هل اسرائيل دولة مصدومة؟ المعالج النفساني البروفيسور دان بار اون يقول ان المجتمع الاسرائيلي يعيش في ظل رعب الكارثة والخوف من محاولات القائه في البحر، لذلك يميل الى اعتبار نفسه ضحية.
هل اسرائيل دولة مصدومة؟ المعالج النفساني البروفيسور دان بار اون يقول ان المجتمع الاسرائيلي يعيش في ظل رعب الكارثة والخوف من محاولات القائه في البحر، لذلك يميل الى اعتبار نفسه ضحية. ويعتقد مدير مركز العلاج النفسي من الصدمات النفسية بالقدس الغربية داني بروم ان المجتمع الاسرائيلي، كما هو الحال مع كل من يتواجد في صراع البقاء، يتحول الى اللاعقلاني. بالمقابل، كشف بحث اجرته بروفيسور زهافا سولومون، المتخصصة في دراسة الصدمات، وجود نسبة متدنية نسبيا من مظاهر "ما بعد الصدمات" في اسرائيل. هناك، على ما يبدو، علاقة بين موجات العمليات الفدائية في السنتين الاخيرتين والشعبية المتصاعدة للامسيات الشعرية المفتوحة للجمهور، التي تنعقد حتى في نوادي الروك. وازاء ما يبدو الاحساس بتهديد الامن الاساسي الشخصي لدى الاسرائيليين، تثور المخاوف الكابوسية النائمة المحفورة عميقا في النفس اليهودية جيلا فوق جيل، بأن هناك من "ينوي القضاء علينا". من هنا تصبح الطريق قصيرة الى نداءات التوحد حول العلم والى الحنين اللزج على هيئة قصائد حول "موقدة القبيلة".
يرى داني بروم ان استخدام رموز الانسان الخاضع للصدمة يسمح بشرح الكثير من الامرجة واتجاهات الريح في المجتمع الاسرائيلي: "باستثناء الاحساس العام بالانتكاس، توجد لهذا الوضع تأثيرات قوية على مواقف الجمهور في البلاد، وعلى ما يحدث في الشوارع، وعلى العنف في المدارس".
ويضيف: "عندما يكون الانسان معرّضا للخطر، فانه يدخل حالة جاهزية من صراع البقاء والدفاع عن النفس. في هذا الوضع يسيطر العقل البدائي على السلوك، ولا توجد امكانية للوصول الى الاجزاء الاكثر تطورا، العقلانية، في المخ".
من شأن انعدام العقلانية لدى الفرد ان ينعكس مثلا في التحول نحو الدين او المنجمين. بهذه الطريقة يمكن ان نشرح حقيقة توجه اجزاء كبيرة في المجتمع الاسرائيلي اليوم الى تبنّي مفاهيم القوموية او الامن، او البحث عن التوبة او التطلع الى الروحانيات بكل انواعها. حسب "بروم"، فان تحليل نفسية المنكشف للصدمات قد يوفر مفتاحا لفهم الاسرائيلية بكل تعقيداتها. وباعتباره شخصا اعصابه معرضة لتأثيرات خارجية، فإن الاسرائيلي مفتقد للصبر الى درجة الفظاظة، فهو يصفر بصفارة سيارته في الشارع، و "يشتعل" بسرعة. لكن، من الناحية الاخرى، وازاء المخاطر الخارجية، نجده يطور قدرة على البقاء تكاد تصل حد العدب: "في فترة حرب الخليج كان هناك تجنّد عام، لم يكن ممكنا العثور على مثله في اوروبا"، يقول بروم.
الانسان المذعور يعيش متحفزا باستمرار خشية التهديدات المحتملة. وما هو غير ذي صلة بالخطر، يتم تلقيه باللامبالاة والانغلاق. "اليقظة جهلز هام من اجل البقاء"، يقول بروم. "لكن اذا تواصل ذلك، تتطور مضايقات ما بعد الصدمة. عندما يرى مجتمع بأكمله العالم عبر كوة صغيرة (من فعل بي ماذا؟) تصبح هذه حالة غير صحية، ويصبح المجتمع عالقا فيها".
* حزينون لكن ..
تفضّل البروفيسور زهافا سولومون، الخبيرة في دراسة الصدمات من جامعة تل ابيب، الحديث عن "علم نفس مجتمع يعيش في ظل تهديدات دائمة". لكنها تدعي ان الجزم بأن المجتمع الاسرائيلي كله يعيش حالة رعب، فيه الكثير من المبالغة. بل ان سولومون، التي اشغلت في السابق منصب رئيس شعبة المصدومين من المعارك في الجيش الاسرائيلي، تعتقد ان غالبية الاسرائيليين يجابهون "الوضع" بصورة جيدة نسبيا. وقد امد هذا الجزم القاطع استطلاع اجرته مؤخرا فحصت من خلاله مظاهر ما بعد الصدمة لدى السكان في اسرائيل. شارك في الاستطلاع الدكتور افي بليخ ومارك غالكوف من جامعة تل ابيب، ولم تنشر نتائجه الى الان. وقد تبين ان 9% من الاسرائيليين يعانون من ظواهر مقرونة بالصدمات مثل الذكريات المؤلمة وتجارب العرب المتكررة والتحفز الزائد والضائقة العامة والانخفاض الحاد في القيام بالمهمات.
للمقارنة، وجدت الاستطلاعات في نيويورك ان 10-20% من السكان يعانون من عدة مظاهر مختلفة لما بعد الصدمات، رغم انقضاء عام على تفجيرات البرجين في نيويورك. ارسلت استمارات الاستطلاع الذي اجرته سلومون الى 513 شخصا في فترة تلاحقت فيها العمليات الفدائية في اواخر نيسان – ابريل الماضي. لم تكن الغالبية العظمى من المشتركين في الرد (63%) في عمليات ولم تتضرر. وعرف 22% من المشتركين اشخاصا قريبين اصيبوا في احدى العمليات. وعرف 15% منهم اشخاصا كانوا في عمليات ولم يتضرروا. وقال 13% منهم انهم يفكرون بالتوجه مستقبلا الى خطوط استشارة تعرض مساعدات نفسية.
تعترف سلومون انه فوجئت بحقيقة ان 9% فقط من السكان ابلغوا بوجود ظواهر ما بعد الصدمة. فقد توقعت نتائج اعلى بكثير: "عندما تتواصل التهديدات ويتراكم لدينا تذكارات متلاحقة باصاباتنا البيولوجية، فإن الاحساس العام هو ان العالم برمته غير آمن". وهي تقول ان القصص عن المصائب العائلية المزدوجة والمثلثة، والعمليات التي تصيب الاولاد، تهزّ جمهورا عريضا من الناس: "اصابة الاولاد تهز كافة معتقداتنا بوجود عدل ومظام في العالم وبوجود امن للمخلوقات التي لم تأثم. في احداث من هذا النوع، يبدو ان الاعتقاد بأن ذلك لن يحث لي، آخذ بالتلاشي". لكن معظم المشتركين في استطلاع سلومون (60%) افادوا بوجود احاسيس بالانتكاس والحزن. لعل الرد على سؤال عما اذا كان المجتمع الاسرائيلي يعيش حالة رعب عام متصل بالمصطلح والتعريفات. معظم الاشخاص يؤدون مهامهم ويواصلون روتين حياتهم. لكن هل يمكن تقدير ابعاد الانتكاس واليأس لدى مجتمع – أي كيف يمكن قياس ما سمي مرة "المعنويات القومية"؟
افاد 67% من المشتركين في الاستطلاع انهم متفائلون فيما يخص مستقبلهم الشخصي. لكن حوالي نصف المشتركين لم يكونوا متفائلين فيما يخص مستقبل دولة اسرائيل. لعل الخوف على مصير الدولة متصل بذعر سحيق اخر – الكارثة: "لا توجد شعوب كثيرة في العالم المعاصر مرت بتجربة مريعة كهذه، تم فيها تصفية جزء كبير كهذا من شعبها"، يقول البروفيسور دان بار اون من جامعة بن غوريون في النقب. "المجتمع الاسرائيلي برمّته متأثر بذلك".
ويشير بار اون الى الكارثة باعتبارها المصدر اتلاساسي للرعب في المجتمع الاسرائيلي. في فترة الحروب – 67 و 73 – وفي حرب الخليج وكذلك في الانتفاضة الحالية، يقول بار اون، تهتز احاسيس القلق النائمة التي يحملها بداخله شعب مصدوم: "هناك احساس ملموس بان هناك من يريد ابادتنا، والقائنا للبحر. او اذا ترجمنا ذلك الى واقغعنا السياسي – الفلسطينيون يريدون حق العودة".
مثل بروم، يستمد بار اون تشخيصاته من صورة الانسان المصدوم. الحالة النفسية التي تعبر عن الصدمة تكون متحجرة ومغلقة وذات ادراك مختل للواقع: "في حرب الخليج بدأ ناجون من الكارثة تخزين الاغذية وتحويل بيوتهم الى ما يشبه الاستحكامات. المجتمع المصدوم – وذلك بارز جدا في اسرائيل – يحاول دائما اصلاح فشل الماضي. والرد على تهديدات مبكرة لكي يحاول التخلص منها. قد تكون النتيجة ميلا الى الحروب".
لعل ابرز التشوهات في مجتمع مصدوم هو تمسكه بنفسانية الضحية – يقول بار اون: "مفاهيم الضحوية والتظاهر بانهم يستحقون لانهم الحقوا بنا الاضرار، تسيطر على المجتمع الاسرائيلي وعلى الفلسطينيين. هذا ليس غير واقعي تماما، لكن المشكلة ان القدرة على نقد الذات تتضرر". رياح الحرب في الولايات المتحدة – كما يقول – تشير الى ان الاميركان يمرون في هذه المرحلة بالضبط: "في بحثهم عن مرتكبي الظلم في العالم لكي يحولوا دون الاصابة القادمة، فانهم قد يفعلون نفس الشيء".
* عالم يمضي الى الوراء
بار اون متخصص في تسوية النزاعات القومية، وهو يشير الى صدمات الكاضي باعتبارها العقبة الكبرى في اساس الصراع بين المجتمعات، وباعتبارها كذلك وبكثير من الاستغراب مفتاحا لحل النزاع بينها. بعد ان بحث في حالات الناجين من الكارثة وابناء الجيلين الثاني والثالث، وحتى ابناء الجيل الثالث من "الرايخ الثالث"، يؤمن بار اون ان الطريق الى مصالحة قومية حقيقية ونهائية تمر عبر الاعتراف المتبادل بصدمات الاخر المريعة. في السنوات الاخيرة انضمت الى مجموعة من الفلسطينيين والاسرائيليين يعمل معها في محاولة التوصل الى الحوار، مجموعة من اليهود والالمان ابناء الجيل الثالث ومجموعة من البروتستانت والكاثوليك من ارلنده الشمالية. كل شعب يحافظ على صدماته بواسطة ايام الذكرى والحداد القومي، يقول بار اون. معظم اعياد اسرائيل، وليس ايام الحداد فقط، تشير الى صدمات مريعة حدثت للشعب اليهودي في الماضي. هذه الايام تستغل كثيرا من جانب القادة لاثارة الذاكرة الجماعية التي تكمن فيها مشاعر نائمة من الوطنية والرغبة بالانتقام.
يقول: "في حالة المجتمع المصدوم سهل جدا تهويل المخاوف القومية". وهو ليس متفائلا حيال الصراع في الشرق الاوسط: "نحن في عالم تتراجع فيه التحولات الاجتماعية والاقتصادية الى الوراء بدل ان تتطور، فهي مدغوعة بالمخاوف من الارهاب. لكن عندما نعطي المخاوف ان تقودنا، فانها تحقق نفسها. هذه هي ميزتها".