، يحاول الرد وكأنه سمع نكتة غير مضحكة. وبعد دقائق من الأرتباك يقول: "سيدي الرئيس، أنا واثق بأنني سأحصل على اذن وتأييد وزراء الحكومة في اسرائيل الذين سيشجعونني على السفر أملا في أن يزج بي صدام الى أحد سجونه". ويلاحظ مبارك الأرتباك على شاحل فينتقل الى موضوع آخر.
يعود شاحل الى اسرائيل دون أن يعير مبادرة الرئيس مبارك أهمية خاصة ويقدم تقريرا الى شمعون بيرس واسحاق شمير عن لقائه في القاهرة.
بعد سنة على ذلك اللقاء، يكشف اسامة الباز، المستشار المقرب من مبارك، لموشي شاحل ان نوايا مبارك كانت جدية وان كل الأشارات التي وصلت من العراق دلت على ان صدام كان مستعدا لعقد اللقاء في بغداد بأجواء حميمة ووفق أصول الضيافة في العالم العربي. وبعد سنوات ، يحصل شاحل على تأكيد آخر حول جدية نوايا مبارك من وارن كريستوفر وزير الخارجية الأمريكي الذي قال لشاحل: "علمنا انك تلقيت دعوة لزيارة العراق. علمنا انك كنت تحلم بالعودة الى بيتك في بغداد، لكننا اضطررنا الى حرمانك من هذه المتعة".
شاحل يعترف اليوم بأنه أخطأ في ريبته وتشككه من مبادرة الرئيس مبارك. "من الجائز"، يقول، " ان عقد ذلك اللقاء في بغداد كان سيغير وجه التاريخ الشرق أوسطي".
1988، سنة انتخابات في اسرائيل: يتم تجميد الاتصالات بين العراق واسرائيل ولا تستأنف الا بعد تشكيل الحكومة الجديدة، برئاسة اسحاق شمير. وبالمقابل، يحظى السفير نزار حمدون بترقية في سدة الحكم في العراق، اذ يتم تعيينه نائباً لوزير الخارجية فيعود الى بغداد. ويوكل مهمة الإشراف على الاتصالات اللاحقة الى يهودية أمريكية من واشنطن هي بروفيسور جوديت ملروي، المحاضرة في العلوم السياسية، والتي شاركت في اللقاء الأول بين شاحل وحمدون، وكانت معروفة في واشنطن بأنها مقربة من حمدون، ومجال اختصاصها الأكاديمي هو الشرق الأوسط، وتحديدًا - العراق وايران.
تصبح ملروي حلقة الوصل بين العراق واسرائيل. تنقل رسائل جارية الى اسرائيل، كتابة وتلفونيا وشخصيا، كما تقوم بجولة مكوكية في الشرق الوسط تكون فيها اسرائيل محطتها الأولى. وتلتقي في القدس مع كل من شمير ورابين وشاحل وتبلغهم باستعداد العراق للتوصل الى تسوية شاملة مع اسرائيل، وموافقته على التطبيع الكامل للعلاقات بين الدولتين. وتقطع لموشي شاحل وعدًا شخصياً بالتقاط صور فوتوغرافية لمنزل عائلته في بغداد، الذي تتخذه فرنسا اليوم مقرا لسفارتها هناك.
تغادر ملروي اسرائيل بأجواء تفاؤلية قاصدة القاهرة للإلتقاء بالرئيس مبارك ومن هناك تتوجه الى بغداد. ليس معروفًا ما جرى في لقاءاتها مع القيادة العراقية، لكن ملروي تعود من بغداد بمزاج سوداوي وغاضب. ترفض الكشف عن التفاصيل، لكنها توجه انتقادات شديدة الى صدام وقلة حكمته في التعامل مع الغرب. وهكذا تنتهي، عمليا، الجولة الأولى من الإتصالات العراقية ـ الأسرائيلية.
* صدام يواصل السيطرة
كانون الثاني 1991: صواريخ "سكاد" تسقط على اسرائيل. حرب الخليج في أوجها. الرئيس مبارك، حلقة مركزية في التحاف الغربي ضد صدام، يتعرض للسخرية والنقد في الصحافة العراقية. يستشيط غضبا على حاكم بغداد ويتهمه بالتلون وبالتخلي عن القضية الفلسطينية. ويكشف مبارك لبعض الزعماء العرب عن حقيقة اجراء الاتصالات السرية بين العراق واسرائيل، بوساطة ملروي، وعن استعداد صدام ، في ايام ما قبل الحرب، للتوقيع على معاهدة سلام مع اسرائيل وتطبيع العلاقات معها، حتى قبل تحقيق حل للقضية الفلسطينية.
تنتهي حرب الخليج بشعور العالم العربي بتفويت الفرصة. فصدام يواصل السيطرة في بلاده وتضليل العالم بأسره. الحظر الاقتصادي الذي يتم فرضه على العراق يثقل عليه حقا، لكن ليس لدرجة تغيير سياسته. في اسرائيل يفوز اسحاق رابين في انتخابات 1992 ويشكل حكومة جديدة. صدام حسين يعود ليفاجىء اسرائيل والولايات المتحدة بمبادرة سلام جديدة. انه يطلب فتح صفحة جديدة في علاقاته مع الغرب ويجدد محاولات الاتصال مع اسرائيل بغية اختراق وكسر الحصالر الاقتصادي المفروض عليه.
ينقل مبعوثو صدام رسائل الى اسرائيل مفادها استعداد العراق لبيع النفط لأسرائيل بأسعار مخفضة، بالكميات التي تريدها، ويتعهدون باسم صدام بأن اسرائيل لن تتعرض الى أي أذى، اذا ما عاد الأمريكيون لمهاجمة العراق. مبعوثون عراقيون يحاولون الوصول، بمساعدة شخصيات اسرائيلية، الى الرأي العام الأمريكي، أملا في التأثير على الرئيس الجديد بيل كلينتون لجهة مسامحة العراق وإقامة علاقات تجارية معه.
يتلقى اسحاق رابين تقارير وافية عن مبادرة صدام الجديدة ويأذن باجراء الاتصالات الأولية بين ممثلين عراقيين واسرائيليين. يعتقد رابين ان المبادرة العراقية الجديدة تفتح نافذة فرص نادرة لاسرائيل وللشرق الأوسط بمجمله. لكن رابين، كعادته، يقرر اختبار مبادرة صدام بحذر ويطلب الحصول على موافقة الرئيس الأمريكي على أي تقدم في الموضوع.
يستخدم صدام، لضرورة الاتصالات مع اسرائيل هذه المرة، أخاه غير الشقيق برزان التكريتي، رجل المخابرات الذي تولى آنذاك تمثيل العراق في مؤسسات الأمم المتحدة في جنيف، وكان مسؤولا ايضاً عن شؤون صدام المالية في أنحاء العالم.
صدام وبرزان هما ابنان من أب واحد. العلاقات بينهما شهدت صعودا وهبوطا، خلال السنوات. في فترة الاتصالات العراقية مع اسرائيل كان برزان أمين سر صدام. وبعد سنوات، ساءت هذه العلاقات الى درجة الانقطاع بعد ان أعدم صدام شقيق برزان الذي كان جنرالا في الجيش العراقي. ويقطن التكريتي اليوم في عزبة حصينة في جنيف دون ان يجرؤ على زيارة العراق، منذ سنوات، خوفا من مصير مماثل لمصير شقيقه.
التكريتي يبدأ العمل قبالة موشي شاحل، الذي يعتبره صدام ليس فقط شخصا مصداقا يعرف العقلية العراقية، وانما أيضا شخصية بالغة القوة والتأثير في حكومة رابين باشغاله ثلاث حقائب وزارية: الطاقة والشرطة والاتصال. في ايلول 1992 يتصل الملياردير السعودي عدنان خاشوقجي بشاحل ناقلا اليه دعوة للحضور الى جنيف للإجتماع ببرزان التكريتي وبحث موضوع تزويد اسرائيل بالنفط العراقي بأسعار مخفضة. شاحل يبارك هذه المبادرة ويعد بمحاولة دفعها الى الأمام في الجانب الاسرائيلي، مقدرًا بأن الحديث يجري حول خطوة سياسية اكبر بكثير من مجرد اتفاقية لشراء النفط، فيطلب الأذن من رابين. ويفاجأ رئيس الحكومة من مبادرة صدام المجددة فيقرر اعلام كلينتون بها خلال زيارته الأولى الى واشنطن كرئيس للحكومة، كما يقرر تجميد لقاء شاحل المخطط في جنيف حتى تتم الزيارة.
كان تقدير رابين وشاحل ان ثمة احتمالا بأن يغير كلينتون، خلافا لسابقه، التوجه الأمريكي وأن ينظر بالأيجاب الى المبادرة العراقية ويبارك اقامة علاقات بين العراق واسرائيل. يعود رابين من واشنطن بخفي حنين. الرئيس كلينتون يعارض أي نوع من العلاقة الاسرائيلية ـ العراقية.
* رابين يستجيب للأملاء
أيلول 1994: المدير العام لوزارة الطاقة،عاموس رون، يصل الى ليماسول للمشاركة في مؤتمر شرق اوسطي لشؤون الطاقة تنظمه APS وهي منظمة للطاقة مؤيدة للعرب. بين المشاركين في المؤتمر مندوبون عن العراق وايران والأمارات الخليجية. على هامش المؤتمر يلتقي رون، للمرة الأولى وبوساطة وسيط لبناني، مع المندوب العراقي في المؤتمر، ابراهيم اسماعيل، ويبحث معه العرض العراقي لبيع النفط لاسرائيل بسعر أقل من سعر السوق وبالكميات التي تريدها.
يتم اللقاء في شقة خصوصية في نيقوسيا، ويظهر اسماعيل خلاله إلماماً عميقاً بكل ما يتعلق بالقيادة السياسية والإقتصادية في اسرائيل. يتعهد رون ببحث العرض العراقي فور عودته الى البلاد. ويعود الرجلان ويلتقيان مرتين اخريين في قبرص، كانت الأخيرة منهما بعد اعتزال رون منصبه الحكومي ولدى دعوته الى مؤتمر APS ضيفا محاضرا بصفة شخصية.
يقول رون، الذي يشغل اليوم منصب المدير العام لسلطة الموانىء والقطارات: "لم يساورني أي شك في ان المبادرة العراقية كانت أوسع بكثير من مجرد صفقة نفط. كانت لها دلالات سياسية عميقة. لكنني لم أعلق آمالا كبيرة على دفعها وتطويرها، بسبب الدلالات والأبعاد الدولية التي انطوت عليها والمعارضة الحازمة في الادارة الأمريكية لأية علاقة مع نظام صدام حسين".
"انني اتفهم وأبرر موقف رابين الذي استجاب للأملاء الأمريكي، كما أستطيع رؤية المنطق في التوجه الأمريكي. فالولايات المتحدة تعتبر، وبحق، ان صدام يشكل تهديدًا حقيقيًا للعالم كله، وأنا شريك في الأمل بازالة هذا التهديد قريبا".
كانون الثاني 1995: يهودي لندني من أصل عراقي، رجل أعمال ثري، ينظم لقاء سريا في اسرائيل بين موشي شاحل وبين مبعوث خاص لصدام حسين. المبعوث، رجل في الـ 65 من عمره، يظهر معرفة واسعة مفاجئة بحياة شاحل في العراق، يصف المدرسة التي درس فيها في بغداد ويشرح عن عائلة شاحل، بتفرعاتها المختلفة. وخلال اللقاء الذي جرى في جو ودي، يدعو المبعوث العراقي شاحل الى لقاء مع برزان التكريتي في جنيف او باريس.
ويقول المبعوث ان لدى التكريتي توقعات عديدة من هذا اللقاء، وخاصة على خلفية توقيع اسرائيل على اتفاقيات اوسلو وتقدمها نحو سلام شامل مع الفلسطينيين. ويتعهد المبعوث بأن يكرر التكريتي خلال اللقاء تأكيد الموقف الذي اعلنه طارق عزيز قبل حرب الخليج ومؤداه ان ليس للعراق نزاع حدودي مع اسرائيل وانه مستعد للشروع في مفاوضات لتحقيق السلام وتطبيع العلاقات معها. ويتعهد العراق ايضا بعدم مهاجمة اسرائيل في حال شن الولايات المتحدة حربا جديدة على العراق. ويعود المبعوث ويكرر العرض العراقي بشأن النفط، لكن المشاركين في اللقاء يدركون ان موضوع النفط هامشي، قياسا الى التحرك السياسي الذي يرمي اليه صدام.
يطلب شاحل الأذن من رابين للسفر الى اللقاء المقترح، ويصر هذه المرة على رأيه بضرورة عقده. "مع كل الإحترام للأمريكيين"، يقول شاحل، "لا يجوز لنا تفويت الفرصة". ويقترح شاحل ابلاغ الأمريكيين باللقاء بعد حصوله فقط. رابين ايضا يشعر بوجود فرصة، لكنه يرفض، هذه المرة ايضا،السماح بعقد اللقاء دون اذن مسبق من الرئيس كلينتون. "العلاقة مع الولايات المتحدة أكثر أهمية من فتح قناة للحوار مع العراق"، يلخص رابين.
سفير الولايات المتحدة في اسرائيل يسمع من رابين عن المبادرة العراقية وير فضها قطعيا. بعد يومين، ينقل الى ديوان رئيس الحكومة رسالة حازمة من الرئيس كلينتون مفادها منع عقد أية لقاءات مع مبعوثي صدام حسين ومنع تلقي أية توجهات عراقية لتنظيم لقاءات، دون ابلاغ الادارة الأمريكية بها. ورغم الحاح شاحل وتوسلاته لتجاهل الرد الأمريكي، يقرر رابين الأستجابة للأملاء الأمريكي بحذافيره، نصا وروحا.
شمعون بيرس الذي كان وزيرا للخارجية في حكومة رابين سئل هذا الأسبوع حول دوره وموقفه في تلك الأتصالات مع العراق فقال: " موشي شاحل أبلغني حقا بتلك اللقاءات، لكنني لا أعتقد ان الوقت قد حان للحديث عنها على الملأ".
* كلينتون يغلق الباب
حزيران 1998: موشي شاحل، الذي قدم استقالته من الكنيست قبل ذلك بشهرين، يعود الى عمله محاميا مستقلا. توفيق المصري، فلسطيني من عائلة معروفة في المناطق، ينقل الى شاحل دعوة للحضور الى عمان للقاء مع مندوب عراقي للبحث في عرض عراقي بتزويد اسرائيل بالنفط مقابل أغذية وأدوية من اسرائيل.
شاحل يصر على ان يعقد اللقاء في مكتبه في تل أبيب ويبلغ مسؤولا أمنيا رفيعا ويطلب رأيه. في تلك الأثناء، يتلقى مكالمة هاتفية من بغداد، بوساطة المصري. المتحدث من بغداد يلح على شاحل ويرجوه ان يلبي الدعوة للقاء مع المبعوث العراقي ويتعهد بدعم الرئيس صدام المباشر لأية خطوة. شاحل يشرح لمحدثه العراقي انه لم يعد يشغل أي منصب وزاري او حكومي رسمي آخر ولا يستطيع الألتزام باتفاقية تجارية باسم دولة اسرائيل. العراقي يتوسل الى شاحل لعقد اللقاء بصفة شخصية. شاحل يعد الترتيبات المناسبة لاستقبال المبعوث العراقي في جسر اللنبي. ولكن قبل يوم واحد من موعد وصوله، يقرر شاحل الغاء اللقاء، اثر معلومات تلقاها من اجهزة الأمن.
"بنظرة الى الوراء"، يقول شاحل، "الولايات المتحدة ارتكبت خطأ جسيما حين أغلقت الباب أمام محاولة التقرب العراقية. فلو استجاب الأمريكيون للمبادرة، لكان بمقدورهم فرض شروط قاسية على العراق ولكان صدام اضطر الى الألتزام بها. اغلاق الباب من جانب كلينتون كان خطأ تاريخياً منبعه الغباء وليس أي شيء آخر. الولايات المتحدة لم تفهم آنذاك، مثلما انها لا تفهم اليوم، كيفية عمل الأنظمة في العالم العربي. ليس لدي أدنى شك في قدرة صدام حسين على ملاءمة نفسه للواقع المتغير. من حالة العداء والكراهية تجاه اسرائيل و "الدفاع" عن الشعب الفلسطيني، يستطيع تغيير جلده وملاءمة نفسه لعلاقات ودية وتجارية مع اسرائيل ومع الولايات المتحدة. هذا ينطبق عليه في كل الأتجاهات. اذا اوقفه الأمريكيون وظهره الى الحائط، سيكون صدام على استعداد لضرب اسرائيل وايذائها بقسوة بكل الطرق والوسائل المتاحة له، تماما بمثل اصراره في محاولة تحقيق السلام مع اسرائيل".
" خسارة اننا لم نجرب صدام ولم نضع نواياه في امتحان حقيقي"، يلخص شاحل، " لقد كانت تلك تفويتة كبيرة من الولايات المتحدة، من اسرائيل ومن العالم الغربي".
موظف أمريكي رفيع قال معقبا: "الولايات المتحدة غير معنية بالحديث عن الموضوع".
(دان شيلون، معريف، 14 شباط – ترجمة: "مدار")