المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

* بعد مضي تسعة أشهر لباراك في منصبه لا يزال يراوح في حضيض الاستطلاعات بعيدا عن منافسه نتنياهو، بينما بقي العمل في مرتبة "حزب الدرجة الثانية" ولم يزده ولو بمقعد واحد * أوساط قيادية في العمل بدأت تستوعب أن باراك لم يحقق لها شيئا وتطرح السؤال: ما هو درب الخلاص؟ *

ينهي زعيم حزب "العمل" ووزير الدفاع إيهود باراك، هذه الأيام، تسعة أشهر في منصبيه المذكورين، وكان يتوقع أن يكون، في فترة كهذه وحتى أقل منها، قد أحدث انقلابا في استطلاعات الرأي، فيرقى بحزبه إلى مرتبة توقعات أعلى مما كانت عليه، وينجح في قضم حصة من نسب التأييد الشعبي التي يحصل عليها منافسه، زعيم حزب "الليكود" اليميني بنيامين نتنياهو، إلا أن شيئا من هذا لم يحصل.

فاستطلاعات الرأي تتنبأ بأن لا تزداد قوة حزب "العمل" في أي انتخابات برلمانية مقبلة، وأفضل نتيجة توقعتها له الاستطلاعات كانت حصوله على مقعد إضافي واحد، أي 20 مقعدا على الأكثر، حتى أن غالبية تلك الاستطلاعات تتحدث عن بقاء الحزب مع مقاعده الحالية لدورة ثالثة، وقد يخسر مقعدا منها.

أما على مستوى التأييد الشعبي لزعيم الحزب، باراك، فإن نتيجته تتراوح ما بين 17% إلى 20% كأقصى حد، مقابل 28% وحتى 32% لنتنياهو، وفي ظل هذا هناك تحسن ملموس لرئيس الحكومة الحالية، إيهود أولمرت، الذي كان حتى قبل بضعة أشهر يحصل على نسبة 7%، أما اليوم فإن الاستطلاعات تمنحه ما بين 14% وحتى 17%، وهو تحسن يدل على توجه متنام، لكن مستقبل هذا التأييد يبقى مجهولا.

في ظل أجواء كهذه لا يمكن أن يكون لدى باراك أي توجه جاد لنفض الائتلاف الحاكم، والانسحاب منه والتوجه إلى انتخابات مبكرة، نتيجتها معروفة مسبقا، وعنوانها الأبرز عدم عودة باراك إلى رئاسة الحكومة.

تثبيت مقولة "حزب ظل"

منذ سنوات، وبالذات منذ أن خسر حزب العمل رئاسة الحكومة، في الانتخابات الوحيدة التي جرت لرئاسة الحكومة في شباط 2001، فقد حزب العمل تميزه المحدود في طرحه السياسي بالمقاسات الإسرائيلية، وقد برز هذا في خطاب باراك نفسه في الأشهر الأخيرة لرئاسته الحكومة، بعد قمة كامب ديفيد، فهو أول من طرح مقولة "لا يوجد شريك فلسطيني"، وما تبع ذلك من صياغات في الخطاب السياسي الإسرائيلي الرسمي لاحقا.

ووجدنا كتلة حزب العمل في حكومة أريئيل شارون الأولى، (2001- 2003)، ليس فقط أنها تتماشى مع توجهاته المتطرفة، بل ظهر من يقف حتى على يمينه، مثل وزير الدفاع في حينه، بنيامين بن إليعازر، الذي فاز برئاسة حزبه لعدة أشهر.

وجرت محاولات كثيرة للنهوض بالحزب مجددا، وتوالى على رئاسة الحزب خلال خمس سنوات ونصف السنة، ثمانية رؤساء، من بينها اثنتان لشمعون بيريس، قبل أن يغادر الحزب كليا في نهاية العام 2005، بعد خسارته المنافسة أمام رئيس الحزب السابق عمير بيرتس.

إلا أن أيا من هؤلاء الرؤساء لم ينجح في انتزاع الحزب من الخانة التي غرق فيها في الحلبة السياسية، "حزب ظل"، تابعا وليس مبادرا في حكومتين لشارون، وثالثة مع إيهود أولمرت، ومن بين هذه المحاولات إظهار طابع اجتماعي للحزب من خلال انتخاب بيرتس، الذي تخلى بسرعة عن الملف الاجتماعي وقبل بوزارة الدفاع، وخاض حربين على الشعبين الفلسطيني واللبناني.

وحينما فاز باراك برئاسة الحزب، في حزيران العام 2006، اعتقد أن الرأي العام الإسرائيلي سيستقبله بحرارة، على اعتبار أنه "المخلص" من ورطات إسرائيل الأمنية، وأنه سرعان ما سيتحول إلى "رمز القوة" الذي يلجأ له الشارع الإسرائيلي، ومن هناك فإن الطريق أقصر إلى كرسي رئاسة الحكومة.

ولكن كل خطابات باراك اليمينية، منذ أن وصل إلى وزارة الدفاع، لم تساهم في تحقيق الهدف، فقد ظهر في الكثير من المواقف يقف عن يمين الحكومة، مثل رفضه إزالة الحواجز العسكرية، ومفاوضاته مع قادة المستوطنين، من أجل الالتفاف على التزام إزالة البؤر الاستيطانية بحيث يتم نقلها إلى مناطق أخرى في الضفة الغربية المحتلة، ومبادرته لفكرة تشديد الحصار على قطاع غزة، ليشمل المواد الغذائية والوقود، ويردد طيلة الوقت نفس المقولة التي طرحها في نهاية العام 2000، وتزعم "عدم وجود شريك فلسطيني"، مقللا من شأن المفاوضات الجارية حاليا مع القيادة الفلسطينية.

لا بل وقد ظهر باراك في الأسبوع الماضي، كمن يرفض التوصل إلى تهدئة مع قطاع غزة من خلال اتفاق غير مكتوب، وفجر التهدئة باغتيال أربعة ناشطين فلسطينيين في بيت لحم، واغتيال خامس في مدينة نابلس، وهذا برز في خطاب لباراك في اليوم التالي تفاخر فيه بالجريمة.

إلا أن كل هذا لم يساهم بشيء لباراك وحزبه، كما أشرنا سابقا، فلا يزال حزبه غائصًا في عدد هش من المقاعد، لا تكفي حتى لنجوم الحزب البارزة على الساحة السياسية.

حالة تململ والسعي لإصطفافات

باتت قواعد واسعة في الحزب تدرك أن باراك لم يحقق للحزب ما كان مرجوا منه، وهناك حالة قلق واضحة جدا في كتلة الحزب في الكنيست، وحتى بين الوزراء الذين دعموا باراك في منافسته على رئاسة الحزب، لكن هذا يجري على الأغلب وسط صمت، وبانتظار رؤية التطورات، يرافق ذلك قلق من أن يجد الحزب نفسه فجأة في خضم انتخابات برلمانية، لا تبشره بأي شيء، سوى بضعة مقاعد في صفوف المعارضة، لحكومة بنيامين نتنياهو المتوقعة، إن لم يقبل بالمشاركة فيها.

وفي الأيام الأخيرة سمعنا مثلا نائب وزير الدفاع السابق، إفرايم سنيه، يوجه انتقادا مباشرا لباراك في اجتماع المكتب السياسي للحزب، إذ قال: "إن مشكلتنا هي أننا تحولنا إلى حزب غير ملموس، نحن نجلس في حكومة وننفذ أمورا ليست من طابع طريقنا السياسي، ونحن لا نقود الحكومة باتجاه التفاوض مع الجانب الفلسطيني، إن كتلة شاس تتلاعب بالحكومة، وتدفع باتجاه البناء في المستوطنات، هذا ليس طريق حزب العمل، ومن يفقد طريقه يصبح غير مهم وغير ملموس".

وبعد أيام قرأنا على الصفحة الأولى من صحيفة "هآرتس" أن رئيس الحزب السابق، عمير بيرتس، معني بدعم جديد لمنافس باراك في الانتخابات الأخيرة، الوزير عامي أيالون، في منافسة جديدة لرئاسة الحزب، قبيل أي انتخابات برلمانية قادمة.

من المتوقع أن يظهر التوتر على السطح في صفوف حزب العمل مع أول ظهور لأجواء انتخابية برلمانية مبكرة، قد تؤخرها في هذه المرحلة الانتخابات للمجالس البلدية والقروية، في الثلث الأول من شهر تشرين الثاني القادم، التي قد تكون فرصة لاختبار المحركات بين كوادر وقواعد الحزب، وبطبيعة الحال لباقي الأحزاب في الحلبة الإسرائيلية.

احتمالات نهوض ضئيلة

كل المؤشرات تدل على أن النهوض من جديد بحزب العمل في وضعه وتركيبته الحالية ضئيلة، وإذا وضعنا احتمالات النهوض أمام احتمالات أن يضعف أكثر، نجد أن احتمالات الضعف أكبر، وهذا أيضا يدركه قادة الحزب، ولكن لا يبوحون به.

وعملية النهوض تتطلب الكثير من العوامل الذاتية والظروف السياسية المحيطة، مثل طرح خطاب متميز، والظهور بموقع المبادر وليس التابع، وهذه كلها عوامل ليست ظاهرة، وحتى وإن ظهرت، فإنها تحتاج لفترة من الوقت لإقناع الشارع بها.

وعلى هذا الأساس فإن هناك أفكارا تطرح في الهواء دون أن تكون ملموسة، ومن بينها أن يبحث حزب العمل عن إطار سياسي جديد، يكون في مركزه وبدور قيادي، ولكنها تبقى أفكار تظهر هنا وهناك، وهي أيضا من المستبعد حتى الآن أن تكون واقعية.

ومن بين هذه الأفكار تشكيل قائمة مشتركة مع كتلة "ميرتس"، ولكن قائمة كهذه من المستبعد أن تحقق شيئا، خاصة وأن الحزبين أصلا يرتبطان في الانتخابات باتفاقيات فائض أصوات، لحصر مقاعد جمهوري الناخبين بينهما، كذلك فإن تحالفا كهذا قد يؤدي إلى نفور جمهور يساري صهيوني يصوت لميرتس، أو جماعات أخرى مناصرة لحقوق الإنسان والبيئة وغيرها، وفي المقابل فإن هذا التحالف سيبعد جمهور المركز السياسي في الشارع الإسرائيلي عن حزب العمل.

كذلك هناك من يرى أن تحالفا مع حزب "كديما" قد يكون واقعيا أكثر من تحالف مع "ميرتس"، ولكن السؤال الذي سيطرح نفسه: ما الذي سيحققه تحالف كهذا، بين حزبين متهاويين، بسبب نجومهما السياسية، الذين سيقودون من جديد هذا التحالف؟.

كذلك فإن تحالفا مع "كديما" سيبقي على حالة الفوضى السياسية، لأننا سنلحظ الكثير من عدم التجانس بين بعض رموز الحزبين، كما أن تحالفا كهذا عليه أن يقوم في وقت مبكر، من أجل إقناع الشارع بجدواه، خاصة وأن الشارع الإسرائيلي مقتنع الآن بأن تجربته مع حزب "كديما" الذي تسلم الحكم بعد أشهر قليلة على قيامه قد فشلت، ولهذا لن يقبل بتسليم الحكم مجددا لإطار سياسي أقيم للتو.

خلاصة

قد يكون باراك مشكلة في حزب العمل ولكنه ليس كل مشكلة الحزب، الذي عليه أن يستبدل قيادته، ولكن بموازاة ذلك عليه أن يبادر لانقلاب في طرحه السياسي، يكون مقنعا وقادرا على مواجهة تحديات اليمين المتطرف الذي يزداد قوة من عام إلى آخر.

انقلاب كهذا ليس فقط غير ملموس، بل لا يلوح حتى في أفق بعيد، والأشهر القادمة ستكون مصيرية للحزب، ففي حال استمر وضعه الحالي، فقد يحتل بعد الانتخابات القادمة مكانة حزب الليكود الحالية، كحزب رابع أو خامس في الحلبة السياسية الإسرائيلية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات