المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

* إيهود باراك بات على ما يبدو مقتنعًا بأن أي انتخابات برلمانية مبكرة لن تعيده إلى كرسي رئاسة الحكومة، بل ولن تحسن من وضعية حزبه *

فاجأ وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، الحلبة السياسية، في الأيام الأخيرة، بإعلانه، أمام جلسة الحكومة، أن حزبه، "العمل"، سيدعم مبادرة برلمانية لسن قانون يضمن تعويضات لكل من يرغب من المستوطنين، في المستوطنات الواقعة "خلف" جدار الفصل العنصري، بإخلاء المستوطنة بمحض إرادته.

وفي السياق الطبيعي للعمل السياسي في داخل إسرائيل، ما كان تصريح باراك سيعتبر مفاجأة، بزعم أن هذا موقف حزب "العمل" في السنوات الأخيرة، الذي يؤيد إخلاء قسم من المستوطنات، لربما أكثر بقليل مما قد يوافق عليه اليمين الإسرائيلي.

إلا أن مواقف باراك التي تمسك بها في السنوات الأخيرة، وشهدت تصعيدا وتشددا في الأشهر الستة الأخيرة لوجوده في الحكومة، هي التي جعلت تصريحا كهذا على لسان باراك مفاجأة، ولكنه في نفس الوقت أعاد إلى الأذهان اللقب الذي نسب إليه حين كان رئيسا للحكومة، وهو "رجل الالتواءات" في المواقف، أو كما اصطلح على تسميته في اللغة العبرية- "زيك زاك".

لم يترك باراك، على مدى ستة أشهر، أي زاوية من المواقف إلا وقفز إليها، بحثا عن خشبة قفز قد تعيده إلى كرسي رئاسة الحكومة، الذي يطمح إليه، إلا أن سياسة القفز تبعده أكثر عن هذا المنصب، وفق استطلاعات الرأي التي تثبت أن حزب "العمل" سيحافظ في أفضل الأحوال على قوته البرلمانية، ولربما بإضافة مقعد واحد للمقاعد التسعة عشر التي لديه حاليا، من أصل 120 مقعدا.

نماذج لمواقف متقلبة

قبل ثمانية أشهر، وفي أوج المنافسة على رئاسة حزب "العمل" الإسرائيلي، واجه باراك ضغطا إعلاميا، ليعلن موقفه من مصير شراكة حزب "العمل" في حكومة إيهود أولمرت، على خلفية صدور التقرير المرحلي للجنة فينوغراد، المكلفة بفحص مجريات الحرب على لبنان، إلا أن باراك لم يسارع، وانتظر من ثلاثة إلى أربعة أسابيع، ليعلن انه بعد صدور التقرير النهائي سيطلب من حزبه الانسحاب من الحكومة، في حال بقي إيهود أولمرت رئيسا للحكومة.

وبعد فوزه، بدأ باراك في البحث عن صياغات تجعله اقل تقيدا بتعهده، ومنها أن بقاءه في الحكومة قد يستمر في حال قرر حزب "كديما" الحاكم استبدال أولمرت بشخصية أخرى من الحزب، أو أنه سيتمهل بالخروج من الحكومة، إذا ما اتفق مع أولمرت على موعد متفق عليه لانتخابات برلمانية مبكرة.

وفي الأيام الأخيرة، سمعنا لغة أخرى من باراك، في اجتماع لكتلة حزبه البرلمانية، فقد أعلن أن حزبه لن يخرج من الحكومة نتيجة ضغط ما، وليس بالضرورة ان يحمل أمتعته ويسارع في الخروج بعد صدور تقرير فينوغراد.

والحال في المسار السياسي العام لم تختلف كثيرا، فباراك دخل إلى الحكومة حاملا معه المواقف السياسية التي تبناها بعد أن غادر كرسي رئاسة الحكومة، في شباط العام 2001، وحتى الآن، فهو أول من طرح مزاعم انه "لا يوجد شريك للسلام في الجانب الفلسطيني"، بشنه هجوما على الرئيس الراحل ياسر عرفات، واليوم رفع هذا الشعار من جديد تجاه الرئيس محمود عباس، "أبو مازن"، تحت غطاء عدم قدرة السلطة الفلسطينية على فرض سيطرتها على الشارع الفلسطيني.

ولم يكتف باراك بهذا الموقف بل عمل على تصعيده، ودعا رئيس الحكومة إلى التخلي عن المسار الفلسطيني في هذه المرحلة، "لأنه من غير المجدي الاستمرار به"، ودعا إلى استئناف المفاوضات مع سورية، دون أن يذكر مدى استعداده لدفع ثمن السلام مع سورية.

واتخذ باراك مواقف متشددة ميدانيا، فعدا استمرار العمليات العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد رفض تنفيذ تعهدات رئيس حكومة أولمرت بإزالة بعض الحواجز والسواتر العسكرية في الضفة، وحتى أنه زاد عددها بأربعين حاجزا اضافيا، منذ ان تسلم منصبه في شهر حزيران الماضي، وحتى شهر أيلول الماضي، وليصبح عددها 573 حاجزا، وفق إحصائية لإحدى الهيئات التابعة للأمم المتحدة.

ثم رأينا باراك يشارك في لقاء أنابوليس الدولي، وهناك غيّب كليا موقفه الرافض لاستئناف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني، وبعد أيام قليلة من عودته بعد ذلك اللقاء، أطلق ذلك التصريح، الذي افتتحنا فيه هذه المعالجة.

يشار هنا إلى أنه حتى هذا التصريح لم يخرج عن موقف الإجماع الإسرائيلي والصهيوني، فهو لم يتحدث عن كل مستوطنات الضفة الغربية، وإنما فقط عن تلك المستوطنات التي بقيت "خلف" الجدار، وحسب مسار الجدار ستخليها إسرائيل مستقبلا، وهي تضم حوالي 70 ألف مستوطن، من أصل 470 ألف مستوطن في الضفة الغربية المحتلة، والأحياء الاستيطانية في القدس المحتلة.

الدافع واحد

يقف من وراء تقلبات باراك، إن كانت على المستوى الحزبي أو على المستوى السياسي، دافع واحد، وهو بحث باراك عن أي مسار يعيده إلى كرسي رئاسة الحكومة، رغم معرفته باستحالة هذا الأمر، في الظروف السياسية الراهنة التي تشهدها إسرائيل، والأهم من ذلك، بسبب الوضع السياسي والحزبي في داخل حزب "العمل".

وكما يظهر فإن باراك بات يدرك تماما، مع توالي صدور نتائج استطلاعات الرأي، أن أي انتخابات برلمانية مبكرة وفي هذه المرحلة لن تخرج حزب "العمل" من محنته، وحتى أنه لن يحظى ولو بجزء بسيط من المقاعد التي سيخسرها حزب "كديما" الحاكم (حسب الاستطلاعات سيخسر من 14 إلى 17 مقعدا)، ولا حتى من أي مقعد من المقاعد السبعة التي سيخسرها حزب المتقاعدين، علما ان حزب العمل يحصل على نسبة عالية من بين كبار السن، وجزء من هذا يعود إلى تصويت تقليدي لهؤلاء للحزب المؤسس لإسرائيل.

وعلى ما يبدو فإن باراك اقتنع أيضا انه حتى إن لم يكن الحزب الأول بعد انتخابات برلمانية مبكرة، فإنه أيضا لن يكون بإمكانه تحسين وضعه البرلماني، ليكون مرشحا قويا وذا وزن برلماني مقنع، في أي تركيبة برلمانية قادمة.

ولهذا فإن باراك يسعى الآن لتأمين فترة إضافية يعيد فيها حساباته وترتيب أوراقه، بحثا عن اتجاه جديد، ومن أجل تأمين هذه الفترة، عليه أولا ضمان بقاء الائتلاف الحكومي، وعلى ما يبدو فإنه يضمن هذا من جميع الاتجاهات، على الأقل في هذه المرحلة قبل صدور تقرير فينوغراد، وحتى بعده.

على مستوى الائتلاف الحكومي، يمكن القول إن جميع الأحزاب اجتازت "حاجز" لقاء أنابوليس، وحتى اشد المعارضين لمفاوضات الحل الدائم، من حزبي "يسرائيل بيتينو" (إسرائيل بيتنا) و"شاس" ووزراء في "كديما"، باتوا على قناعة أن لا سبب يُخرجهم من الحكومة.

أما بعد صدور تقرير فينوغراد، فإن أحد الاحتمالات القوية هو أن أيا من الأحزاب، باستثناء "يسرائيل بيتينو" بزعامة الوزير المتطرف أفيغدور ليبرمان، لن يبادر للخروج من الحكومة لسبب وواضح، وهو أن جميع هذه الأحزاب شاركت في قرار الحرب على لبنان، وكان لجميعها ممثلون في جميع أطر اتخاذ القرار في الحكومة، ولهذا فهي لا تستطيع تجاهل دورها في المسؤولية العامة عن الحرب.

أما على المستوى الداخلي لحزب "العمل"، فإنه من بين الوزراء السبعة لحزب "العمل" هناك وزير واحد ووحيد نادى بالخروج من الحكومة، وهو باراك نفسه، ومن خارج الحكومة، كما أن 10 أعضاء كنيست، من أصل 12 عضوا، يطالبون بالبقاء في الحكومة، وبطبيعة الحال فإن باراك الذي بات يقتنع بضرورة البقاء في الحكومة، وحين يطرح القضية على التصويت في كتلته، فإنه سيجد أغلبية ساحقة تطالبه بالبقاء، لا بل فحتى لو طرح الأمر على اللجنة المركزية للحزب (تضم 1800 عضو) فسيحظى بأغلبية قريبة من الإجماع للبقاء في الحكومة.

ولهذا فإن باراك سيسعى للبقاء في الحكومة لأطول فترة ممكنة، أو إلى حين أن يمسك بفرصة أخرى يتأكد فيها أن أي انتخابات برلمانية مبكرة ستزيد من قوة حزبه، على الأقل.

بعد فينوغراد

على الرغم مما سبق ذكره في ما يتعلق بالتقرير النهائي للجنة فينوغراد، فإن جميع الاحتمالات تبقى مفتوحة.

في حال كانت اللهجة قاسية جدا في ذلك التقرير تجاه رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، تؤدي لظهور حملة إعلامية وسياسية وشعبية تضغط في اتجاه استقالة أولمرت، حينها سيكون باراك وحزب "العمل" مطالبين باتخاذ موقف يراعي هذه الحملة، ولذا فهو سيختار واحدا من عدة اتجاهات، وفي كل منها مطب سياسي محرج،

الخيار الأول، وهو إشكالي، أن يتجاهل باراك الحملة، وينضم إلى مسار خط الدفاع الذي سيتبناه أولمرت، بأنه منذ صيف 2006 تم استخلاص الكثير من النتائج وإصلاح الكثير من الخلل، لهذا فإن استنتاجات اللجنة تعود إلى فترة ولت.

والخيار الثاني هو أن ينسحب حزب "العمل" من الحكومة، ليؤدي إلى انهيارها والتوجه إلى انتخابات مبكرة، نتيجتها باتت معروفة بالنسبة لحزب "العمل"، وهذا حتى الآن الخيار الأضعف.

أما الخيار الثالث، فهو أن يتفق مع أولمرت على موعد انتخابات برلمانية مبكرة، ولو بعد ستة أو ثمانية شهور، كما كان قد أعلن باراك بعد صدور التقرير المرحلي لفينوغراد، ولكن هذا الموعد سيتضارب مع موعد انتخابات المجالس البلدية والمحلية، بعد اقل من 11 شهرا، وهذه انتخابات يطمح باراك لجعلها اختبارا لقوة حزبه في الشارع، كذلك فإنها تبقى انتخابات مبكرة، نتيجتها محرجة لحزب "العمل".

أما الخيار الرابع، فهو أن يعطي المجال لحزب "كديما" ليختار خليفة لأولمرت، ليتم تشكيل حكومة جديدة يستمر عملها حتى نهاية الولاية القانونية، أي حتى خريف العام 2010، ولكن في هذا إشكال من نوع آخر لباراك، خاصة إذا تم اختيار وزيرة الخارجية تسيبي ليفني، التي تحظى بشعبية قوية في الشارع الإسرائيلي.

وإشكالية باراك في هذا الخيار الأخير، هو انه "سيتورط" في أي انتخابات برلمانية مقبلة، بمواجهة شخصية أخرى ذات شعبية كبيرة، وليس فقط زعيم حزب "الليكود" بنيامين نتنياهو، لتكون المنافسة أصعب.

ورطة "العمل"

إن الأزمة التي يمر بها حزب "العمل" تعود بالأساس لتغييبه برنامجا سياسيا واضح المعالم، ومتميزا عن الأحزاب الكبيرة التي تدور في فلك السلطة. وما يعمق هذه الأزمة هو تعدد الخطابات في داخل هذا الحزب، وهذا ما زاده باراك نفسه، عندما لجأ لخطاب يميني متطرف في الأشهر الأخيرة.

وهذا الأمر سيؤدي بالأساس إلى جعل جمهور كبير من المصوتين في إسرائيل، خاصة من جمهور "وسط- يسار"، يرتدع عن المشاركة في العملية الانتخابية، لأنه لا يجدون الخيار الأنسب له، علما أن هذا هو الجمهور الأكبر الذي يصوت لحزب "العمل".
وفي نفس الوقت فإن جمهور اليمين لن يلجأ لحزب "العمل" لأنه طالما ان توجهاته يمينية، فإنه سيلجأ إلى "النسخة الأصلية" لأحزاب اليمين، من "الليكود"، ومن هم على يمينه.

لعلّ النتيجة التي من الممكن الآن التأكد منها، دون المخاطرة بتكهنات، هي أن حزب "العمل" في وضعه الحالي لن يكون الحزب الأول في الحلبة السياسية في إسرائيل، وهذه حال قد تستمر لسنوات.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات