محاولة لتقديم تفسير شديد الخصوصية للصيرورة التي آلت إليها "عملية السلام" الإسرائيلية- الفلسطينية ما بعد مرحلة "اتفاق أوسلو"، وترتبًا على هذا الاتفاق ومحدداته
يسعى غرينبرغ، في هذا الكتاب، إلى تقديم تفسير شديد الخصوصية للصيرورة التي آلت إليها "عملية السلام" الإسرائيلية- الفلسطينية ما بعد مرحلة "اتفاق أوسلو"، وترتبًا على هذا الاتفاق ومحدداته. وهو يؤكد أن القصد من وراء ذلك كله هو فهم الواقع وتفسيره فحسب، لا البحث عن مذنبين من أجل حبسهم في قفص الاتهام.
يعتقد المؤلف بأنّ عملية أوسلو لم تتوافر على احتمالات كبيرة للنجاح، وذلك لسببين رئيسيين هما القوة الإسرائيلية الفائضة وطمس الحدود المادية والمجرّدة بين الكيانين الإسرائيلي والفلسطيني.
كما ينوّه بأنّ مفاوضات أوسلو أبقت المسائل الجوهرية (الحدود، اللاجئون، القدس) مفتوحة. وقد أتاح إبقاء هذه المسائل مفتوحة لكل طرف أن يتخيّل السلام وفقما يريده. وفي عرفه ربما كمنت في ذلك القوة الكبيرة لأوسلو، لكن كمنت فيها أيضًا نقطة ضعفه الرئيسة، إذ "أن القدرة على التخيّل هي شرط ضروريّ من أجل إحداث التغيير السياسيّ غير أنها غير كافية قطّ من أجل تحقيقه".
في الكتاب مفهوم نظري مخصوص يرى المؤلف، بموجبه، أنّ العنف المستشري هو تعبير عن "نسب القوى غير المتوازنة بين الكيانين الضالعين في النزاع"، كما أن "الديناميكية السياسية خاضعة للعلاقة المتبادلة بين تصورات الأوضاع والسيرورات، وبين الأوهام بشأن وجودها". والسؤال المركزيّ الذي يطرحه هو: ما الذي أجّج إمكان تخيّل عملية أوسلو باعتبارها سيرورة سلمية؟ ولماذا انهارت هذه العملية وأصبحت مجرّد وهم؟.
وفي نظر غرينبرغ، وفقًا لهذا المفهوم، فإنّ العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين تدور في رحى أو منظومة ثلاث دوائر متداخلة فيما بينها- الدائرة الداخلية الإسرائيلية والدائرة الداخلية الفلسطينية ودائرة العلاقات بين الطرفين. وفي وسع كل دائرة منها "أن تنفتح" أو "أن تنغلق" وبالتالي أن تؤدي، تبعًا لذلك، إمّا إلى التقدّم نحو حلّ النزاع، أو إلى كبح جماح تقدّم كهذا.
ويستعرض غرينبرغ في الكتاب أيضًا استمرار السيرورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعد أوسلو، ويتوقف بشكل خاص عند السيرورات الداخلية المستجدة في إسرائيل. ويشمل عرضه المحاور التالية: التغييرات الاجتماعية والسياسية التي أعقبت اغتيال إسحق رابين؛ التغييرات في مكانة الجيش الإسرائيلي الذي غيّر موقفه وبدأ يتدخل في الشأن السياسيّ؛ التخلي عن "طريق أوسلو" وترميم الوحدة الوطنية الإسرائيلية في الظاهر عقب تصدعها؛ القضاء على "مفهوم أوسلو" من طرف بنيامين نتنياهو ومن ثمّ إيهود باراك والتغيرات داخل حزب "العمل"؛ الانتفاضة الفلسطينية الثانية وصعود أريئيل شارون إلى سدّة الحكم؛ الانفصال عن غزة؛ والسيرورات المختلفة بعد الانفصال حتى الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية في العام 2006 وصولاً إلى اندلاع "حرب لبنان الثانية" وتأثيرها على العلاقات الفلسطينية- الإسرائيلية.
قدّم للكتاب أنطوان شلحت، من طاقم مركز "مدار"، فنوّه بمسألتين لافتتين فيه: الأولى- البعد الاقتصادي. في هذا الشأن يؤكد المؤلف أن عملية أوسلو كانت أيضًا نتيجة لتطلع النخب الاقتصادية والطبقة الوسطى في إسرائيل إلى "التطبيع" والاندماج في الاقتصاد العالمي و"القرية الكونية" (العولمة) وقطف ثمار ذلك، ولذا فقد أبدت الاستعداد لوضع حدّ للسيطرة العسكرية على الفلسطينيين التي مسّت بمكانة إسرائيل الدولية. بكلمات أخرى، فإن فتح حيّز سياسي للأجندة الاقتصادية لدى تلك النخب والطبقة الوسطى اقتضى فتح حيّز سياسي أمام الفلسطينيين في المناطق المحتلة، وقد مسّ ذلك ببضع أساطير قومية مؤسسة مثل "أرض إسرائيل الكاملة" و"الأمن" [هنا لا يفوت المؤلف التنويه بأنه في الوقت الذي انفتحت فيه الأسواق العالمية في وجه التجارة والاستثمارات الإسرائيلية، فإن أوضاع الفلسطينيين الاقتصادية ازدادت تدهورًا واتسع نطاق جلب العمالة من العالم الثالث لتحل محل العمالة الفلسطينية، وذلك تماشيًا مع أجندة تلك النخب]. غير أن في الوقت نفسه انطوت عملية أوسلو على تهديد لشرعية مكانة النخب المذكورة في التراتبية الاجتماعية الإسرائيلية. هنا يكمن البعد الاجتماعي، وهو المسألة اللافتة الثانية، التي ينبغي أن نتوقف عندها. وهكذا سرعان ما اتضح أن السلام المتخيل بدأ يجبي ثمنًا سياسيًا آخر يتمثل في "الانحلال الداخلي" للمجتمع الإسرائيلي وهويته المشتركة، وينعكس ببريق ساطع في الخطاب العام.
يذكر أنّ ليف غرينبرغ هو من مواليد الأرجنتين (العام 1953) وقد هاجر إلى إسرائيل العام 1972 في إطار الهجرة اليهودية الأولى من أقطار أميركا اللاتينية. حصل على اللقبين الجامعيين الأول والثاني في علم الاجتماع والعلوم السياسية من الجامعة العبرية في القدس، وأكمل الدكتوراه في موضوع علم الاجتماع في جامعة تل أبيب، ويعمل محاضراً منذ العام 1991، وفي قسم "علم السلوكيات" في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع منذ العام 1994، ويعد مختصًا في علم الاجتماع السياسي وفي الاقتصاد السياسي ضمن النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني.
وقد برز اسمه أخيرًا عندما كان في مركز عاصفة جماهيرية في ربيع 2004، وذلك بعد أن نشر مقالة في صحيفة بلجيكية اعتبر فيها جريمة اغتيال الشيخ أحمد ياسين جزءًا "من خطوة كبيرة تنفذها إسرائيل وبالإمكان تسميتها إبادة شعب رمزية".